هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
صدر مؤخرا كتاب ضخم وأنيق في مجلدين تحت عنوان "ّالأدب السري لمسلمي إسبانيا الأواخر" الذي أعدته الباحثة والمؤرخة الكبيرة في جامعة بورتو ريكو بأمريكا اللاتينية لوثي لوبيث بارالت وترجمه 4 مختصين كبار لفائدة مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض الذي أعاد نشر الكتاب في تونس بالشراكة مع مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات بتونس التي يديرها المؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي.
الباحث في التاريخ والإعلام كمال بن يونس التقى عبد الجليل التميمي وحاوره لصالح "عربي21" حول هذا الكتاب ومسلمي الأندلس و"الأدب السري لمسلمي إسبانيا" بعد سقوط غرناطة عام 1492 ثم المجاز التي تعرضوا لها وتنظيم هجرات جماعية قسرية شملت مئات الآلاف من العرب واليهود فيما اظهر البقية أنهم غيروا ديانتهم واعتنقوا المسيحية وتمسكوا بإسلامهم أو يهوديتهم سرا (عرفوا بتسمية "الموريسكيين")..
وفي ما يأتي نص الحوار:
س ـ ما هي قصة هذا الكتاب الضخم الذي صدر في مجلدين وفي 1284 صفحة من الحجم الكبير، عن "الأدب السري لمسلمي إسبانيا الأواخر" بعد سقوط الأندلس؟
ـ بعد نحو 50 عاما من متابعة الدراسات والأبحاث في تاريخ الأندلس والموريسكيين والعثمانيين والعالم العربي الإسلامي أسجل أن هذا الكتاب هو أهم كتاب في تاريخ الأندلس.. وقد حقق في "الأدب السري" للمسلمين الموريسكيين الذين اضطهدوا بشراسة ووقع تهجيرهم قسرا بعد أن نكث الحكام الجدد لغرناطة والأندلس تعهدات أسلافهم باحترام حقوقهم الدينية والاجتماعية والقضائية..
أتوجه بالشكر الكبير للأستاذ يحيى بن جنيد ومؤسسة "مركز البحوث والتواصل المعرفي" في الرياض الذي دعمت ترجمة هذا الكتاب الضخم والثري الذي يقشعر البدن عند قراءته.. وأشكرها على تمويل طبعه وعلى التعاقد مع مؤسستنا لإعادة طبعه وتوزيعه مساهمة في نشر الحقائق وتنوير الباحثين والعلماء وصناع القرار في أوروبا والعالم الإسلامي والعالم أجمع حول تقلب المواقف في إسبانيا والأندلس والبحر المتوسط بين الانفتاح والحوار من جهة والقمع والاضطهاد للمخالف ثقافيا ودينيا من جهة أخرى.
وأحيي العلماء الأربعة الذين ترجموا الكتاب وقاموا بمراجعته الأساتذة محمد برادة ونادية العشيري وحسام الدين شاشية وياسر سرحان.
وأحيي مؤلفة الكتاب على هذا الجهد العلمي الضخم الذي سيؤثر في أفكار الباحثين والمؤرخين وقد يساهم في إعادة الاعتبار للحوار بين الثقافات والأديان بعد الكشف عما تعرض له الموريسيكون من اضطهاد رغم ما قدموه من معارف وخبرات للعالم.
علاقات المسيحيين والمسلمين في أوروبا
س ـ عرفت المؤسسات التي أشرفت عليها بالإضافات العلمية والثقافية التي قدمتها خلال نصف قرن في مجال الدراسات المغاربية والعثمانية والموريسكية.. كيف بدأت علاقتك بملف مسلمي إسبانيا والموريسكيين؟
ـ اكتشفت خلال مسيرتي الجامعية والعلمية شخصيات علمية فاعلة ووازنة من العالم الأورو ـ أمريكي أنجزوا مئات الدراسات المعمقة حول التاريخ الأندلسي وبصفة أخص حول المضاعفات الرهيبة للتهجير القسري للموريسكيين.
