من أكثر الأمور طرافة أن أعلى صوت كان ينادي بـ"الوحدة العربية" طوال القرن السابق، ترك وطنه بلا "وحدة وطنية" تحتضنها جماعة وطنية واحدة يجمعها وطن واحد، بكل ما تحمله الوطنية من إجماع قومي عميق.. عاش معمر
القذافي ومات وهو لا يكف عن أكثر الأحاديث جلجلة وصخبا في كل وقت وكل حين عن الوحدة العربية والقومية العربية، حاكما بلاده بأخبث أنواع الاستبداد الأمني والسياسي، وماشيا بين القبائل والعشائر زارعا بينها الشقاق والخصومات شاريا ولاءات أطراف وانتماءات أخرى.
ليس هذا فقط، بل وحرم وطنه من أهم "جامع" تنصهر وتندمج فيه كل نزعات الخلاف والشقاق العرقي والقبلي بين أبناء الوطن الواحد، وهو "الجيش الوطني" الحق، واكتفى بأكذوبة تسليح الشعب كله. وزاد على ذلك بإلغاء وتحطيم "فكرة وكيان" كل المؤسسات التي تحفظ بنيان الدولة وقوامها، فلا برلمان ولا نقابات ولا جمعيات ولا جماعات، ناهيك طبعا عن وجود أحزاب يتعلم فيها الشباب ويتوارثون السياسة والإدارة والعمل الفكري والتنظيمي بين الجماهير..
وكانت نتيجة كل ذلك أن وجد الليبيون الطيبون أنفسهم أمام شخصيات تمثل "مخلفات" نظام اللؤم الأمني والسياسي البائد، أحدهم يقول أنا البرلمان والآخر يقول أنا الجيش.. وهو الكذب الخؤون الخوان بعينه وبكل ما يعنيه من تدليس وخداع.
وجد الليبيون الطيبون أنفسهم أمام شخصيات تمثل "مخلفات" نظام اللؤم الأمني والسياسي البائد، أحدهم يقول أنا البرلمان والآخر يقول أنا الجيش
* * *
كان الأخ العقيد تلميذا نجيبا للزعيم الخالد، زعيم العروبة ومعلم الاستبداد الأول في العصر الحديث لكل الأنظمة العربية، والذي دعم كل حركات التحرر في أوطان العالم.. ومنع كل حرية عن وطنه وأهل وطنه، بمقايضة بائسة تتمثل في "الخبز والأمن واللهو" مقابل "الخضوع والسكوت والرضا" بلا حقوق ولا حريات.. تماما كما وصف الأستاذ العقاد رحمه الله أسلوب سيطرة الإمبراطورية الرومانية على شعوبها في أصقاع الأرض، لكن الرومان كانوا سلطة احتلال مغتصب.. لا زعماء ثورات وطنية ولا قادة إصلاحات اجتماعية.
وهكذا أقام الأخ العقيد سلطة بقائه الطويل (1969-2011م) حاكما أوحد وحيدا متوحدا مع الوطن ودولة الوطن وثروات الوطن وشعب الوطن، في حماية قوات عسكرية عنيفة يقودها ابنه الأصغر خميس في ما عرفت بـ"كتيبة خميس"، والتي كانت عنوانا آخر من عناوين الكذب الرسمي، فعرفت بكتيبة "اللواء 32 المعزز للشعب المسلح". وما هي إلا كتيبة أمن النظام الخاصة الأكثر قوة وتدريبا وتجهيزا، وبالطبع الأكثر أهمية على الإطلاق.. لكنها استُهدفت سريعا بعد تدخل قوات الناتو وقت الثورة، في ما يشير إلى أنها كانت معروفة جيدا لديه، ولا يُستبعد أن يكون تدريبها وإمدادها أصلا من الغرب نفسه.
* * *
"المسألة الليبية" بعد القذافي كان من الممكن حلها بعشرات الطرق السياسية والتصالحية بين سُراة وأعيان الليبيين أنفسهم؛ لولا وجود شخص مثل حفتر بكل نزعاته الدموية الشرسة المسكونة داخل شخصية بالغة الضعف والتعقيد والانحراف، والذي تلقفه من كانوا يَجِدّون في البحث عن شخص يُفصِّلون له الدور الذي ينشدونه للساحة الليبية
باقي القادة العسكريين الذين يمثلون أدوار الجنرالات العظام في الجماهيرية العظمى؛ كان صاحب الكتاب الأخضر والنظرية العالمية الثالثة يختارهم على حسب الولاء له شخصيا، وكان يمعن في اختيارهم من السيئين والحمقى، مثل العقيد "خليفة بالقاسم
حفتر" الذي في أُسر مع 438 جنديا وضابطا في معركة "وادي الدوم" الشهيرة، وقُتل من رجال كتيبته يومها أضعافهم في الحرب مع تشاد.
بإمكان أي متابع للشأن الليبي القول بأن "المسألة الليبية" بعد القذافي كان من الممكن حلها بعشرات الطرق السياسية والتصالحية بين سُراة وأعيان الليبيين أنفسهم؛ لولا وجود شخص مثل حفتر بكل نزعاته الدموية الشرسة المسكونة داخل شخصية بالغة الضعف والتعقيد والانحراف، والذي تلقفه من كانوا يَجِدّون في البحث عن شخص يُفصِّلون له الدور الذي ينشدونه للساحة الليبية بعد الثورة وغياب "الأمن والاستقرار"، ويستعيدون فكرة الاستشراق الاستعماري في أن هذه المنطقة لا تُحكم إلا بجنرال مستبد وبالحديد والنار، كما كان في طول وعرض المنطقة العربية بعد دخولها حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
* * *
في تصويت شارك فيه عدد محدود من النواب، صوّت
البرلمان الليبي (الشرق) في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي على بند "ظريف" جدا يقول إنه بإمكان المسؤولين التنحي لثلاثة أشهر قبل الانتخابات والعودة إلى مناصبهم السابقة إن لم يفوزوا!! وبالطبع ورفض المجلس الأعلى للدولة (الغر) هذا القانون الذي تم تفصيل عدد من بنوده، خاصة البند المشار إليه سابقا، على خليفة حفتر وعقيلة صالح رئيس البرلمان..
