آراء ثقافية

رجُل الله: قراءة في نص مسرحية غابرييل مارسِل

الفيلسوف الفرنسي غابرييل مارسِل
الفيلسوف الفرنسي غابرييل مارسِل
"إنها هذه الحياة المثالية. أجَلْ. هذه الصرامة والاستقامة هي التي تقلقُني. إنَّ هذا كُلَّه على ما أتوهَّمُ ليس إلا نوعًا من النَّوم. ويُخيَّلُ إلَيّ أحيانًا أنَّ زوجتَك تنامُ حياتَها."

تأتي هذه الجملة على لسان شخصية الطبيب (فرانسيس ليموان) أخ بطل المسرحية القسّ (كلود ليموان) خلال المنظر العاشر من الفصل الأول. كتبَ الفيلسوف الفرنسيّ الكبيرُ (مارسِل) هذا النّصّ "Un Homme de Dieu" سنة 1925، أي منذ حوالَي قَرنٍ، ويقولُ أستاذنا الناقد الكبير الراحل د. محمد مندور في المقدمة الضافية التي كتبَها للترجمة العربيةِ التي أنجزَها أستاذنا المرحوم فؤاد كامل للنَّصّ، إنّ (مارسِل) قد كتبَها في فترة شكِّه، أي قبلَ عودتِه للإيمان المسيحيّ عام 1929.

تدورُ الأحداثُ باختصارٍ حولَ القسّ والواعظ الناجح (كلود) المتزوّج مِن (إدميه)، وله منها ابنةٌ شابّةٌ هي (أُسموند). تسير حياةُ الأسرةِ على وتيرةٍ هادئةٍ، لكن ما تلبثُ الأحداثُ أن تُسفِرَ عن سِرٍّ قديمٍ في حياة الزوجَين، حيث يتقرّبُ من (فرانسيس) رجُلٌ يُدعَى (ميشيل ساندييه)، مريضٌ مرَضًا لا يُرجَى بُرؤُه ومُوشِكٌ على الموتِ خلالَ فترةٍ وجيزة. يطلُبُ (ساندييه) من (فرانسيس) أن يقدِّمَه إلى أسرةِ أخيه ليَرى (أسموند). وهنا نكتشفُ أنّ (ساندييه) كان عشيقَ السيدة (إدميه) في الفترة الأولى من زواجِها، وأنه والِدُ (أسموند) الحقيقيُّ، ونعرفُ أنّ القسَّ (كلود) كان قد اكتشفَ تلك العلاقةَ الآثمةَ مبكِّرًا، وتجاوزَ عنها، وطلبَت منه امرأتُه الصَّفحَ فصفحَ عنها، ورَبَّى المولودةَ باعتبارِها ابنتَه. وفوق ذلك، وعدَ (كلود) امرأتَه بألّا يُفشِيَ هذا السِّرَّ لمخلوقٍ، لكنّها في خِضَمِّ عودةِ (ساندييه) تكتشفُ ممّا يدورُ من نقاشاتٍ بينها وبين (فرانسيس) وحماتِها أنَّ (كلود) قد أخبرَهما مبكِّرًا جدًّا بذلك السّرّ ففضحها أمامهما. بالطبع لا تعرفُ الابنةُ (أسموند) شيئًا من ذلك.

ومع عودة (ساندييه) تتأزّم العلاقةُ بين القسِّ وامرأتِه ويفتحان دفاترَ الماضي، لا سيَّما بعد أن يتحدثَ العاشقان القديمان على انفرادٍ عن ملابساتِ انتهاء علاقتِهما. تعاتبُ (إدميه) زوجَها على صَفحِه عنها، زاعمةً أنه إنما فعلَ ذلك لكي يُحافِظَ على سُمعتِه أمام الناسِ، أو ربّما لاعتباراتٍ دينيّةٍ تتعلّق بفضيلةِ الصفح، لكنه لم يُحِبَّها أبدًا، ولم يكن دافعُه إلى الصفح هو الحُبّ. ويدفعُ هذا التأزُّمُ القسَّ إلى أن يواجِهَ نفسَه، تلك النفسَ التي يكتشفُ أنه لم يعرفها أبدًا حَقَّ المعرفة ولم يَخبُر ما في أعمق طبقاتِها المُظلمة من نوازع ودوافع.

