هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يقول رئيس حزب العمال سير كير ستارمر أن السيد بلير يستحق أن ينال وسام الفروسية، ولقب «سير» الذي منحته إياه الملكة، أخيرا، وهو الأعلى تكريما في المملكة المتحدة، لأنه «جعل بريطانيا دولة أفضل». بالمقابل، يقول ما يزيد على المليون مواطن بريطاني (بضمنهم من أصول عربية وإسلامية) وقعوا على عريضة تطالب بسحب تكريمه من قبل الملكة، أنه «مجرم حرب».
يوافقهم الرأي عدد من الصحف التي تصدرتها عناوين على غرار «تكريم توني بلير؟! يجب أن يُحاكم بسبب الكارثة في العراق». تساهم منظمة «أوقفوا الحرب» البريطانية، وهي الأكثر شهرة في مناهضتها سياسة الحكومة البريطانية الخارجية في شن الحروب والتوسع الإمبريالي، منذ إعلان أمريكا « الحرب على الإرهاب» وغزوها أفغانستان والعراق، في حث الناس على الاحتجاج ضد التكريم.
ما نعرفه جميعا، هو أنه وعلى الرغم من صرخة الاحتجاج العالمية المناهضة للحرب، وعلى الرغم من مشاركة مليوني مواطن بريطاني في أكبر مسيرة احتجاجية شهدتها بريطانيا على الإطلاق، وهي الأولى من نوعها التي يتظاهر فيها الناس على حرب قبل شنها، اختار بلير تجاهل المحتجين وبدأ الحرب. بتهم مفبركة، تم فضحها للعموم بعد الغزو، وتثبيت القدم الأنكلو أمريكية على الأراضي والموارد العراقية، وتحطيم الدولة وتحييد الموقف العراقي المبدئي من القضية الفلسطينية. مما يضعنا أمام أسئلة مهمة حول أهمية المبادرات الشعبية للضغط على الحكومات أو الجهات المتنفذة لتغيير سياستها تجاه قضية معينة. فهل سينجح الموقعون على العريضة الآن في الضغط على رئيس الوزراء، وهو من حزب المحافظين، لكي يحاول إقناع الملكة سحب تكريمها لتوني بلير؟ وما هو عدد المواطنين الذين يجب أن يوقعوا ليكون لصوتهم تأثير حقيقي؟ وهل من أمل بتغيير القرار الملكي؟ وإن لم يحدث ذلك، يواجهنا السؤال الأهم وهو ما جدوى توقيع العرائض؟
يبدو الأمر مستحيلا من ناحية الضغط على الملكة لتغيير قرارها بتكريم بلير فهو متعلق، أساسا، بتقليد ملكي بريطاني مفاده أن يحصل رؤساء الوزراء السابقون على وسام الفروسية، مهما كان حزبهم أو سياستهم الداخلية أو الخارجية. بل غالبا، ما يُقاس نجاح رئيس الوزراء وحكومته بمقياس السياسة الخارجية المبنية على ما تحققه من رفاه اقتصادي للبلد، وهل هناك ما هو أكثر ربحا من الصناعات المرتبطة بالحروب والاستيلاء على موارد الدول التي تنهشها الحروب والنزاعات، بأنواعها، أي ما أنجزه بلير؟
من هذا المنظور التوسعي الإمبريالي، من غير المعقول قيام الملكة بسحب التكريم، خاصة، وأن هذا سيعني، بالضرورة، الاعتراف بأن توني بلير مجرم حرب أو على الأقل محاكمته، لأنه قرر شن حرب ألحقت الضرر ببريطانيا نفسها وليس العراق. ومن الصعب، أيضا، إثبات إلحاقه الضرر ببريطانيا كدولة لأن الشعب البريطاني أعاد انتخابه في الفترة التالية لغزو واحتلال العراق، في الوقت الذي كانت جيوش الاحتلال تتلقى الضربات من المقاومة العراقية. مما يمكن ترجمته، على أرض الواقع، أن توني بلير نجح في استقطاب المشاعر «الوطنية» للدفاع عن جنود بريطانيا المدافعين عن «القيم الديمقراطية» وحماية بريطانيا من خطر سيستهدفها خلال 45 دقيقة، حسب تعبير بلير.
