نشرت مجلة "الإيكونوميست" البريطانية تقريرا، تناولت فيه ظاهرة اختفاء مبالغ ضخمة من
العملات الورقية، وما يعنيه ذلك بالنسبة للبنوك المركزية ونشاط العصابات الإجرامية.
وتقول المجلة في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن سيدة شابة تدعى تارا هانلون وصلت في أحد الأيام إلى مطار هيثرو حاملة خمس حقائب. وعندما سألها ضابط الجمارك حول سبب اصطحابها لهذا العدد الكبير من الحقائب، أخبرته بأنها متوجهة إلى دبي رفقة أصدقائها ولم تعرف ما الذي ينبغي عليها ارتداؤه هناك.
إلا أن هذه التفسيرات التي قدمتها هذه الشابة الجميلة لم تقنع الضابط، فقرر إخضاعها للتفتيش. وعند فتح الحقائب عثر بداخلها على رزم من
الأوراق النقدية تصل قيمتها إلى 1,94 مليون جنيه إسترليني (2.7 مليون دولار)، مخبأة بجانب أكياس من القهوة، في محاولة لإرباك الكلاب البوليسية والتشويش على حاسة الشم لديها.
ولاحقا نشرت الوكالة البريطانية لمكافحة الجريمة صورا لرزم الأموال فوق طاولة، بعد هذه العملية التي تعد أكبر حجز للأموال في هذا العام.
تأتي هذه الحادثة في وقت تشهد فيه بريطانيا تراجعا كبيرا في الدفع نقدا، إذ أنه منذ بداية الحجر الصحي العام، قررت العديد من المحلات الاكتفاء بطرق الدفع الإلكتروني، وذلك خوفا من انتقال الفيروس عند تداول النقود يدا بيد.
وقد شهدت البلاد أيضا تراجعها بنسبة النصف في عمليات السحب من الصرافات خلال العام 2019، إلا أن هذا التراجع في الاعتماد على الأوراق النقدية كان قد بدأ حتى قبل ظهور الوباء، حيث أن خيار الدفع بالطرق الإلكترونية تجاوز لأول مرة خيار الدفع نقدا، خلال العام 2017.
ويشير الكاتب إلى أنه رغم إقبال أغلب البريطانيين على المعاملات الإلكترونية، فإن إصدار العملات الورقية يشهد انتعاشا يصعب تفسيره. إذ أن ديوان المحاسبة البريطاني، الذي يقوم بالتدقيق في كل حسابات القطاع العام، يؤكد أن كمية الأوراق النقدية من الجنيه الإسترليني تضاعفت ثلاث مرات خلال العشرين عاما الأخيرة، ووصلت قيمتها إلى 75 مليار جنيه إسترليني.
ولكن عند النظر إلى السجلات العامة لفهم أسباب هذا الإقبال على تداول النقد، نصطدم بأن ثلث هذا المبلغ فقط يتم تداوله في التحويلات اليومية الخاضعة للرقابة الرسمية.
أما بقية المبلغ، وهو 50 مليار جنيه إسترليني، فهو مختف في مكان ما، ويتم استخدامه من أطراف مجهولة.
وينقل الكاتب عن ميغ هيلي، رئيس اللجنة البرلمانية التي نظرت مؤخرا في مستقبل النقود الورقية في بريطانيا، أن "بنك إنجلترا لا يعرف أين ذهبت هذه النقود ومن استخدمها، كما أنه لا يبدو مهتما بمعرفة ذلك".
ويشير الكاتب إلى أن هذا البرود الغريب تجاه اختفاء الأموال لا يقتصر فقط على بنك إنجلترا، حيث أن البنوك المركزية في دول أخرى لا تهتم بالأموال المختفية. وقد ارتفعت القيمة الإجمالية للدولارات الأمريكية المتداولة بنسبة 16 في المائة في 2020، لتتجاوز للمرة الأولى حاجز تريليوني دولار. هذا يعني أن هنالك أكثر من سبعة آلاف دولار نقدا لكل أمريكي، إلى جانب وجود أكثر من أربعة آلاف يورو لكل مواطن في الاتحاد الأوروبي. ولكن في الولايات المتحدة كما في أوروبا وفي بريطانيا، أغلب الناس لا يستخدمون النقد إلا في دفع مبالغ صغيرة، مثل ثمن كوب من القهوة.
