بينما تقاوم أوكرانيا الغزو الروسي
وظهرها للجدار على مدار أكثر من ثلاث أسابيع، فإنها لا تملك إلا الاستمرار في
مقاومتها على ضعف إمكانياتها العسكرية أمام القوات الروسية وأطماع
بوتين؛ لأنها
تعِي معنى سقوطها.
فأوكرانيا الدولة الشابة التي نشأت علي أطلال تفكك الاتحاد
السوفييتي عام 1991، رغم أنها لا تملك ثقلا اقتصاديا وسياسيا عظيما، إلا أنها ذات
أهمية استراتيجية لا يمكن إهمالها لكل من
روسيا والغرب في صراعهما على مناطق
النفوذ.
ولا شك أن
الحرب الروسية على أوكرانيا لم تكن وليدة اللحظة
أو حدثاً عابراً، فمن يتتبع الأحداث يدرك أن بوتين قد خطط طويلاً قبل أن يقدم على
غزو أوكرانيا. فبعد الاجتياح الروسي لجورجيا عام 2008 وضمه لشبة جزيرة القرم عام
2014، كان واضحا أن بوتين يتقدم بخطى استراتيجية مدروسة وقرارات تحضيرية معدة
سابقاً لاجتياح أوكرانيا، ولذلك لم يمنع التنديد العالمي -بخاصة الغربي- بوتين من
بسط سيطرته لاحقا على منطقتي دونيتسك ولوهانسك.
ولم يكن بوتين رجل المخابرات المخضرم، وصاحب الرؤية
الاستراتيجية المبنية على المعطيات العالمية، ليقدم على مثل هذه الخطوة التصعيدية
بغزوه لأوكرانيا دون دراسة كل المآلات التي قد تؤدي إليها.
بدا ذلك واضحا من استخدام بوتين لكل أدواته الاستراتيجية،
بدءاً من تكراره مصطلح النازيين الجدد في وصفه للسلطات الأوكرانية، واستدعائه
لاضطهاد الموالين لروسيا من قبلها كما ذكر في خطابه، ولم يغفل عن تذكير العالم
بجرائم أمريكا واتخذها قرار غزو العراق وأفغانستان بحجة تحريرهما ومحاربة الإرهاب
وسط رفض العالم، وذكَّر أوروبا بأسباب دخولها طرفاً في الحرب اليوغوسلافية. ثم إنه
استدعى التاريخ المشترك بين روسيا وأوكرانيا وعظّم من قيمة كييف التاريخية لروسيا
وله شخصياً، بعاطفية يحسد عليها كرجل مخابرات!
بوتين الذي حرص على عدم استخدام القوة الشاملة في بداية
الحرب، في محاولة لاستكمال المشهد العاطفي الذي أداه في خطابه، ومحاولاً استعطاف
الشعب الأوكراني وتحقيق انتصار سريع، لم يستطع أن يتخلى عن عنجهيته.
بعد أن فقد الأمل في كسر وحدة الشعب والسلطات الأوكرانية
في مواجهته، قام بتدمير المدن واستهداف المنشآت المدنية لتحقيق أهدافه الأولية،
وفرض شروطه عليها، وأولها وقف تمدد حلف الأطلسي على حدود روسيا، وإعلان أوكرانيا
دولة "محايدة"، ووضع حكومة موالية للكرملين بما يساعده على إنهاء النخبة
السياسية والثقافية الأوكرانية الموالية للغرب وإنهاء عمل المجتمع المدني، في خطوة
أساسية لتحقيق طموحه وإعادة المجد السوفييتي السابق من بوابة أوكرانيا، بإلحاقها
بروسيا، جغرافيا إن استطاع ذلك، أو بترسيم سلطة موالية له فيها على غرار بيلاروسيا.
الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي خذلا
أوكرانيا، وبدا نفاقهما في تخليهما عنها وتركها تواجه "العنجهية
البوتينية" وحدها. فالدعم الإنساني والاقتصادي لها كان ولا زال محدود الأفق
أمام الوعود الضمنية والصريحة التي أُعطيت لكييف، التي أملت في دعم أكبر بكثير.
ولا ننسى أنه في نهاية عام 1994 وقعت بريطانيا والولايات
المتحدة الأمريكية وروسيا وأوكرانيا مذكرة بودابست التي نصت على ضمان وحدة الأراضي
الأوكرانية مقابل تخليها عن ترسانتها النووية، ورغم ذلك لم تتحرك الولايات المتحدة
الأمريكية وبريطانيا جديا منذ ضم شبة جزيرة القرم أو سيطرة روسيا على منطقتي
دونيتسك ولوهانسك، بل حتى مع اجتياح بوتين لأوكرانيا لم تتدخل أي منهما، على الأقل
لحماية الضمانات التي قدمت من جانبهما في مذكرة بودابست ووقف انتهاك بوتين لها.
كييف أدركت الموقف الغربي سريعاً، فلم تطلب مساندة عسكرية
غربية بل أرادت فقط عزلا اقتصادياً شاملاً لروسيا، وفرض حظر جوي على أجوائها،
انتظاراً لضمها لحلف الأطلسي "الناتو" والاتحاد الأوروبي إذا استطاعت أن
تخرج من هذه الحرب وتصد الغزو الروسي. وحتى هذا لم يتحقق لها، فلقد اعتمدت
الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية تصاعدية على روسيا،
اكتفيا بها تاركين أوكرانيا وحدها في مواجهة الآلة العسكرية الروسية.
وحتى تلك العقوبات الاقتصادية لم يتفق عليها الغرب كلها،
بل اختلفت من دولة لأخرى، فبينما تأخذ الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا موقف
حاداً ضد روسيا، وتصعدا سريعا في هذه العقوبات، فإن فرنسا تتعامل بنبرة هادئة، عبر
دعوتها للحوار وأنها على تواصل دائما مع كل من بوتين وزيلينسكي، فيما يبدو الموقف
الألماني ضبابياً، فمن ناحية تدعو ألمانيا لتسليح أوكرانيا، ومن ناحية أخرى ترى
ضرورة الحوار مع موسكو. وأبقت كل من فرنسا وألمانيا على الغاز الروسي، رغم وقف
ألمانيا مشروع خط الغاز "نورد ستريم 2".
بين العنجهية البوتينية والنفاق الغربي، يبدو أن أوكرانيا
التي تعاني أصلا من انقسام عميق بين المناطق الغربية التي ترى مصلحتها مع الغرب
وقطعت شوطاً طويلاً في اتجاه الدولة القومية والتكامل معه، بما يقطع عودتها إلى
الحضن الروسي كما يطمح بوتين، والمناطق الشرقية التي ما زالت تدين بالولاء لموسكو
وتجد مصلحتها مع روسيا، ليس لديها كثير من الأوراق الرابحة، لذلك قد يكون أحد
السيناريوهات التي تنهي هذه الحرب هو تقسيم أوكرانيا بين الطرفين ولو في إطار
الفيدرالية.
كما أن عودة الحرب الباردة بين الغرب وروسيا هي سيناريو
يرجحه بعض المحللين السياسيين.
وشخصيا، لا أستبعد التفافا استراتيجيا لأوروبا تقوده كل من
ألمانيا وفرنسا لحل أكثر طموحا، لكنه أكثر فائدة لأوروبا بضم روسيا وأوكرانيا
للاتحاد الأوروبي، وإن تطلب ذلك تغييرات سياسية في روسيا قد تصل لتغيير سيد
الكرملين نفسه.