لم يكن لمثلي أن يقتحم النقاش حول تفسيرات عصرية للقرآن لو أنها جرت بين مفسرين وعلماء مختصين، أما وأن الدعوة لهذا
التفسير صدرت من جهة سياسية وشخصيات "دولجية" فلم يعد الصمت ممكنا، فمن يقبل بالتلاعب في قدس أقداس كل مسلم، وهو
القرآن الكريم، خدمة لسلطان زائل؟! ومن يقبل ليّ عنق آيات القرآن لتخدم سياسات جائرة؟ ومن يقبل تقديم أفهام مشوهة لتغطية وتبرير ظواهر شاذة في المجتمع إرضاء لجماعات ضغط دولية؟!
الدعوة لإعداد تفسير عصري للقرآن الكريم صدرت من داخل مجلس الشيوخ
المصري (الغرفة الثانية للبرلمان)، وتحديدا من لجنته الدينية، وقد أطلقها رئيس اللجنة (يوسف أبو عامر) يوم 20 من الشهر الجاري، ودعا لمناقشتها وزير الأوقاف ومفتي البلاد بخلاف أعضاء اللجنة. وهي تأتي مواكبة لأكذوبة الدولة الجديدة التي يتحدث عنها
السيسي وإعلامه، والتي بنى لها عاصمة جديدة، ويسعى في تسويق هوية جديدة لها؛ هي الهوية الفرعونية بديلا للهوية الحالية العربية الإسلامية، ولا نستبعد أن يعلن قريبا عن علم ونشيد وطني جديدين لها أيضا.
شعار التفسير العصري هو شعار مخادع، ذلك أنه يعلن شيئا ويضمر أشياء. فالتفسير العصري إذا كان مقصودا به فهم القرآن في ضوء حقائق العصر وتطوره فهذا ما لم يمانع فيه المفسرون والفقهاء من قبل
شعار التفسير العصري هو شعار مخادع، ذلك أنه يعلن شيئا ويضمر أشياء. فالتفسير العصري إذا كان مقصودا به فهم القرآن في ضوء حقائق العصر وتطوره فهذا ما لم يمانع فيه المفسرون والفقهاء من قبل، وقد صدرت بالفعل عدة تفسيرات تحمل هذه الروح وبعضها لمفسرين مصريين مثل الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا، والشيخ طنطاوي جوهري، والدكتور مصطفى محمود وأخيرا الشيخ الشعراوي. وحتى لو كان للبعض مآخذ على هذا التفسير أو ذاك فإنها تبقى في نطاقها العلمي الديني، ولم تلبس لبوسا سياسيا. فمثلا كانت هناك معركة بين الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) والدكتور مصطفى محمود حين أصدر في العام 1969 كتابه "القرآن.. نحو فهم عصري" وردت عليه بكتابها "التفسير العصري للقرآن.. بيان للناس" وكان كلاهما (الدكتور مصطفى والدكتورة بنت الشاطئ) من أقرب المقربين للرئيس الراحل أنور السادات.
لكن المطلوب الآن هو تفسير "دولجي" لمواكبة "زفة" تعديل أو تطوير الخطاب الديني التي أطلقها السيسي منذ فترة ولا تزال متعثرة بسبب مواجهة الأزهر، وعدم قبول الرأي العام لها أيضا.
ما يؤكد أن التفسير المطلوب هو تفسير "دولجي"، أي يخدم توجهات إدارة الدولة الحالية، أن المفتي وخلال مشاركته في المناقشة صرح حسبما نقلت الصحف المصرية أن هذا الطرح يتواكب مع الجمهورية الجديدة.
يخلط هؤلاء "الدولجية" بين محاربة الإرهاب ومحاربة قيم ومبادئ الإسلام ذاته، ويعتقدون أن الإرهاب كامن في بعض هذه القيم والمبادئ، بل في بعض آيات القرآن
الداعون للتفسير الجديد لا يعجبهم تفسير ابن كثير ولا القرطبي ولا الطبري ولا الزمخشري، ولا جلال الدين السيوطي، ولا حتى المفسرين المصريين أمثال الشيخ محمد عبده أو رشيد رضا، أو الشعراوي، ولكنهم يريدون تفسيرا يحل الحرام، ويحرم الحلال، يبيح الخمور، والشذوذ الجنسي، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والنهب الاقتصادي، والتشويش الثقافي، ويحرم الخروج على الظالم، وإنكار المنكر، والدعوة للخير، باعتبار أن ذلك من وظائف الدولة المتجسدة عمليا في الحاكم وبطانته فقط!!
لو جاءت الدعوة لتفسير عصري للقرآن من داخل المؤسسة الأزهرية أو جمعيات دينية أو من علماء تفسير كبار لكان في الأمر مندوحة، ولترك النقاش فيه للمختصين، لكن منذ متى كان لمجلس تشريعي وظيفته إصدار القوانين ومراقبة الأداء الحكومي أن يتبنى مثل هذه الدعوة؟ إلا إذا كان يريد المشاركة في زفة الدولة الجديدة، وتزيين كل خبيث للحاكم ليراه حسنا فينال هي بذلك الرضا والقبول منه!!
يخلط هؤلاء "الدولجية" بين محاربة الإرهاب ومحاربة قيم ومبادئ الإسلام ذاته، ويعتقدون أن الإرهاب كامن في بعض هذه القيم والمبادئ، بل في بعض آيات القرآن، وبالتالي فهم يوجهون سهامهم إليها مباشرة مستنين في ذلك بنظرية تجفيف المنابع التي طرحها وروج لها نظام الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، وهو ما تشجعهم عليه هيئات ومنظمات دولية كبرى لا تريد خيرا بالإسلام والمسلمين، بينما ترفع كذبا شعارات حقوق الإنسان.
عند كل هجمة شرسة ضد أصول ومبادئ الإسلام تشرئب أعناق المصريين إلى الأزهر لمواجهتها بعلمائه ومفكريه، مدعوما بظهير شعبي رافض لأي مساس بدينه وعقيدته
ليس مستبعدا أيضا أن يكون أحد أهداف الدعوة الجديدة مسايرة الديانة الإبراهيمية التي يراد تعميمها في المنطقة عموما بعد موجة التهافت للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ولعلنا لم ننس الجهود التي بذلتها الحكومات المصرية من قبل لحذف آيات الجهاد، أو الآيات التي تذكر صفات بني إسرائيل في القرآن من المناهج الدراسية، ولعل أصحاب الدعوة الجديدة يرون الفرصة مواتية الآن لتقديم تفسيرات جديدة لآي القرآن تتناسب مع الديانة الجديدة، ومع النظام الدولي الجديد.
عند كل هجمة شرسة ضد أصول ومبادئ الإسلام تشرئب أعناق المصريين إلى الأزهر لمواجهتها بعلمائه ومفكريه، مدعوما بظهير شعبي رافض لأي مساس بدينه وعقيدته، وكما تصدى الأزهر من قبل لدعوات تخريب الخطاب الديني فحتما سيتصدى لهذه الدعوة الجديدة، فهذا واجبه الذي أناطه به الدستور المصري، والذي تنتظره منه الأمة كلها.
twitter.com/kotbelaraby