ويشير الكاتب إلى أن حادثة تارا هانلون التي كانت تحمل حقائب مليئة بالأوراق النقدية، تؤكد أن ظاهرة اختفاء الأموال ليست مجرد ملاحظة عابرة أو حالة طبيعية. إذ تؤكد الأجهزة الأمنية البريطانية أن ضبط هانلون ليس إلا جزءا صغيرا من المبالغ التي يتم تهريبها خارج بريطانيا كل عام.
ولإيجاد تفسير لهذه المفارقة بين تراجع عمليات الدفع نقدا وتزايد كميات النقد، كان أندرو بيلي المحافظ الحالي لبنك إنجلترا قد بحث في هذا الموضوع لسنوات، وقدم تفسيرين: التفسير الأول بحسب بيلي هو أن الأزمة المالية قوضت ثقة العامة في البنوك، وبالتالي فإن كثيرا من الناس اعتبروا أنه من الأفضل أن يحتفظوا بأموالهم في منازلهم. أما التفسير الثاني فهو أن عدد الصرافات الآلية تزايد، وهذا استدعى طباعة المزيد من الأوراق المالية من أجل تزويدها جميعا بالمال اللازم.
ولكن يرى الكاتب أن هذه التفسيرات ليس مقنعة، باعتبار أن هذه الظاهرة سبقت الأزمة المالية، كما أن الحسابات تشير حاليا إلى تراجع عدد الصرافات الآلية في بريطانيا.
أما الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي فقد قدم تفسيره الخاص لهذه المفارقة، حيث أن انخفاض معدلات التضخم جعلت حاملي المبالغ النقدية لا يشعرون بالحاجة لإيداعها في حساباتهم البنكية.
وهو يرى أن محافظة هذه الأوراق على قيمتها في السوق، تجعل حامليها لا يستعجلون في إيداعها في صناديق ادخار، خاصة أن معدلات الفائدة على المدخرات أيضا انخفضت بشكل غير مسبوق منذ 2008، وبالتالي فإن التعامل مع البنوك لم يعد جذابا.
ويرى الكاتب أن هذه التفسيرات قد تبدو مقنعة بالنسبة لشخص مهتم جدا بنسب التضخم ونسب الفائدة، ولكنها في العالم الحقيقي قد تبدو سخيفة. إذ أن الناس في الواقع لا يستعملون الحسابات البنكية لهذه الدوافع، بل لأغراض أمنية بحتة، أي أنهم يخشون من فقدان أموالهم في حال اندلاع حريق في المنزل أو تعرضه للسرقة أو غزو الفئران.
ويقول الكاتب إن الإجابة الصحيحة على هذا السؤال، بشأن الطلب الغامض على الأوراق النقدية، يمكن أن يقدمه أمريكي اسمه كينيث ريجوك، وهو جندي سابق شارك في حرب فيتنام، وكان في ثمانينات القرن الماضي يعمل في
تبييض الأموال لصالح مهربي المخدرات في ميامي.
في ذلك الوقت كان ريجوك يملأ الحقائب القديمة بالأوراق النقدية ويذهب إلى المطار ويتصرف مثل سائح غبي ذاهب في عطلة. وكان يسافر إلى البلدان الصغيرة في المنطقة الكاريبية، حيث تنشط بنوك لا تتردد في إيداع هذه الأموال باسم شركات وهمية لا وجود لها إلا على الورق، ودون طرح أي أسئلة حول مصدرها.