ومكنت تلك الدراسات في التعرف على جوانب مهمة من تراث مسلمي الأندلس بما في ذلك تراثهم الأدبي المخطوط والمبثوث عبر مكتبات العالم وتم دراستها بشكل موثق...
وهنا لا بد أن أنوه بشخصيتين بالعالم المرحوم لوي كاردياك، أب الدراسات الموريسكية بجامعة مونبيليي Montpellier الفرنسية وجامعة الأرجنتين والذي ربطتني به علاقات تقدير متبادل منذ تعرفت عليه عام 1973 وحتى وفاته عام 2017.
وقد أهداني رسالته الجامعية بعنوان "الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية" فقمت بتعريبها واكتشفت بقوة ملف مأساة الموريسكيين الأندلسيين وهي بحق أهم رسالة جامعية.
وبعدئذ قمنا بدعوته لتونس ومنحه الدكتوراه الفخرية، كما أعددنا كتابا تكريما له، اعترافا بدوره الطلائعي في الدراسات الموريكسية عبر العالم وتقديرا لمعاناة مسلمي إسبانيا وإضافاتهم عالميا وفي شمال إفريقيا وتركيا خاصة.
وقد تأثرت كثيرا كذلك بمؤلفة هذا الكتاب الضخم عن "الأدب السري لمسلمي إسباينا الأواخر" الباحثة القديرة في جامعة بورتوريكو الأمريكية لوثي بوبيث بارالت.
تعد السيدة لوثي إلى اليوم من أبرز الشخصيات إشعاعا وتوفيقا في مسيرتها الجامعية الفريدة والتي تناغمت فيها صفاتها كباحثة متميزة وانفتاحها على الأجيال الصاعدة ووضوح الرؤية لديها وإيمانها المطلق وعزيمتها القوية بوضع تعاليم الحوار الحضاري موضع التنفيذ، بقطع النظر عن اختلاف اللغات والثقافات والأديان والإيديولوجيات السياسية أو غيرها لذلك فإن كل الأساتذة الجامعيين من أمريكا وأوربا والعالم العربي-الإسلامي يكنون لها تقديرا عاليا وعميقا للعمل الجاد الذي أنجزته.
وللتذكير ببعض ما عرف عن الأستاذة لوث، أنها قد دعيت من قبل جميع مخابر ومراكز وجامعات العالم المهتمة بمبحث الموريسكولوجيا، وحتى من تلك التي وصلت إلى علمها مدى تخصصها المتميز حول الأدب الألخميادو ـ الموريسكي، وقد قدمت المحاضرات حول ذلك وعملت على تفعيل حلقات الملتقيات وبرز تميزها وقدرتها الفائقة للاستماع للآخرين، الأمر الذي ساعدها على تصيد الجيل الجديد من الباحثين والمريدين وتشجيعهم وتكوينهم وتوجيههم.
إن المخبر الذي أنشأته بجامعة بورتو ريكو يضم اليوم أكثر من إثنين وعشرين باحثا وهم المهتمون بالمصادر الوثائقية عن الأدب الألخميادو، في حين أهملت الجامعات العربية والإسلامية مثل هذا الاختصاص وهو ما يؤكد ما قامت به الأستاذة لوث لوباث بارلت إزاء هذا التخصص الذي أصبح اختصاصا قائما بذاته على الصعيد الدولي.
محاكم التفتيش في أوروبا وأمريكا اللاتينية
س ـ ماهي أهم إضافات كتاب "الأدب السري لمسلمي إسبانيا الأواخر" والمؤرخة لوثي لوبيث بارالت؟
ـ تعتبرالأستاذة لوث من بين أحفاد "المويسكيين" الذين تعرضوا إلى المضايقات واضطهاد "محاكم التفتيش" من بين الإسبان الذين هاجروا إلى أمريكا اللاتينية.. فضلا عن أولئك الذين بقوا في أوروبا أو وقع تهجيرهم إلى بلدان شمال إفريقيا وتركيا..
وقد انتمت الأستاذة لوث لوبيث بارالت إلى عديد الهيئات العلمية الدولية وساهمت في تفعيل أنشطتها ولعل انتخابها نائبة لرئيس الجمعية العالمية لدارسي اللغة والآداب الإسبانية وكذا نائبة لرئيس اللجنة العالمية للدراسات الموريسكية بتونس منذ سنة 1983.
