في الأشهر القليلة الماضية، استحوذ عنف وإرهاب
المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، والمتواصل منذ عقود، على اهتمام جديد من قبل الدول الأوروبية، بما في ذلك المملكة المتحدة، ومن الصحافة الأوروبية والأمريكية أيضا.
بينما دافع رئيس الوزراء
الإسرائيلي نفتالي بينيت عن
اعتداءات المستوطنين اليهود على
الفلسطينيين باعتبارها "ظاهرة هامشية"، دعا اثنان من أعضاء الكنيست اليهود سفراء الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي لحضور مؤتمر حول كيف أن دول الاتحاد الأوروبي (والمنظمات اليسارية الفلسطينية)، وليس المستوطنين اليهود، هي "المحرضة على العنف في يهودا والسامرة". واتهم أعضاء الكنيست الاتحاد الأوروبي بمعاداة السامية و"فرية الدم" (*)، لتصويره المستوطنين اليهود على أنهم الجناة.
أما بينيت، الذي طالما افتخر بقتله "الكثير من العرب"، فهو قومي يميني "يتشارك بشكل كامل مع وجهة النظر التوسعية لقادة المستوطنين القائلة بأن إسرائيل تمتد إلى نهر الأردن ووعد بمواصلة تنمية المستوطنات القائمة" بحسب جريدة الغارديان. لا يحمل بينيت وجهات نظر تتعارض مع آراء شريحة كبيرة من جيشه، بل وفقا لصحيفة الغارديان، "قدّر الخبراء في عام 2016 أن ما بين ثلث ونصف المجندين في الجيش يعتنقون الصهيونية الدينية، وهي عقيدة المستوطنين الأيديولوجيين".
لقد تنطعت دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وتشدقت كثيرا على مر السنين في إدانة "عنف" المستوطنين اليهود، لدرجة أنه في عام 2012 وبعدها في عام 2014 اقترح الاتحاد الأوروبي وضع قائمة سوداء للمستوطنين اليهود "العنيفين" فقط ومنعهم من دخول الاتحاد الأوروبي، علما بأن نهب المستوطنين للأراضي الفلسطينية لا يعتبر عملا عنيفا من قبل الاتحاد الأوروبي. استشاط الإسرائيليون غضبا من هذا الانحياز الأوروبي المزعوم ضد المستوطنين، لا سيما أن وزارة الخارجية الإسرائيلية لم تكن على علم مسبق بأن الاتحاد الأوروبي يعد مثل هذه القائمة السوداء. وعلق المتحدث باسم وزارة الخارجية، إيغال بالمور حينها قائلا: "أما بالنسبة للاقتراح التحريضي برفض دخول من يسمونهم "المستوطنين العنيفين" المعروفين إلى دولهم لأن إسرائيل لم تقدمهم للمحاكمة، فثمة تناقض داخلي هناك. فكيف سيتم تعريف الشخص على أنه "مستوطن عنيف" إذا لم تتم إدانته؟ وإذا أدين، فهذا يعني أن إسرائيل قد قدمته إلى العدالة. يبدو كما لو أن هؤلاء الخبراء الموقرين قد أهملوا المنطق البسيط في حرصهم على اقتراح إجراءات صارمة". يبدو أن حجة الإسرائيليين هذه كانت مقنعة للغاية، حيث إن الاتحاد الأوروبي غض النظر تماما عن الأمر.
استفزت الرسالة بن نون للغاية فردت بغضب على الأوروبيين بتوبيخهم وحطت من قدرهم صارخة في وجوههم: "لقد أثرتم حنقي". بخلاف أعضاء الكنيست ولحسن حظ الدبلوماسيين، لم تتهم بن نون الأوروبيين بمعاداة السامية أو فرية الدم
لكن فجأة أعربت الدول الأوروبية أخيرا عن قلقها الشديد بخصوص الموجة الأخيرة من هجمات المستوطنين على الفلسطينيين. فقد التقى ستة عشر سفيرا ودبلوماسيا أوروبيا بقيادة المملكة المتحدة مع عليزه بن نون، السفيرة الإسرائيلية السابقة في فرنسا، التي تشغل الآن منصب مدير إدارة الشؤون الأوروبية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، وسلموها رسالة يعبرون فيها عن مخاوفهم. استفزت الرسالة بن نون للغاية فردت بغضب على الأوروبيين بتوبيخهم وحطت من قدرهم صارخة في وجوههم، "لقد أثرتم حنقي". بخلاف أعضاء الكنيست ولحسن حظ الدبلوماسيين، لم تتهم بن نون الأوروبيين بمعاداة السامية أو فرية الدم.
