الذاكرة السياسية

البيض.. هاشمي جذبته القومية والاشتراكية والوطنية الديمقراطية

علي سالم البيض كان بين قلة من القياديين الذين جمعوا بين الثقافة النظرية والخبرة العسكرية (فيسبوك)
علي سالم البيض كان بين قلة من القياديين الذين جمعوا بين الثقافة النظرية والخبرة العسكرية (فيسبوك)

للناظر إليه، يبدو علي سالم البيض عملاقا بالقياس إلى مواطنيه متوسطي أو قصار القامة عموما، ولعل امتناعه عن ممارسة التمارين الرياضية المنتظمة ونمط حياته الموصول بالسياسة اليومية وطول قامته (أكثر من 190 سنتم)، أدى إلى بروز انحناءة خفيفة في ظهره ما انفكت تكبر مع تقدمه في السن. 

لم يفقد البيض شيئا يذكر من شعره ولا يعاني من تكرش مبالغ فيه. أما التجاعيد التي تنتشر في وجهه، فهي شبيهة بتلك التي تظهر على وجوه ممثلي السينما الأمريكيين القدامى (كلينت ايستوود، جاك  نيكلسون..) وقد توحي صور البيض المنشورة، أن سنه في الظاهر أقل بما يقارب الـ 15 عاما (عمره يناهز 82 عاما هذه الأيام).
 
والذي لا يعرف البيض وأدواره السياسية المختلفة، يظنه للوهلة الأولى زعيما طلابيا شاخ في اتحاد للطلبة الجامعيين، أو أستاذا جامعيا وصل إلى سن التقاعد، لكنه مصر على إلقاء محاضرات في علوم الآثار والطبيعة، أو مُنظِّرا أيديولوجيا مهتما بتلقين أفكاره وخلاصة تجاربه لكوادر حزبية.

ولد علي سالم البيض في 10 شباط ـ فبراير عام 1939 وعاش طفولته في "معبر" الواقعة في ريدة عبد الودود في بادية حضرموت الساحل بالقرب من محافظة المهرة، وكان والده قد انتقل من مسقط رأس العائلة في (غيل باوزير) إلى (الريدة) واستقر في منطقة (الكهوف) التي تبعد 25 كلم عنها، وهناك تزوج من والدة البيض التي تنتمي إلى (بيت المقادمة من آل الحموم) الذين يسكنون شرق ميناء الشحر.

كان البيض الأب معلما هاشميا، يؤدي أدوارا يزاولها عادة الهاشميون الحضارم المرتبطون بحبل نسب مع آل بيت رسول الله (صلعم). لكن الهاشميين والسادة طبقات وفئات اجتماعية. 

لم تكن أسرة علي البيض من أغنياء السادة ولا من فقرائهم، وإنما من فئة متوسطة بمقاييس تلك الحقبة، والشائع بحسب رفاقه المقربين أن عينيه تفتحت على بؤس البادية وقسوتها. سيستعين علي البيض في فترة النضال ضد الاستعمار بالحضارم الأثرياء من أجل دعم "الجبهة القومية"؛ أي الفرع اليمني الجنوبي لحركة القوميين العرب التي انتمى إليها عام (1958)، وتمويل الكفاح المسلح أو توفير الوسائل التي تتيح مواجهة "جبهة التحرير" الجنوبية، التي كانت تنافس "القومية" وتتلقى دعما في الفترة الاستعمارية من مصر الناصرية. 

يقول البيض في هذا الصدد: "كان خلافنا مع جبهة التحرير المدعومة من القاهرة قد بدأ يتسع ولا سبيل للمساومة، وكان عبد الله الأصنج (أحد القادة البارزين في الجبهة المنافسة) قد تمكن من الحصول على تمويل مهم لجماعته، في حين كان رفاقنا يشعرون بالمرارة وبالعجز عن منافسة الآخرين. كان علينا أن ندمر الإحباط في صفوفنا، وأن نحافظ على زخم حركتنا، فقلت لرفاقي: لا تخشوا شيئا نحن لدينا إمكانيات أكبر منهم، ولدينا مناطق كاملة تحت نفوذنا. لقد جاء الأصنج بثلاثة ملايين شلن لجماعته وسنعطيكم نحن ستة ملايين. وفعلا استطعنا إحضار الملايين الستة من حضرموت. أرسلت ورقة مع الرفيق عبد القادر أمين. أرسلناه بطائرة خاصة من هنا من عدن إلى حضرموت، وجاء بـ 300 ألف دينار، أي ما يوازي ستة ملايين شلن (عملة تلك الأيام ). كان رفيقنا سيف الضالعي المسؤول المالي في الجبهة القومية يقول: ما عندي عشرة شلن. قلت له: هاك 6 مليون شلن". (من شهادة فريدة لعلي سالم البيض نشرتها جريدة الأمل الصنعانية المحتجبة العدد 153 الصادر في 8/ 12/ 1985).
  