ومن ناحيةٍ أخرى تتأزّم العلاقةُ بين الزوجَين و(أسموند) التي تثورُ على التقاليدِ وتَقبَلُ أن تكون مربِّيةً لابنتَي الجارِ (ميجال) الذي أُودِعَت زَوجُه مصحّة الأمراض العقلية ولا يُرجَى بُرؤُها هي الأخرى فأصبحَ في حُكم الأعزب أمام المجتمع. وفي نوبة غضبٍ عظيمٍ يُجابه (كلود) الابنةَ الثائرةَ ويفاجئها بقَولِه إنس ليس أباها، فتستنتِجُ هي أنَّ (ساندييه) الذي زارَ الأُسرةَ قريبًا هو الأبُ الحقيقيّ.

توشِكُ الأسرةُ أن تنهارَ، فأسموند تقرر أن تهجُرَ البيت إلى بيتِ ميجال، والقسُّ يقولُ: "عندما أفكر في الله أشعرُ بنفس الشعور. كنتُ أعتقِدُ أنه يتحدثُ إليَّ أحيانًا. وربما لم يكن ذلك غير نشوةِ انجذابٍ كاملة. مَن أنا؟ عندما أسعى لغدراك نفسي أُفلِتُ دائمًا من نفسي." فهو قد فقدَ يقينَه تمامًا.

وبينما هم في ذلك التصدُّع تباغِتُهم زيارةُ الآنسة (أوبونو) والصغير (رينيه)، حيث نكتشفُ أنَّ والدةَ (رينيه) الفقيرَةَ مِن بين مَن يرعاهم القسُّ (كلود) وامرأتُه (إدميه)، وقد ساعداها بإسكانِها في دار راهباتٍ، كما أنَّ (أسموند) هي عرّابةُ (رينيه) أي أمُّه بالتعميدِ، تتولى رعايتَه. وتنتهي المسرحية بأن تقولَ (إدميه) لزَوجِها: "انظُر! هذا ما ينبغي أن نعيشَ من أجلِه في الوقتِ الحاضر!" فيردّ (كلود) غارقًا في أفكارِه: "أن يُعرَفَ المرءُ على ما هو عليه!"

هكذا يحاول فيلسوفُنا (مارسِل) أن يختبرَ الوجود الإنسانيَّ في موقفٍ ضاغطٍ يكشفُ للرجُل المتوافِقِ مع أعرافِ مجتمعِه المتمتِّع بطُمأنينةِ التديُّن عن أعماقِ نفسِه.

والحَقُّ أنني لا أرى في النصّ إلحادَ (مارسِل) الذي يُفترَضُ أن يكون مهيمنًا على الفترة التي أنجزَ فيها هذا النَّصَّ كما أكَّد أستاذنا (مندور)، وإنما أرى نفاذَه إلى حقيقةِ الإيمانِ الدِّينيِّ وما يُمليه على المؤمن.

في تصوُّري أنَّ (سارتر) لو كان هو من نسجَ خيوطَ هذا النصِّ لأنهاه بتفسُّخ الأسرة، ولكان (كلود) عقدَ العزمَ على الاستقالة من السِّلك الكنَسِيِّ، ولقررت (إدميه) أن تكون إلى جوار (ساندييه) إلى آخر لحظة. لو كان (سارتر) لما ظهرَت لنا الآنسةُ (أوبونو) والصغيرُ (رينيه) مِن عُمقِ الحياةِ المسيحيّة المُفعَمةِ بأعمالِ المواساةِ والبِرِّ، تلك الحياةِ التي كانت الأسرةُ تحياها مطمئنّةً قبلَ عودةِ (ساندييه) المفاجئة، لتُعيدَ الزوجَين إلى جادَّةِ الطريقِ التي ارتضياها لنفسَيهما مِن البداية. إنّ نهايةَ المسرحيةِ تضعُنا أمامَ إصلاحيّةِ الممارسة الدينية المؤمنةِ، في مقابلِ الانقلاب الثوريِّ الرافضِ الذي كان (سارتر) سيبشِّرُنا به لو كان هو المؤلِّف!