ليس الأوروبيون المهتمين الوحيدين بما يجري، فكذلك هو حال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس ورئيس السلطة الفلسطينية غير المنتخب محمود عباس؛
اللذين اجتمعا مؤخرا بهدف زيادة التنسيق الأمني بينهما من أجل حماية إسرائيل والمستوطنين اليهود بشكل أفضل من "عنف" المقاومة الفلسطينية. لقد كان هذا أول اجتماع رسمي يعقده عباس في إسرائيل منذ عام 2010. وفي أثناء الاجتماع، طلب غانتس (المتهم هو نفسه بقتل مئات المدنيين الفلسطينيين في غزة عندما قاد عدة غزوات إسرائيلية على القطاع) من عباس "بذل المزيد" من الجهد لقمع "عنف" الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهي مهمة برع فيها جهاز أمن السلطة من المرتزقة التابع لعباس منذ 1994. وعندما أثار عباس بخجل موضوع عنف المستوطنين اليهود، أكد له غانتس أن "معظم المستوطنين ليسوا هم المشكلة". وبالإضافة إلى التنسيق الأمني المستمر لقمع المقاومة الفلسطينية، حرص عباس على تأمين "مئات التصاريح لرجال الأعمال الفلسطينيين للسماح لهم بالتنقل بحرية نسبية بين الضفة الغربية وإسرائيل، والعشرات مما يسمى تصاريح كبار الشخصيات لكبار مسؤولي السلطة الفلسطينية".
بعد أيام قليلة من اجتماع التنسيق الأمني مع غانتس، شرع عباس بتنفيذ للتعليمات التي أصدرها له غانتس. فأطلق العنان لعصاباته في الجهاز الأمني التابع للسلطة الفلسطينية لعملية
ترويع وقمع مدينة جنين الفلسطينية المحتلة، واعتقال عدد من الشبان الذين أطلق سراحهم فيما بعد تحت ضغط الانتفاضة التي قام بها سكان جنين الذين هاجموا مقر السلطة الفلسطينية في المدينة. وبخلاف الجنود الإسرائيليين الذين يتعاملون مع المستوطنين اليهود العنيفين وغير الشرعيين بحنان شديد، لا سيما وأن عددا كبيرا من الجنود يتشاركون مع المستوطنين في "العوامل الثقافية، التي تجعل الكثير منهم مناصرين للمستوطنين" بحسب جريدة الغارديان، فإن عصابات السلطة الفلسطينية متحالفة مع الاحتلال الإسرائيلي وليس مع الشعب الفلسطيني.
بخلاف الجنود الإسرائيليين الذين يتعاملون مع المستوطنين اليهود العنيفين وغير الشرعيين بحنان شديد، لا سيما وأن عددا كبيرا من الجنود يتشاركون مع المستوطنين في "العوامل الثقافية، التي تجعل الكثير منهم مناصرين للمستوطنين" بحسب جريدة الغارديان، فإن عصابات السلطة الفلسطينية متحالفة مع الاحتلال الإسرائيلي وليس مع الشعب الفلسطيني
أما العنف الذي يمارسه المستوطنون اليهود ضد الفلسطينيين فليس بالأمر الجديد، فهو في الواقع جزء تقليدي من سلوك الاستعمار والاستيطان اليهودي لفلسطين منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، الذي تخللته الاعتداءات على الفلسطينيين الذين يمتلكون الأرض، قام بها المستوطنون الطامعون (ولا يزالون يطمعون) بأراضيهم من خلال الاستيلاء عليها وطرد أصحابها الفلسطينيين خارج حدودها.