وللذين لا يعرفون اليمن، نشير إلى أن محافظة حضرموت مسقط رأس البيض هي الأكبر مساحة والأكثر كثافة سكانية بين محافظات الجنوب، بل كانت تُقدَّم في التاريخ بوصفها ندا لليمن؛ وجهة موازية له، كأن يقال حضرموت واليمن ناهيك عن كونها تضم المرجعية الدينية لسائر الجنوب. وقد ساهم الحضارم في نشر الإسلام في أفريقيا وآسيا، وتتمتع عائلات المحافظة بنفوذ مهم في الخليج وفي المملكة العربية السعودية بخاصة، مع الإشارة إلى أن أسرة ابن لادن ومنها أسامة زعيم تنظيم القاعدة الراحل، تنحدر من هذه المحافظة.

تزامن ميلاد البيض مع حرب أهلية مدمرة شهدتها حضرموت في ثلاثينيات القرن الماضي، ويؤكد المقيم البريطاني "هارولد أنجرام" الذي زارها في تلك الفترة، أنه وجد فيها 200 حكومة منفصلة بعضها عن بعض، ويذكر أن تلك الحرب أدت إلى أن يحفر الناس الخنادق في الطرقات ويلتزمون منازلهم لفترات طويلة ولا يخرجون منها.

لا نعرف أثر هذه الحرب على أسرة البيض، لكن المرجح أنها لم تغادر القرية التي تعلم فيها علي سالم دروسه الابتدائية والتكميلية، والراجح أن أهل المحافظة كانوا يشعرون بوطأة الاستعمار البريطاني أقل من المحافظات الأخرى، ذلك أن حضرموت والمهرة المجاورة احتلها البريطانيون بعد احتلال عدن ومحيطها بسنوات طويلة، ثم فصلوها عن باقي أراضي الجنوب اليمني.

أتم البيض دراسته الابتدائية والتكميلية في قريته وانتقل في العام 1956 إلى عدن لاستكمال دراسته الثانوية، ويروي رفاقه أنه كان طالبا قوي الشخصية، وأن ذلك أهلّه لتولي رئاسة اتحاد الطلبة الحضارم في عدن في العام 1959، والراجح أن هذا المنصب كان فاتحة صعوده إلى العمل السياسي في المراتب الأولى، وفي الكفاح المسلح ضد الاستعمار، وفي دولة الجنوب اليمني بعد الاستقلال. وفي هذا المضمار، لا يختلف عن غيره من القادة السياسيين الذين برزوا في العالم العربي بوصفهم قادة جامعيين في فترة الدراسة ومن بعد قادة سياسيين، مع فارق أن البيض هاشمي في مجتمع إسلامي يحترم الهاشميين ويوفر لهم أفضلية على غيرهم.

ما نعرفه بالمقابل أن البيض تأثر بالانفتاح الذي استفادت منه النخب الجنوبية في فترة الاستعمار البريطاني (132 عاما)؛ إذ بخلاف الشمال اليمني المغلق في عهد الأئمة الزيود كانت عدن وسلطنات اليمن الجنوبي تعيش على وقع الحركة السياسية البريطانية، حيث الصحافة متاحة والصراعات السياسية في لندن يتردد صداها في المستعمرات، ناهيك عن دعم تيارات بريطانية لزوال الاستعمار. 

لن نعرف شيئا يذكر عن تدين البيض بالقياس إلى التزامه السياسي الراديكالي وأفكاره التي يسميها "تقدمية"، وهي خليط من القومية والاشتراكية والماركسية، باعتبار أنه رفض مرارا تعريف نفسه بأنه شيوعي أو ماركسي. لكننا سنعرف أيضا أن البيض قد افتتح بمبادرة فردية ودون توجيهات قيادية، المدرسة الأولى لتخريج الكوادر اليمنية في حضرموت، في سياق التحول الذي شهدته "حركة القوميين العرب" من القومية إلى الاشتراكية العلمية، إذ يقول: "أرسلنا الرفيق عبد الله الأشطل إلى بيروت واشترى لنا كتبا تقدمية وكان من المدرسين في هذه المدرسة. دفعنا قيمة الكتب من ميزانيتنا في المنطقة. وتخرج منها أفراد سيؤدون دورا مهما في اليمن، من بينهم عبد الله البار وصالح منصر السييلي وسعد سالم فرج وعيدروس سيف وآخرون. (صحيفة الأمل المرجع السابق).
  