وبين ما يقولُه البطلُ (كلود) عن العشيقِ المريضِ (ساندييه) قبلَ ظهورِ (أوبونو) و(رينيه) مباشَرَةً: "إنه محظوظٌ لأنه سينتهي عمّا قريب." وحين تسألُه (إدميه): "ألا يُفزِعُكَ الموت؟" يجيبُها: "كلا. إنه الفرصة الوحيدة للإنسان، حتى ولو لم يكن بابًا يُفتَح." هنا يبدو لي أنه يعني أنّ الموتَ يضعُ الإنسانَ أمامَ حقيقتِه العرَضيّةِ، فهو كائنٌ محدَّدٌ بالموت ويعرفُ ذلك، والعدَمُ ركنٌ أساسيٌّ في بِناءِ وجودِه مِن هذا المُنطلَقِ كما يؤكِّدُ (هايدِغَر). وإزاءَ هذه العرَضيّةِ – وهي حقيقةُ الحقائقِ في مسألة الوجود البشريّ – تنفتِحُ الحقائقُ الأخرى المطمورةُ في النفسِ، فيتّضِحُ عبثُ كثيرٍ من مساعي الإنسان وما دأبَ على ترديدِه.

ولأنّ (كلود) في لحظةِ شَكٍّ، يعلِّقُ الحُكمَ على دَعوَى أنَّ الموتَ بابٌ يُفتَح، فالموتُ بابٌ يُفتَحُ فقط في الأنساقِ العَقَدِيَّةِ التي تؤمنُ بحياةٍ بعدَ الموت، حيثُ تتحوَّلُ الحياةُ الدنيا فيها إلى مزرعةٍ للآخرةِ كما في المأثور الإسلاميّ. أمّا في الوجوديّة المُلحِدة فالموتُ بابٌ على العدمِ فحَسبُ، لكنّ المُشتَرَكَ في النَّسَقَين أنّ الموتَ يقينٌ محدِّدٌ للوجودِ الإنسانيِّ في هذه الحياة، وهو الذي يخلعُ على الحياةِ معناها ويؤطِّرُ قصّتَها المتناهية.

وإذا ما عُدنا إلى الاقتباسِ المُصدَّرِ به هذه القراءة السريعة، فسنَجِدُ فكرةَ أنّ "(إدميه) تنامُ حياتَها" بأن تتناسَى ما حدثَ في شبابِها من خطيئةٍ وتزرعَ نفسَها في عالَمِ البِرِّ والمواساةِ المسيحيِّ وتقتُلَ نوازِعَها الدفينةَ التي ربَّما كانت ستدفعُها إلى مغامرةٍ عاطفيّةٍ جديدةٍ مع رجُلٍ آخَرَ لو لم تقتُلْها بيدِها، سنجِدُ هذه الفكرةَ مشدودةً كوَتَرٍ قُربَ نهايةِ المسرحيّة بين طرَفَين، أحدُهما هو الثورةُ على هذا النوم بإيقاظِ كُلِّ تلك النوازِعِ الدفينةِ وتقليبِ الماضي ومحاكمةِ نَوايا الذاتِ والآخَر، والطرفُ الثاني هو تقريظُ هذا النومِ والمحافظةُ عليه بإهالةِ التُّرابِ على ما كَشَفَته لحظاتُ الثورةِ والغضبِ واليقظة، وهو ما تنتهي به المسرحيّة.

ومِن طريفِ ما استدعَته هذه الفكرةُ لديَّ مِن أفكارٍ، أنّ وصفَ (إدميه) بأنها تنامُ حياتَها، وهي الزوجُ البَرَّةُ الوفيَّةُ لعالَمِها المتديِّنِ، يتجاوبُ مع الوصف المتكرر في القرآنِ للنساء العفيفاتِ، خاصّةً في مَعرِضِ الحديثِ عن قذف المُحصَنات بتُهمةِ الفُجورِ، حيثُ ينعتُهنّ القرآن بقولِه "المُحصَنات الغافلات المؤمنات"، كأنه يمتدِحُ فيهنَّ الغَفلَة! وهي الغفلةُ ذاتُها التي فرضَتها (إدميه) على نفسِها أعوامًا طويلةً بعدَ أن صفحَ عنها زوجُها في المسرحيّة.