توصل تقرير اللورد تشيلكوت حول حرب العراق، بعد تحقيق دام سبع سنوات، إلى استنتاجات شككت بمصداقية ادعاءات بلير، خاصة حول الخطر المهدد للشعب البريطاني، إلا أنه توقف عند ذلك الحد، ولم يتجاوزه ليتم تقديم بلير للمحاكمة لمساهمته في شن حرب سببت مقتل مليون عراقي و179 جنديًا بريطانيًا، وأدت إلى تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية وديمومة العنف المستدام في العراق اليوم. من بين الاستنتاجات التي توصل إليها التقرير أن الرئيس العراقي لم يشكل تهديدًا عاجلاً للمصالح البريطانية، في وقت غزو العراق عام 2003، ولم تثبت المعلومات الاستخباراتية، بلا شك، وجود أسلحة دمار شامل، وكانت هناك بدائل للحرب لم يُستنفد النظر فيها مما سبَّب قتل جنود بريطانيين ومئات الآلاف من العراقيين.
لم، إذن، لا يُحاكم توني بلير كمجرم حرب، أو على الأقل لم لا يتم سحب تكريمه الملكي؟ جوابا على السؤال الثاني الذي يصح على السؤال الأول أيضا، يقول الصحافي ومقدم البرامج البريطاني جيريمي كلاركسون أن توقيع مليون شخص على عريضة للمطالبة بسحب وسام التكريم من بلير، في بلد مجموع سكانه 70مليونا، يعني أن 69 مليونًا لم يفعلوا، على الرغم من أن توقيع العريضة، إلكترونيا، لا يتطلب جهدا. بمعنى آخر أنهم إما لا يرغبون بذلك أو أنهم لا يهتمون بالمسألة كلها. ويوضح كلاركسون بأن الطريقة الواقعية الوحيدة لمنع بلير من الحصول على التكريم هي إجراء استفتاء رسمي عام حول هذه المسألة. ولكن بعد كارثة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لا يبدو في الأفق ما يشير إلى حدوث ذلك.
هل يقودنا هذا الاحساس المسبق بالفشل إلى عدم المشاركة في أية مبادرة جماعية للتغيير؟ هناك من النجاحات، على قلتها، ما يدحض « قدرية» الفشل. ففي 10 أكتوبر / تشرين الأول 1998، مثلا، أُلقي القبض على الدكتاتور التشيلي بينوشيه بتهمة «الإبادة الجماعية والإرهاب التي تشمل القتل» أثناء زيارته للندن بالذات، بموجب مذكرة توقيف نجح ناشطون حقوقيون في تفعيلها، مستفيدين من مبدأ سلطة القضاء العالمية، الذي يسمح للدول بمتابعة القضايا التي تنطوي على أعمال تعذيب وإبادة جماعية وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية دون النظر إلى المكان الذي تم ارتكاب الجريمة فيه، وبغض النظر عن جنسية مرتكبي تلك الجرائم أو جنسيات ضحاياهم. وألغى موشيه يعالون، نائب رئيس وزراء الكيان الصهيوني، في تشرين الأول/ أكتوبر 2009، رحلة إلى بريطانيا خشية اعتقاله بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين. وفي كانون الثاني 2010، ألغت الوزيرة الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني زيارتها إلى بريطانيا بعد صدور مذكرة توقيف بحقها. والمعروف أن توني بلير لم يعد يجرؤ على السير في شوارع بلده بريطانيا تفاديا لغضب الناس. ومن يدري، مع تغير موازين القوى العالمية والمحلية، قد تتمكن مجموعة حقوقية عراقية بريطانية مثابرة من تقديمه للمحاكمة، في المستقبل القريب، كمجرم حرب مهما كان لقبه.
(القدس العربي)