من اتحاد الطلبة الحضارم في عدن سيصبح علي سالم البيض عضوا مركزيا في اتحاد الطلبة اليمنيين في القاهرة التي قصدها لدراسة الهندسة عام 1963. هناك سيسكن مع الطلبة الحضارم في شقق طلابية مميزة، بخلاف الوافدين من الشمال اليمني أو محافظات الجنوب الأخرى الذين يسكنون في الأحياء الشعبية. 

 

         علي سالم البيض مع علي ناصر محمد وعلي عنتر وعلي شائع وآخرين

الأمر المؤكد أن دراسته وتجربته في القاهرة ستحدث قفزة نوعية في مستقبله السياسي. ذلك أنه عاش في خضم سنوات الجمر الناصرية وخبر عن كثب تجارب حركات التحرر التي كانت تنشط في العاصمة المصرية. هناك اتسع وعيه القومي العربي والتقى قيادات يمنية وعربية سترافقه شطرا كبيرا من حياته السياسية، من بينها يوسف بن علوي ورفاقه الظفاريون الذين سيتولى البيض التنسيق معهم في ثورتهم الظفارية، وسيوفر لهم القواعد الخلفية للتدريب والتنظيم في جنوب اليمن. 

ولعل من المفارقات الملفتة في هذا الصدد، أن البيض سينتقل برا إلى سلطنة عمان بعد سقوط عدن في حرب العام 1994، وسيكون يوسف بن علوي القائد الظفاري السابق ووزير الخارجية العماني اللاحق على رأس مستقبليه وحاضني إقامته في السلطنة لأكثر من 15 عاما. 

 



في القاهرة خضع البيض لدورة عسكرية مهمة في قوات الصاعقة، بل كان رئيسا للمجموعة اليمنية التي شاركت في الدورة التي تضمنت تدريبات على أنواع متعددة من الأسلحة وعمليات قتالية برا وبحرا، والتعود على نمط حياة متقشف بما في ذلك أكل الأفاعي. اكتسب البيض خبرة عسكرية سيكون لها الدور الأبرز في مشاركته اللاحقة في الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني، بل سيكون من بين المسؤولين العسكريين الكبار في الجبهة القومية، وسيقاتل في كل جبهات اليمن ضد الاستعمار، وسيتوج هذا القتال بتعيينه أول وزير للدفاع بعد الاستقلال، وهو ما سنقف عليه بالتفصيل في الحلقات المقبلة. 

تجدر الإشارة إلى أن علي سالم البيض كان بين قلة من القياديين في "الجبهة القومية" الذين جمعوا بين الثقافة النظرية والخبرة العسكرية، فهو إلى جانب كونه كادرا عسكريا مركزيا، كان يصنف بين المثقفين المؤدلجين في الجبهة القومية وعلى رأسهم عبد الفتاح إسماعيل وعلي صالح عباد (مقبل) وجارالله عمر وعبد الله الخامري..إلخ. والواضح أن تكوينه الفكري المستمد من أدبيات "حركة القوميين العرب" الكلاسيكية سيتسع للماركسية الماوية بصورة خاصة، ولعل ماويته تسببت له بالمتاعب في حزب اشتراكي كان حليفا مركزيا للسوفييت وضامنا لنفوذهم العسكري الأهم في البحر الأحمر. ومن الماوية سينتقل إلى الوطنية الديمقراطية، وهي آخر الأفكار التي دافع عنها خلال فترة ما سمي بـ (الربيع العربي).

قبل العودة بالتفصيل إلى تلك الفترة، سنتوقف في الحلقة المقبلة مع دور البيض في الصراع ضد الاحتلال البريطاني، وفي التنافس الذي وصل إلى حد القتال مع "جبهة التحرير" الجنوبية الموالية لمصر الناصرية.

 

اقرأ أيضا: سالم البيض.. اشتراكي يمني اختبر أفكاره السياسية ودفع ثمنها


التعليقات (0)