هكذا يَخلُصُ (مارسِل) رائدُ الوجوديّةِ المسيحيّةِ إلى أنَّ رَجُلَ اللهِ ليكونَ جديرًا حقًّا بإضافتِه إلى الرَّبِّ لابُدَّ أن يواصِلَ العملَ الدؤوبَ في الطريقِ التي اختطَّها له الرَّبّ، وهي طريقٌ أهمُّ ما فيها مدُّ يد العَونِ لخَلقِ الله، انطلاقًا مِن أنَّ حُبَّ الله يستلزِمُ محبَّةَ خلقِه ورؤيتَهم جديرِين بالأخذ بأيديهم إليه، وأن يفعلَ الإنسانُ ذلك مهما ثارَ في نفسِه من شُكوكٍ، حتى بخُصوصِ بواعثِ أفعالِه نفسِها. وهي فكرةٌ أجِدُ صداها واضحًا في المأثور الإسلاميِّ أيضًا، ومِن ذلك قولُ النبيِّ حاسمًا الجدلَ حولَ مسألةِ القَدَرِ وكتابةِ الأفعالِ على الناس: "اعملوا، فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له."، ونصيحتُه لأبي سُفيانَ الثَّقَفِيِّ حين طلبَ قولًا فصلًا في الإسلام: "قُلْ آمنتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ."، فالمطلوبُ في العقيدةِ قَولٌ، ثُمَّ لا يبقى إلّا الاستقامةُ على الطريقِ، فإن ثارَت شكوكٌ في النفسِ فالوصيّة النبوية هي الاستغفارُ ممّا لا جدوى منه ومواصلَةُ الحياةِ بعد ذلك، وغيرُ ذلك كثيرٌ في شَواهِد السُّنَّةِ والمأثور الإسلامي.

ويبقى نَصُّ (مارسِل) محوريًّا في فَهمِ رؤيتِه لمقتضيات الإيمان الدينيِّ من السُّلوك، ولمسوِّغاتِ الجدارةِ بالانتسابِ إلى الله.

