هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عام مضى منذ حادثة من أغرب حوادث التاريخ الأمريكي الحديث، حين اندفع متظاهرون يدعمهم الرئيس المنتهية ولايته، يرفضون الاعتراف بنتائج الانتخابات، واقتحموا رمز الديمقراطية الأمريكية وبيتها الكونغرس الأمريكي بدعم مبطن من رئيسهم الذي احتشد مع مجموعة من أنصاره يحتفلون بالمناسبة، كان مشهدا سرياليا، خاصة لأولئك الذين كانوا يجدون في الحلم الأمريكي ونظامه السياسي نموذجا مثاليا لا يقبل النقد، في العالم كله أطلق هذا المشهد تساؤلات عديدة حول نمط سياسي يجتاح الكثير من عواصم العالم، الشعبوية السياسية التي تتغذى على نظريات المؤامرة وانعدام الثقة في المؤسسات الدولية والمشاعر العدوانية تجاه الأقليات والمهاجرين آخذة في النمو من بداية هذا القرن، وكان حادث اقتحام الكونغرس بمنزلة إعلان وصول الشعبوية ذروتها، وتحولها إلى غول يهدد حتى أعتى الديمقراطيات وأكثرها استقرارا.
بعد عام من رحيل ترامب الذي كان يطمح مناوئوه إلى أن يمثل نهاية للكابوس الشعبوي، يتضح أن هذا الكابوس يستمر من خلال طبقة سياسية صلبة، وإدراك لدى الانتهازيين من السياسيين عبر العالم، أن الخطاب الشعبوي يجلب للسياسيين المغمورين والفاشلين من الأصوات ما تعجز عنه كل الأيديولوجيات والبرامج السياسية والاقتصادية الأخرى، وترافق مع هذا الاتجاه الشعبوي اليميني نمو لليسار الراديكالي في دول عديدة كردة فعل، واليوم في العديد من دول العالم الديمقراطية، نجد حالة عنيفة من الاستقطاب لم يشهدها العالم منذ نهاية الحرب الباردة.
هذا الاستقطاب ليس بالضرورة حزبيا أو فكريا، بل يأخذ شكل اصطفاف طبقي إلى حد كبير، تنحاز الأرياف والطبقات الأدنى تعليميا واقتصاديا إلى الخطاب الشعبوي، وتنحاز المدن والطبقة الوسطى والأعلى تعليما إلى اليسار، مع استثناءات هنا وهناك، وإذا ما أضفنا عامل المواجهة الروسية الغربية في شرق أوروبا ووسط آسيا، نجد صورة معقدة لعالم يحكمه التطرف بغض النظر عن اتجاهه.
كل ما سبق يعزز التساؤل حول مستقبل الديمقراطية كنظام سياسي مثل الحل الأمثل والخيار الأوحد لكل من يبحث عن الحكم الرشيد وحلول لأزمات المجتمعات النامية، فعلى الرغم من نجاح الأنظمة الديمقراطية الغربية في تحقيق مستوى من الاستقرار والرفاه قل نظيره عالميا، فإن العقود الأخيرة تضمنت إشارات واضحة إلى ترهل أنظمة الديمقراطية النيابية، فتراجع الأحزاب الكبرى وصعود اليمين المتطرف وشيخوخة الطبقة السياسية وانحدار البرامج الانتخابية إلى طرح شعبوي عنصري، كل ذلك يشير إلى أن هناك مشكلة هيكلية في هذه الأنظمة، تدعو إلى التفكير في احتمالية أن هذا الشكل من أنظمة الحكم لم يعد هو الأمثل اليوم، أو على الأقل أن عمره الافتراضي شارف على الانتهاء في ذات المناطق التي ازدهر تطبيقه فيها في السابق.
قال أحدهم: «الديمقراطية هي أسوأ نظام للحكم باستثناء جميع الأنظمة الأخرى». حتى اللحظة لن تجد في الممارسة السياسية أو الفكر السياسي نموذجا يحتوي على ضمانات للحكم الرشيد والعدالة ويمكن تطبيقه بواقعية مثل الديمقراطية النيابية، حتى التحورات المختلفة له مثل ديمقراطية الحزب الواحد في الصين والنظام الفيدرالي اللامركزي السويسري، لم تتمكن من تقديم نموذج شامل يصلح خارج أسوار تلك البلاد، ولا شك أن كل سياق حلوله مختلفة، ولا يوجد حل سحري ونظام مثالي لكل زمان ومكان، ولكن كما نشر الغرب المنتصر بعد الحرب العالمية الثانية نظامه السياسي عبر العالم، فربما يحمل المستقبل لنا ناشرا جديدا ومنشورا مختلفا.
(الشرق القطرية)