وما أن تدخل هذه الأموال إلى السجلات الإلكترونية، حتى يتم تناقلها بين البنوك والدول، من أجل إرباك أي شخص يرغب في تعقبها وتحديد مصدرها، وبعد ذلك تعود مجددا إلى فلوريدا، حيث يستثمرها أصحابها الأصليون في مجال العقارات، وتصبح أموالا شرعية.
ولكن يشير الكاتب إلى أن العصر الذهبي لاستغلال البنوك الأجنبية في أعمال إجرامية انتهى في أواخر الثمانينات، عندما فرضت الحكومات إجراءات رقابية مشددة، وأجبرت البنوك على مراقبة حركة الأموال، وقد زادت صرامة هذه الإجراءات بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر. ويذكر أن ريجوك نفسه تم القبض عليه وسجنه في التسعينات، وهو الآن يعمل كمستشار لدى إحدى وكالات مكافحة الجريمة.
وتضيف المجلة أن إيداع الأموال في بنوك أجنبية أصبح خيارا خطرا خلال هذه الأيام، بالنسبة للمجرمين الذين يرغبون في إخفاء أموالهم غير المشروعة. أما اللجوء إلى العملات المشفرة فهو خيار غير عملي بالنسبة لهم، إضافة إلى أن قيمتها متقلبة بشكل كبير.
لهذه الأسباب عادت العصابات الإجرامية إلى أقدم الأساليب وأكثرها بساطة، واعتمدت على طريقة تحافظ على السرية وتكون في نفس الوقت مضمونة ومقبولة لدى الجميع، وهي تهريب كميات كبيرة من النقود في أكياس وحقائب.
وفي هذا الوقت الذي تغفل فيه البنوك المركزية عن سر اختفاء النقود، يؤكد ضباط مكافحة غسيل الأموال أن الأمر لم يعد خافيا عليهم، إذ أن حوالي نصف هذه الأموال المتداولة يتم استخدامها من قبل المجرمين للإفلات من الرقابة الحكومية على النظام المالي.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك قضية تارا هانلون التي قبض عليها في المطار، إذ أنها حصلت على أجرة قدرها ثلاثة آلاف جنيه إسترليني من أجل نقل خمس حقائب إلى دبي، وكانت قد أنجزت نفس هذا العمل في رحلات سابقة. وهي في الأصل جزء من شبكة كاملة تقوم بتوصيل هذه المبالغ إلى الإمارات العربية المتحدة، حيث أدت الثغرات في أجهزة إنفاذ القانون إلى خلق مناخ مثالي لغسيل الأموال القذرة.
وأشارت المجلة إلى أن تارا هانلون لو أنها كانت تحمل أوراقا نقدية من فئة 20 و10 جنيهات إسترلينية، ولو أنها حملت أوراقا من فئة 100 دولار، لكانت احتاجت فقط إلى حقيبة ونصف، أما لو حصلت على أوراق من فئة 500 جنيه إسترليني، لكانت اكتفت بوضعها في حقيبة يد صغيرة.
هذا يعني أن الأوراق النقدية ذات القيمة العالية تسهل التهريب عبر الحدود، وبالتالي فإن الحل يكمن في إلغاء كل هذه الأوراق والاكتفاء بذات القيمة المنخفضة، لجعل التهريب أصعب.
ولكن تماما كما في كل المسائل المتعلقة بتنظيم القطاع المالي في العالم، فإن الصعوبة تكمن في إقناع كل الدول بتبني قرار مشترك والتحرك بشكل متزامن. إذ أنه لو قرر الاحتياطي الفدرالي الأمريكي إلغاء الأوراق النقدية ذات القيمة العالية، دون أن يلتحق به البنك الأوروبي، أو حصل العكس كذلك، فإن الشبكات الإجرامية سوف تنتقل مباشرة إلى التعامل بعملة الطرف الذي لم يتبن هذا القرار.
وبالتالي في غياب معجزة تدفع هذه الدول للتقيد بحل مشترك، فإن هذه المنظومة التي تستفيد منها عصابات تبييض الأموال سوف تستمر في المستقبل.
نص التقرير الأصلي