* * *
كل من كان يراهن على انتخابات 24 كانون الأول/ ديسمبر كان كمن يطلب في الماء جذوة نار.. بلا مبالغة فأنت تتكلم عن شيء مستحيل
للأسف الشديد كل من كان يراهن على
انتخابات 24 كانون الأول/ ديسمبر كان كمن يطلب في الماء جذوة نار.. بلا مبالغة فأنت تتكلم عن شيء مستحيل.. القصة ليست حفل زفاف يرقص فيه الناس ويمرحون ولا يوجد أصلا بيت مؤثث للعروسين يستقرون فيه آمنين سعداء. للأسف ثانية، لا يوجد في
ليبيا الآن شخص قوى يتمتع بسيرة طيبة يجمع عليها عدد كبيرمن أبناء الشعب الليبي، ولا توجد أيضا "مجموعة" واحدة مجمعة ومتفاهمة فيما بينها على أهداف قومية عليا لصالح البلاد.. وهو ما يجعل المسألة الليبية كلها معقدة ومتخالفة ومتضادة فيما بين كل الأطراف؛ في مشهد مليء بالتنافر الشديد.
الأطراف المرشحة نفسها وكما وصفها أحد المراقبين "تمثل اختيارا بائسا لمرشحين من الفاسدين والمجرمين الباحثين عن السلطة ويدعمون الفوضى"، بل كانوا هم بالأساس بؤرة الفوضى والصراع الداخلي.. كل مرشح - أو أكثرهم - يرتكن إلى مليشياته الخاصة!! وفي حال رفض أحدهم لنتيجة الانتخابات التي استبعدته فمن الطبيعي أن يرفض الواقع الجديد، خاصة وأنه في هذه الحالة لن يكون مدافعا عن مصالحه فقط، بل عن مصالح إقليمية ودولية كانت هي أصلا من فصلت له دوره تفصيلا.. وكانت هي أصلا سببا أوليا ورئيسا في الانقسامات العميقة القائمة اليوم في ليبيا.
* * *
كان لا بد أن يكون هناك إجماع دولي ومحلي على استبعاد كل "رجال الماضي الأليم" من المشاركة في أي دور محتمل لـ"مستقبل آمن مستقر" طال انتظار الليبيين له، وكان لا بد من التلويح باستخدام القوة في تنفيذ هذا الخيار، وما فعله السيد يان كوبيش، المبعوث الدولي للأمم المتحدة (المستقيل)، وما تفعله الآن السيدة
ستيفاني ويليامز، المستشارة الخاصة للأمين العام لليبيا، ليس إلا "حلبا خارج الإناء" كما تقول العرب.
كان لا بد أن يكون هناك إجماع دولي ومحلي على استبعاد كل "رجال الماضي الأليم" من المشاركة في أي دور محتمل لـ"مستقبل آمن مستقر" طال انتظار الليبيين له، وكان لا بد من التلويح باستخدام القوة في تنفيذ هذا الخيار
هذه أطراف حين خُيرت بين "التصالح والتصارع" اختارت التصارع.. كيف سيكون هناك
مستقبل على أياديها أو حتى بمشاركتها؟.. هل نسي العالم أنه في الوقت الذي كان يغادر فيه الأمين العام للمم المتحدة جوتيريش؛ ليبيا في نيسان/ أبريل 2019م "مفطور القلب" كما قال بعد اجتماع فاشل بحفتر، وبعد إلغاء "المؤتمر الوطني الليبي الجامع" في مدينة غدامس (14- 16 نيسان/ أبريل 2019م) والذي كان سيجمع كل مكونات الأمة الليبية تحت رعاية أفريقية ودولية لاختيار مجلس رئاسي مؤقت، وتشكيل حكومة مؤقتة واختيار قيادة عسكرية مؤقتة. وسيكون هذا المؤتمر الجامع هو السلطة التشريعية إلى حين انتخاب سلطة تشريعية جديدة.
بعدها شهد العالم كله إعلان الفيلد مارشال هجومه واعتداءه الباغي على طرابلس قبل موعد المؤتمر بعشرة أيام.. ضاربا بكل ما تم الاتفاق عليه عرض كل الحوائط التي في الدنيا. المدهش أن العالم كله غض الطرف وقتها عن اعتدائه هذا، في قراءة بليدة لنظريات تاريخية بالية عن طرق إنهاء
الصراعات الداخلية.. لكن كما بدأت ستبقى.. فشل حفتر، كما اعتاد دائما الفشل المصحوب بالشؤم والخراب.
أتصور أن أهم وأفضل ما يمكن عمله خلال الفترة القادمة لصالح مستقبل "الأمة الليبية الموحدة" هو أن تقوم الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية والجامعة العربية بالدعوة إلى "غدامس 2".. مع إحداث بعد التعديلات الطفيفة التي تتوافق بطبيعة الحال مع الواقع الجديد.
twitter.com/helhamamy