كشفت آثار الغزو الروسي لأوكرانيا المتمثلة في ارتفاع أسعار الحبوب عالميا، عن مدى الانكشاف العربي غذائيا، في ضوء تدني نسب الاكتفاء الذاتي من أنواع الأغذية الرئيسية، وما ترتب عليه من ارتفاع أسعار
الغذاء في الأسواق المحلية، والذي تفاقم أثره الاجتماعي والسياسي، خاصة أنه يجيء بعد موجتي ارتفاع للأسعار العالمية، بعد كورونا وارتفاع الطلب عقب التعافي الجزئي من الفيروس، وما صاحبه من ارتفاع تكلفة الشحن البحري ونقص الحاويات واضطراب سلاسل التوريد، لتجيء نسب فقر مرتفعة، مع الارتفاع الأكبر بأسعار الطاقة بعد أزمة أوكرانيا، مما فاقم في مشكلة التضخم، خاصة في دول النزاعات الأهلية مثل اليمن وسوريا والعراق وليبيا والصومال، مما يؤثر على الأحوال الصحية للسكان نتيجة عدم الحصول على الاحتياجات الغذائية الضرورية.
وفيما عدا الدول العربية البترولية، تعاني غالبية الدول العربية من عجز بالموازين التجارية، مما يصعب عليها تدبير النفقات اللازمة لاستيراد كميات الغذاء المكافئة لاحتياجات السكان، إلى جانب عجز موازنات غالب تلك الدول، مما يجعل إمكانية استمرارها في تقديم الدعم الغذائي أمرا غير مستطاع، في ضوء كبر حجم الدين العام واقتطاع تكلفة هذا الدين الجزء الأكبر من مصروفات الموازنة، إلى جانب تشديد صندوق النقد الدول على خفض الدعم للدول العربية التي قام بإقراضها أو يفاوض لإقراضها.
تصبح مسألة إعادة الإعتبار لقضية الإنتاج ذات أولوية على ما عداها من اهتمامات الأنظمة العربية، بعد أن أصبحت صرخات الجوعى تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي بها، كما تسحب الشرعية بشكل عملي عن تلك الأنظمة، التي أغلقت المجال السياسي والحريات وفتحت السجون للمعارضين، مقابل توفير لقمة العيش بأسعار مناسبة للمواطنين، بينما هي تعجز عن توفير تلك الاحتياجات الغذائية
من كل ما سبق تصبح مسألة إعادة الإعتبار لقضية الإنتاج ذات أولوية على ما عداها من اهتمامات الأنظمة العربية، بعد أن أصبحت صرخات الجوعى تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي بها، كما تسحب الشرعية بشكل عملي عن تلك الأنظمة، التي أغلقت المجال السياسي والحريات وفتحت السجون للمعارضين، مقابل توفير لقمة العيش بأسعار مناسبة للمواطنين، بينما هي تعجز عن توفير تلك الاحتياجات الغذائية الأساسية، بأسعار تتناسب مع دخول غالبية السكان.
معوقات للإنتاج وحوافز للأنشطة غير الإنتاجية
لذا على تلك الدول أن تعيد قضية الإنتاج للصدارة، لا نقول لتحقيق الاكتفاء الذاتي لأن هذا يحتاج لوقت أطول، ولكن لخفض نسب الانكشاف الغذائي تدريجيا، وهو ما يدخل في مجال الأمن القومي، سواء بالمنتجات الزراعية أو الصناعية الأساسية. ولا تقتصر الزراعة المطلوبة على داخل البلدان وإنما تتخطاها إلى الزراعة بالدول الأخرى، ولو بالمشاركة والحصول على حصة من الإنتاج.
وهو أمر لن ترضى عنه الدول الغربية والشرقية، والتي تريد أن تظل الدول العربية أسواقا مفتوحة لمنتجاتها، لذا ستثير الغبار حول قضية الإنتاج، سواء من خلال التعطيل المباشر من قبل التنفيذيين، أو إثارة الأزمات المفتعلة المتكررة لإلحاق الخسارة بالمنتجين وإبعادهم عن مجال الإنتاج، أو من خلال المفكرين والاقتصاديين المروجين لأفكارها المدافعين عن مصالحها، حتى لو تعارضت مع مصالح مواطنيهم.
وإلى جانب الدول سواء تفاعلت مع قصية الإنتاج، أم استمرت في التسويف لمواجهة هذا الملف الاستراتيجي، يظل دور القطاع الخاص حيويا وفعالا وهو الأكثر تحررا من البيروقراطية، وسعيا لتحقيق الربح، كي يمثل الإنتاج الزراعي والصناعي نسبة أكبر من استثماراته، على حساب أنشطة أخرى مثل العقار والخدمات والسياحة ونحو ذلك.
يظل دور القطاع الخاص حيويا وفعالا وهو الأكثر تحررا من البيروقراطية، وسعيا لتحقيق الربح، كي يمثل الإنتاج الزراعي والصناعي نسبة أكبر من استثماراته، على حساب أنشطة أخرى مثل العقار والخدمات والسياحة ونحو ذلك
وهنا سيكون الخيار لديه صعبا بين
الاستثمارات المالية التي تحقق له عوائد سريعة، شبه معفاه غالبا من الضرائب، مقابل فترة انتظار أطول لجني العوائد قد تصل إلى عدة شهور لحصاد المحصول الزراعي، أو لعامين أو ثلاثة لإتمام المشروع الصناعي، إلى جانب أشكال الجباية والضرائب والمعوقات البيروقراطية، ومشاكل النقل والتخزين ونسب الفاقد والمنافسة.