Activity
2
التعليقات (2)
نسيت إسمي
الخميس، 10-03-2022 01:12 م
3 ـ (أول منتخب يفوز بكأس العالم) كرة قدم : استضافت الأوروغواي بطولة كأس العالم بنسختها الأولى في عام 1930م، واستهلَّ منتخب الأوروغواي مشواره في البطولة باللعب مع منتخب البيرو، وأقيمت هذه المباراة ضمن مباريات المجموعة الثالثة في ملعب سنتيناريو الواقع في عاصمة الأوروغواي مونتيفيديو، وتمكَّن منتخب الأوروغواي خلالها من التغلب على البيرو بنتيجة هدفٍ دون مقابل أحرزه اللاعب الأوروغوياني هيكتور كاسترو في الدقيقة الستين من عمر المباراة، لعبت الأوروغواي مع المنتخب الروماني بعد ذلك، وتمكّنت من الفوز عليه؛ لتتصدر بذلك مجموعتها وتتأهل إلى الدور نصف النهائي والذي التقت فيه مع المنتخب اليوغسلافي وفازت عليه بنتيجة ستة أهدافٍ مقابل هدفٍ وحيد، ومنه صعدت إلى الدور النهائي لتواجه المنتخب الأرجنتيني في المباراة النهائية، وتمكَّن منتخب الأوروغواي بالنهاية من الفوز على الأرجنتين بنتيجة أربعة أهدافٍ مقابل هدفين؛ ليحرز بذلك لقب كأس العالم لكرة القدم.
نسيت إسمي
الخميس، 10-03-2022 01:09 م
1 ـ (محاذير دخول الإسلاميين عالم التمثيل والدراما) حقل التمثيل والإنتاج مليء بالألغام التي قد تنفجر حتى ممن أو فيمن هم رواد هذه الصناعة (الجزيرة) يقول سري سمور كاتب ومدون فلسطيني: ما زلت أذكر كيف أخذ الأخ يلوم أبناء الاتجاه الإسلامي على تركهم حقل الصحافة والعلوم السياسية وملحقاتها، مما جعل العلمانيين وبعضهم يجاهر في إلحاده يحكمون قبضتهم عليها ويهيمنون على هذا الجانب الحيوي في التأثير على الناس. وقد شجعني وقتها على دراسة أحد هذه المجالات، طبعا لم أستمع إلى نصيحته، ولكن هذا ما حصل مع كثير من أبناء التيار الإسلامي. من العلوم التطبيقية والشرعية إلى السياسية غلب على الإسلاميين على اختلاف وتنوع مدارسهم التوجه إلى دراسة العلوم التطبيقية المختلفة، لذا كثير منهم درسوا الطب أو الهندسة أو الرياضيات أو الفيزياء أو الكيمياء أو غيرها من العلوم والتخصصات التي غالبا ما يكون الطالب فيها في المرحلة الثانوية في القسم العلمي، وهو القسم الذي يفترض عربيا أنه يحوي الفئة الطلابية ذات المستوى المتقدم في القدرات والذكاء على زملائهم في القسم الأدبي. وحتى في الجامعات فإن غالبية طلبة القسم الأدبي في الثانوية يتوجهون إلى دراسة الآداب والعلوم الإنسانية بفروعها المختلفة بما فيها علوم السياسة. ولذا تجد أبناء التيار الإسلامي يفوزون بسهولة نسبيا، في النقابات وممثليات الطلبة التي تتعلق بالعلوم التطبيقية لا النظرية، مثل نقابات الأطباء والمهندسين. تنبه الإسلاميون إلى أن تركيزهم على دراسة العلوم التطبيقية وترك العلوم الإنسانية هو خطأ ينبغي تصحيحه، وهنا صار هناك نوع من (الزهد) في دراسة العلوم الشرعية، وعلوم الشريعة المختلفة، وقد كانت (تحصيل حاصل) من حصة التيار الإسلامي، بل وصل الحال ببعض أبناء التيار الإسلامي إلى السخرية من إخوانهم وزملائهم الذين درسوا الشريعة! تخرج من أبناء التيار الإسلامي طابور طويل من حمَلة شهادات الصحافة والعلوم السياسية المختلفة من جامعات مختلفة محلية وعالمية.. فماذا كانت النتيجة؟ خسارة مركبة حقيقية، زهد وتراخي التيار الإسلامي في حقل ومجال كان ميدانه وشبه مسلّم به أنه رائده، أي علوم الشريعة، جعل آخرين يعبئون الفراغ، وهؤلاء عموما لهم موقف سلبي فيه روح معادية نافرة من الحركات الإسلامية، ومن ناحية أخرى لم يكن للحركة الإسلامية مؤسسات كافية ولو بالحد الأدنى لاستيعاب الخريجين والمختصين في علوم السياسة والإعلام والصحافة، وهي التي شجعتهم على دراسة هذه العلوم… فلا هم حافظوا على ما كان شبه مسجل باسمهم، ولا حازوا شيئا مما أدخلوا أنفسهم فيه بلا تخطيط. فكانت النتيجة أن توجهوا إلى العمل والتوظيف في مؤسسات أو إمبراطوريات إعلامية أو ثقافية يملكها أو يديرها أناس، حتى لو لم يظهروا عداءً للتيار الإسلامي، بل لربما أبدوا تعاطفا معه في بعض المسائل، ولكنهم في سلوكهم ليسوا على درجة من الالتزام، والأخطر والأدهى أن لهم فهما خاصا للإسلام، يعتبر أن الإسلام إرث ثقافي مهم ولكن ليس منهج ونظام حياة. و تخيل معي إسلاميا في هذا الجو، لقمة عيشه، وقد تكون راتبا مغريا، بيد أناس هكذا تفكيرهم، وحوله بيئة لا تقيم وزنا للفرائض أو السنن.. النتيجة الحتمية مع مرور الوقت، هي انهيار المقاومة والمناعة التي لدى هذا الإنسان وظهور التغيرات عليه. و لهذا رأينا مؤخرا إسلاميا يعمل في تلك المؤسسات وقد صار يجاهر بعدم الإيمان بالله أو اليوم الآخر، أو يطرح تصورات عن القرآن والحديث، تحمل انحرافات عقدية وفكرية. و صرنا نرى فتاة محجبة بعد مدة من الزمن، قد تكون المدة أقصر من زميلها الشاب لأن حصون المرأة عادة أضعف، تنزع حجابها، وتفاخر بذلك وتكرر العبارات المموجة حول كون التدين ليس بالمظهر، والدخول في جدل عقيم ينم عن سخافة عقل حول فريضة الحجاب! تتحمل الحركة الإسلامية جزأ من إثم هؤلاء، لأنها سلّمتهم أو اضطرتهم إلى بيئة وأجواء كهذه، ولم يكن لديها مؤسسات فكرية وإعلامية وثقافية تستوعبهم. صحيح أنه لا طاقة استيعابية كبيرة لهذه الأعداد حتى لو وجدت هكذا مؤسسات، ولكن وجود هذه المؤسسات يعطي نوعا من الدافع المعنوي، ولا يشعر القائمين على المؤسسات والامبراطوريات الأخرى أنهم يستفردون بالإسلامي ويمكنهم إعادة تشكيل أفكاره. و حتى حين يعمل الإسلاميون في مؤسسات ليست لهم ولا تتبنى أفكارهم، فإنهم سيكونون في حالة دفاع نفسي كون تيارهم له مؤسسات أخرى ولو بإمكانيات أقل. السينما والإخراج: تحدثت في المقال السابق عن ضعف بل غياب الإسلاميين عن عالم التمثيل، وقد أدركوا مؤخرا أهمية الأمر. والآن من درسوا وسيدرسون من أبناء وبنات التيار الإسلامي هذه التخصصات (إخراج، تمثيل، إنتاج.. إلخ) كيف سيكون حالهم؟ وأين سيعملون؟ وهل الأجواء التي سيعملون بها ستكون مناسبة لهم؟ هي أسئلة مهمة في هذا النقاش، ولهذا ضربت المثل الحيّ عن موضوع دراسة الإعلام والعلوم السياسية، وكيف آل حال الإسلاميين فيه! وحقل التمثيل والإنتاج مليء بالألغام التي قد تنفجر حتى ممن أو فيمن هم رواد هذه الصناعة ولهم فيها سنوات طويلة ويعرفون خباياها وأسرارها واعتادوا عليها. فإذا دخل التيار الإسلامي على حقل التمثيل التلفزيوني أو السينمائي، فماذا سيكون نصيبه؟ فالأمر يحتاج إلى التمويل والمادة الجيدة التي تقبل فضائيات شراءها، علما بأن من يملك الفضائيات غالبا يعادون الإسلاميين، وتحتاج إلى كادر مهني، وأمور أخرى كثيرة ربما دارت في تفكير أصحاب القرار عند الإسلاميين، فقرروا في أنفسهم: صحيح أن التمثيل مهم وخطأ الابتعاد عنه طوال العقود الماضية، ولكن لا طاقة لنا بهذا، لأن (الصناعة) هذه مغلقة وتكاد تكون حكرا على فئات بعينها. هذا الاستسلام أيضا خطأ، وليبدأ الدخول إلى هذا العالم بحذر، وليس شرطا أن يكون من سيدخله من صلب أبناء الحركة الإسلامية، يكفي أن يكون متعاطفا معهم، أو تتقاطع أفكاره مع أفكارهم. ويمكن عمل تجارب عبر إنتاج كارتوني أو أعمال على يوتيوب، وترك الجمهور والناقدين يقيّمونها، ومواصلة التجارب، قبل انطلاقة حقيقية اختراقية واثقة لهذا المجال. فالإسلاميون لا ينقصهم أصحاب المواهب الواعدة، ولا من لديه حسّ الإبداع، والتمويل الذي قد يكون العقدة الكبرى المستعصية، يمكن أن يتوفر مع الزمن، بل قد تجد من يتبرعون لإنجاز عمل جيد، بعد أن يروا تجارب و(بروفات) لأعمال تكلفتها بسيطة.. والتوكل على الله قبل كل شيء. و أنا أرى حاليا أن جو المنافسة والاحتكار، من بعض جوانبه يخدم الإسلاميين إذا رغبوا وسعوا في اختراق هذا العالم، فنحن أمام بحر من القنوات الفضائية، ولم يعد النظام يملك قناة التلفزة الوحيدة التي سيجبر المواطن على متابعتها لأنه لا بديل لها، ناهيك عن شبكة الإنترنت وخدماتها المختلفة مثل (البودكاست) وما شابه. ويضاً عليهم الحرص ألا يكون ما يقدمونه وعظا مباشرا، لأن الدراما بنظر الجمهور هي وسيلة ترفيه قبل كل شيء، وأن لا يحاولوا تقليد غيرهم، وأعلم أن هذه مهمة صعبة؛ فالمتوقع أن الإسلامي سيقدم عملا تلفزيونيا أو سينمائيا يحمل رسائل وعظية مباشرة، أو أفكارا فاقعة (هكذا يتوقع عامة الناس) أو سيحاول تقليد الآخرين مع تغيير المظهر أو محاكاة غيره. فن هذه مهمة صعبة؛ فالمتوقع أن الإسلامي سيقدم عملا تلفزيونيا أو سينمائيا يحمل رسائل وعظية مباشرة، أو أفكارا فاقعة (هكذا يتوقع عامة الناس) أو سيحاول تقليد الآخرين مع تغيير المظهر أو محاكاة غيره. 2 ـ (كتاب بين الأرغواي والبارغواي) لستُ بحاجةٍ إلى إعادةِ القولِ أن رحلاتِ العبودي لها طعمُها الخاص فهي ملهمةٌ، تدفعُ وتوقظُ غريزةَ حب السفرِ والترحالِ من مرقدِها في هذا الكتابِ الجميلِ حديثٌ عن رحلته لأمريكا الجنوبيةِ بدأ من الأرغواي مرورا ببوليفيا وعاصمتها الواقعة في حفرةٍ وسطَ جبال الإنديز فهي تعد أعلى عاصمةٍ في العالم وانتهاءً بالبارغواي واجتماعُه بالمسلمين هناك أما عن حقيقةِ وضعهم فأختصرُه بالمؤلمِ، ضياعُ أجيالِهم خصوصا الجيل الثاني وما بعده، ذابوا ونسوا دينهم وعربيتَهم إذ لهتهم أموالُهم وتجارتُهم، لا مساجد ولا مراكز دينية تجمعهم، أما من أين قدِمَ العربُ لأقطار أمريكا الجنوبية؟ فأغلبهم من الشام خصوصا لبنان وفلسطين، والمسيحيون يشكلون الأغلبَ وهم أي مجمل العرب ناجحون خصوصا بالتجارةِ ولهم شأن. هذا الحالُ يمثل عليه العبودي بمشاهداتِ في يومياتِ رحلتِه، ولعل أبرزَ حوارٍ آلمني مع شيخ سبعيني تزوجَ من إيطاليةٍ مسيحيةٍ لينجبَ سبعة من الأولاد عمدت إلى تعميدهم ونشأتهم على المسيحية وهذا وإن كان مثالا غيرَ غريب إلا أنه يحكي عن وضع المسلمين هناك على أنه ينبغي القولُ أن هذا الأمرَ مرَّ عليه ثلاثون عاما، فهل حصلَ التغييرُ؟ هذا مما يجبُ البحثُ عنهبين الأرغواي والبارغواي من الجغرافيا والرحلات محمد بن ناصر العبودي(1345 هـ ـ1930م) أديب ومؤلف ورحالة سعودي ولد في مدينة بريدة.