وبذلك ساهمت في تنظيم المؤتمرات الدولية الثمانية عشر حول الدراسات الموريسكية والتي نظمتها مؤسستنا في مقرها الأول بمدينة زغوان (50 كلم جنوبي العاصمة تونس).
وقد سعت الأستاذة لوثي منذ حوالي 40 عاما لإرساء تعاون علمي بين جامعة بورتو ريكو ومؤسستنا في مجال النشر العلمي المشترك وتسهيل مشاركة الجيل الجديد من الباحثين البورتو ـ ريكيين في مؤتمرات الدراسات الموريسكية والتي نظمتها مؤسستنا في جامعات تونس وخارجها.
ومن خلال مسيرتها الجامعية تمكنت الأستاذة لوث لوباث بارلت من اكتشاف العديد من المخطوطات الأصلية بأهم مكتبات أوروبا وتركيا وبعض البلدان العربية، وهي الاكتشافات التي كانت وراء نشرها لعدد من الأعمال الأكاديمية المتميزة جدا، ونشرت تلك الأعمال بالإسبانية والأنقليزية والفرنسية.
كما تمت ترجمة بعض هذه الأعمال إلى العربية والإيطالية والفارسية والأردية والألمانية وجميعها تناولت أندلس التسامح والتعايش والحضارة الإنسانية في أجمل وأبهى عطائها الغزير، دون أن يخفى لديها المأساة الرهيبة التي حلت بالموريسكيين الأندلسيين حيث توقفت كثيرا عند الدلالات والرموز لإنتاجهم الأدبي باستعمالهم اللغة الألخاميادية للتعبير عن مأساتهم الرهيبة وما حل بهم من تنكيل، يعجز الباحثون اليوم عن وصفه، عندما قامت دواوين محاكم التفتيش خلال القرن السادس عشر بإسبانيا وأمريكا اللاتينية بملاحقتهم أفضع وأشنع الملاحقات ونكلت بهم ومارست تجاههم آليات التعذيب النفسي والحضاري وإهدار مقوماتهم وذاتيتهم وشخصيتهم وأحرقت تراثهم الفكري في الساحات العمومية وذهبت إلى أكثر من ذلك إلى تصفية وجودهم المادي، في محاولة للقضاء نهائيا على وجودهم الحضاري بالأندلس وعلى جميع المستويات.
وعليه يمكن اعتبار الأستاذة لوث لوباث بارلت رمزا للصمود والشجاعة الأدبية ووضوح الرؤية والإخلاص للقيم العالمية والتي جعلت منها ولا شك أستاذة الأساتذة ونموذجا مشرفا للجامعة والجامعيين الفاعلين والمجددين للبحث العلمي خاصة فيما يتعلق بالتنويه بقيم التسامح والتعدد والحوار في الاندلس والتوقف عند مظاهر التعسف الذي كرسته "محاكم التفتيش" بعد انهيار دول العرب والمسلمين في كامل إسبانيا أواخر القرن 15.
"الأدب السري" رسالة للعالم العربي الإسلامي
س ـ ما هي الرسالة من نشر كتاب "الأدب السري لمسلمي إسبانيا الأواخر" اليوم؟
ـ الحقيقة أنه أثناء مسيرتها العلمية أحاطتني الأستاذة لوث علما بأنها نشرت مؤخرا كتابا بعنوان: "الأدب السري للموريسكيين الأندلسيين"، وأهدتني نسخة منه في 800 صفحة، ولدى تصفحي لهذا الإنجاز البحثي الضخم، أدركت تماما مدى قيمة هذه المدونة الاستثنائية التي ضمت مئات الهوامش الببليوغرافية وعشرات الخرائط. وكلما قابلتها بتونس أو ببورتوريكو إلا وأثارت معي مدى تعلقها وحرصها الشديد وحبها العميق للمبحث الموريسكولوحي لتنوير الباحثين وصناع القرار.