لذا من الحكمة إعطاء القطاع الخاص بعض الوقت كي يرتب أموره، كي يصبح الإنتاج الزراعي والحيواني والصناعي أحد مكونات نشاطه، والتي يرفع نصيبها النسبي من أنشطته تدريجيا، خاصة أنها مجالات مخاطرها أعلى، فظهر وباء يمكن أن يقضي على غالب الثروة الحيوانية التي تتم تربيتها سواء في مجال الدواجن أو الماشية، ونقص المياه يمكن أن يلحق الضرر بالإنتاج الزراعي.
مبدأ الربح السريع يهدد الدخول بالإنتاج
ويمتد المجال إلى الأفراد الذين لديهم فوائض باستثمارها في مشروعات زراعية أو صناعية، سواء بأنفسهم عند توفر الخبرة والإمكانية المادية، أو من خلال معارفهم من أصحاب تلك الخبرة وتتوافر فيهم الثقة والكفاءة، أو من خلال شركات الاكتتاب العام التي تنشأ للاستثمار في المجالات الزراعية أو الصناعية، أو الشركات التي تطرح أسهما لزيادة رؤس أموالها لتوسيع النشاط أو تعيد هيكلة ديونها، وليس بشراء أسهم الشركات الزراعية والصناعية القائمة بالبورصات.
لا يجب أن ينظر الأفراد المستثمرون بشكل أناني لتحقيق مصالحهم الشخصية فقط، بل يجب أن تكون الأهداف العامة والمجتمعية، موجودة إلى جانب الأهداف الشخصية ولو بدرجة أقل، فالاستثمار بمجال الثروة الحيوانية أو الزراعية مثلا، سيزيد من الإنتاج المحلي من تلك السلع
وهو أمر ليس سهلا في ظل انتشار ظاهرة الكسب السريع، لدرجة الشراء والبيع للأسهم في نفس يوم الجلسة الواحدة، وجني حصاد تلك المكاسب، وكذلك انتشار مجالات تسقيع الأراضي أي شراءها وتركها لسنوات ثم إعادة بيعها دون أي إضافة عليها والحصول على فارق السعر، أو السمسرة سواء في الأراضي أو العقارات أو غيرها، والتي تحقق مكاسب ضخمة دون جهد كبير، إلى جانب اكتناز الذهب والتجارة بالعملات الأجنبية.
وكلها مجالات لا تضيف كثيرا للقدرات الإنتاجية للبلد، لذا لا يجب أن ينظر الأفراد المستثمرون بشكل أناني لتحقيق مصالحهم الشخصية فقط، بل يجب أن تكون الأهداف العامة والمجتمعية، موجودة إلى جانب الأهداف الشخصية ولو بدرجة أقل، فالاستثمار بمجال الثروة الحيوانية أو الزراعية مثلا، سيزيد من الإنتاج المحلي من تلك السلع ولو على مستوى النجع أو الكفر أو القرية أو المركز الإداري، وهذا من شأنه خفض السعر لتلك السلع بهذا النطاق الجغرافي المحدود.
وكون أسعار تلك السلع المُنتجة في متناول قدرة السكان المحليين، سيساعد على إقتناءها وسيحسن من الصحة العامة لهم، كما سيزيد من قدرتهم على العمل والإنتاج في المجالات التي يعلمون بها، وكل ذلك يزيد من درجة السلام الاجتماعي وتقليل معدلات الجريمة بأنواعها من رشوة وسرقة وخطف ونصب وتحايل وقتل.
توجد معوقات بيروقراطية من قبل الجهات المحلية وصورا متعددة من الجباية، كما أن العوامل الذاتية أصبح لها مكان الصدارة في اتخاذ القرارات، فما بالنا بالقرار الاستثماري المتعلق بالمال، سعيا لتخطي معدل التضخم الذي يزيد عن المعدلات الرسمية المعلنة، والحفاظ على أصل المال الذي يتآكل
والأمر ليس بتلك السهولة، حيث توجد معوقات بيروقراطية من قبل الجهات المحلية وصورا متعددة من الجباية، كما أن العوامل الذاتية أصبح لها مكان الصدارة في اتخاذ القرارات، فما بالنا بالقرار الاستثماري المتعلق بالمال، سعيا لتخطي معدل التضخم الذي يزيد عن المعدلات الرسمية المعلنة، والحفاظ على أصل المال الذي يتآكل سواء بسبب التضخم أو بسبب الزكاة.
لكن رغم صعوبة القضية، سواء على مستوى النظم الحاكمة أو على مستوى رجال الأعمال والأفراد، تظل المخرجات الناتجة عن البدء بها مهما كانت محدوديتها، من حيث حجم الإنتاج أو فرص التشغيل التي أتاحتها، أفضل من الاستمرار في الاعتماد على الاستيراد، والذي تأخذ أسعاره موجات صعود وهبوط، تجني الدول الأجنبية ثمار صعودها مكاسب كبيرة، كما تقضي على المشروعات الوليدة بالدول النامية خلال موجات انخفاضها.