ففي عام 1911، بعد بيع ملاك الأراضي الغائبين المقيمين في بيروت لمساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية إلى الصندوق القومي اليهودي، قامت السلطات العثمانية بطرد الفلاحين الفلسطينيين قسرا واعتقلت الكثيرين منهم، كما قتلت المليشيا الصهيونية "هاشومير" فلاحا فلسطينيا. أما بالنسبة للفلاحين المطرودين الآخرين، الذين عملوا كعمال في المستعمرات اليهودية، فقد قام البلطجية من "هاشومير" بضربهم ضربا مبرحا وبقسوة شديدة، حتى إن مجالس المستعمرات اليهودية أصدرت تعليمات لهاشومير بالتوقف عن الإساءة للفلسطينيين.
وبحلول الثلاثينيات من القرن الماضي، انتقل المستوطنون من قتل الفلاحين وضرب العمال الفلسطينيين إلى تفجير المقاهي الفلسطينية بالقنابل اليدوية (في القدس على سبيل المثال في 17 آذار/ مارس 1937)، ووضع ألغام موقوتة بالكهرباء في الأسواق المزدحمة، التي استخدمت لأول مرة ضد الفلسطينيين في مدينة حيفا في 6 تموز/ يوليو 1938، من بين فظائع أخرى. وبحلول الأربعينيات من القرن الماضي، قام المستوطنون بتفجير السفن والفنادق وأهداف مدنية أخرى، وبلغت ذروة عنفهم بارتكاب عشرات المذابح بحق الفلسطينيين المدنيين بين كانون الأول/ ديسمبر 1947 وكانون الأول/ ديسمبر 1948.
أما أن الأوروبيين يعتبرون عنف المستوطنين اليهود مقتصرا على هجماتهم الجسدية على الفلسطينيين، ولكن ليس في سرقة الأراضي والمنازل الفلسطينية، فبالكاد يخفف من تمكين أوروبا التاريخي والحالي لمثل هذا العنف، من خلال دعمها المالي والعسكري والدبلوماسي لإسرائيل والسلطة الفلسطينية المتعاونة مع الاحتلال
لا تكاد أي من أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون اليهود في الضفة الغربية أو القدس أو داخل إسرائيل نفسها في الوقت الحاضر؛ تختلف عن عنفهم منذ بداية استعمار المستوطنين اليهود لفلسطين. فطرد المواطنين الفلسطينيين المتواصل في إسرائيل من أراضيهم
في صحراء النقب، من قبل نفس الصندوق القومي اليهودي الذي طرد الفلسطينيين من أراضيهم قبل قرن من الزمان، لهو أحدث دليل على استمرارية العنف الاستيطاني دون هوادة. ومهما كانت الاعتراضات التي يدعيها ويقدمها الأوروبيون اليوم، فهي مثال على التناقض الصارخ في سياساتهم الشاملة والثابتة في دعم الاستيطان اليهودي في فلسطين، ودعم سرقة الصهيونية للأراضي الفلسطينية قبل وبعد قيام دولة إسرائيل.
إن دعم
أوروبا للاحتلال الإسرائيلي ودور السلطة الفلسطينية في قمع المقاومة الفلسطينية، هو استمرار للسياسات الأوروبية التقليدية في دعم المستوطنين البيض في جميع أنحاء العالم، من الأمريكتين إلى أفريقيا وأوقيانوسيا. أما أن الأوروبيين يعتبرون عنف المستوطنين اليهود مقتصرا على هجماتهم الجسدية على الفلسطينيين ولكن ليس في سرقة الأراضي والمنازل الفلسطينية، فبالكاد يخفف من تمكين أوروبا التاريخي والحالي لمثل هذا العنف، من خلال دعمها المالي والعسكري والدبلوماسي لإسرائيل والسلطة الفلسطينية المتعاونة مع الاحتلال. لا عجب إذن أن قامت بن نون بإهانة الدبلوماسيين الأوروبيين وتوبيخهم على نفاقهم، حيث عادوا إلى حكوماتهم مُطأطئي الرؤوس.
__________
(*)
فرية الدم أو
فرية طقوس القتل، وتعرف أيضا بتهمة الدم، هي تهمة معادية للسامية، تتهم اليهود باختطاف وقتل أطفال مسيحيين لاستخدام دمائهم كجزء من طقوسهم الدينية للاحتفال بعيد الفصح اليهودي.