وقد أكدت لي صاحبة هذا المؤلف الضخم أنها تعتز تماما لتحرير تأليفها الجديد والذي تعتبره صفحة مشرفة لاهتمامها المبكر لمبحث الموريسكولوجيا منذ أربعة عقود، وهي رسالة موجهة أيضا إلى العالم العربي ـ الإسلامي بوجوب الاهتمام الجدي بتاريخم في الأندلس.
وأعتقد أنه من المخجل حقا أن لا يولي العرب المسلمون عناية واهتماما بإيلاء تاريخ الأندلس كل الأهمية، وهذه رسالة حضارية نوجهها للتذكير ليس فقط للمتخصصين الأوروبيين ـ الأمريكيين، ولكن لكل الباحثين والعلماء وصناع القرار في العالم العربي والإسلامي.
وعلى ضوء ذلك حاولت جاهدا منذ عدة سنوات تعريب هذا الإنجاز البحثي الفريد، وهذا انطلاقا من اهتمامي بتشجيع الجيل الجديد من المغاربيين والعرب المسلمين في هذا التخصص وقد وفقنا بعض الشيء عندما نشرنا أكثر من 800 دراسة أكاديمية وتنظيم 18 مؤتمرا دوليا وتفضل عشرات الباحثين الأورو-أمريكيين بتكريمنا وإعداد كتاب تكريمي لشخصنا المتواضع.
وبالرجوع إلى علاقتي العلمية مع أحد أبرز علماء المملكة العربية السعودية وأعني به هنا د. يحيى بن جنيد (مركز البحوث والتواصل المعرفي) المهموم بملف الموريسكيين عندما منح هذا الاختصاص أهمية خاصة في سلسلة اهتماماته طوال عقود كاملة، ومن جهة أخرى كان د. يحيى يواكب وبدقة أنشطتنا في تونس وفي غيرها من البلدان وكان يبارك مثل هذه الأنشطة ويدعونا إلى تكثيفها.
ومن هذا المنطلق اقترحت عليه القيام بتعريب هذا الكتاب الجديد عن الموريسكولوجيا. وقد وجدت دعوتي قبولا تلقائيا واستعدادا لتحمل مركز البحوث والتواصل المعرفي تكلفة التعريب والطباعة.
سعدت بهذا الموقف المشرف والجدير بالتنويه حقا. وقد شرعنا منذئذ بالتنسيق مع الزميل د. رضا مامي لاختيار المترجمين من الفضاء المغاربي، والمختصين بالملف الموريسكي، وعلى ضوء نصيحته اقترح علي د. رضا مامي الأستاذين د. نادية العشيري ود. محمد برّادة من جامعة فاس من المملكة المغربية الشقيقة وأحطناهما علما بكل حيثيات الملف ووضعنا صيغة اتفاق بين المترجمين وجدت قبولا من د. يحيى بن جنيد وهذا ما تم، لانطلاقة فعلية للترجمة.
وقد لاحقت المترجمين بالكتابة والهاتف أسبوعيا حاثا إياهما مدي بكل فصل يتم تعربيه.
ولا أكتم القارئ سرا أني استمتعت بقراءة الفصول الأولى التي وصلتني من هذا الإنجاز واكتشفت المؤلفة من جديد من خلال استيعابها المطلق للدراسات الغربية والأمريكية عن العرب ـ المسلمين والتي عمقت فهمنا وإدراكنا الحقيقي لهاته المأساة التي عاشها أجدادنا من الأندلس وهي بذلك قد رفعت الشعور بالتقصير والإهانة للظلم الحضاري الذي ألحقناه بهم نحن العرب المسلمون أحياء وأمواتا.
ولا شك لدي أن هذه الترجمة سوف تسد فراغا معيبا بل ومخجلا مؤملين من رؤساء الجامعات العربية والإسلامية أن يكفّروا عن ظلمهم البالغ بالاعتناء بنقل المئات، نعم أقول المئات من التآليف الأكاديمية والتي نادينا منذ عقود أربعة بتعريبها وفاء وتقديرا للماضي الأندلسي المجيد ولكن لم يرد علينا أحد.