هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هذا مقال ثالث لي، متمّم لمقالَين سابقَين متتاليَين، نشرَتْهما «القدس العربي» يومي 12.5.2020 و26.5.2020، كان أوّلهما بعنوان: «حكومة فلسطين في المنفى»، وكان ثانيهما بعنوان: «لماذا حكومة فلسطينية في المنفى.. لماذا مقرّها في الجزائر؟».
لكن، ورغم التساؤل «..لماذا مقرّها في الجزائر؟» في المقال الثاني، فقد تجاوزت الرد على هذا في آخر لحظة، وانهيت ذلك المقال، بـ»أمّا لماذا أرى أن يكون مقرّ حكومة فلسطين في المنفى في الجزائر تحديداً، فهذا حديث طويل ومتشعّب، جدير بأن يقال عندما يحين وقته».
لقد حان الآن وقته، في اعتقادي، بعد أن انتهت القطيعة، وإن كانت جزئية، بين رئيسي الشرعية: الرئيس الجزائري الأسبق، عبد العزيز بوتفليقة، والرئيس الفلسطيني، محمود عبّاس. ولا بد هنا من التأكيد على أن تلك القطيعة الجزئية لم تتجاوز العلاقة المباشرة بين الرئيسين إطلاقاً، ولم تتفشَّ لا إلى جماهير الشعبين الشقيقين، بل ولم تَطَل إلا بعض الشكليات الجانبية وغير الجوهرية، مع ملاحظة لا بد منها، وهي أن الجزائر لم تتوقف حتى في السنوات العشر الأخيرة من عهد الرئيس بوتفليقة عن أيٍّ من التزامها والتزاماتها تجاه القضية الفلسطينية، والشعب الفلسطيني، وممثله الشرعي الوحيد: منظمة التحرير الفلسطينية.
لا بديل عن حوار فلسطيني حقيقي وجاد، تشترك فيه كل الفعاليات الفلسطينية: الداخل الفلسطيني، وداخل الداخل، والتجمعات الفلسطينية في دول اللجوء والشتات
يعود تفضيلي واقتراحي أن تكون الجزائر هي المقر الرسمي لحكومة فلسطين في المنفى لأسباب عديدة، لعلّ أهمها:
1ـ أن لفلسطين في ضمير جماهير الشعب الجزائري الشقيق، بكافة فئاته، دون استثناء، مكانة مميّزة تماماً.
2ـ أن الجزائر عانت من استعمار استيطاني أشبه ما يكون بما يعاني منه الشعب الفلسطيني؛ وانتصرت بثورتها المجيدة، بفضل تضحية مليون ونصف مليون شهيد، وبسالة ثوّارها ومقاتليها ومناضليها؛ وتمكّنت من تحرير كل أرض وطنها، وكنْس جميع المستوطنين/المستعمرين؛ وهي الأصلح، بين مجموع الدول العربية الشقيقة، (بل وربما دول العالم)، لأن تكون قدوة لفلسطين.
3ـ من بين الدول العربية الشقيقة الإحدى عشرة، القادرة على تحمّل العبء الفلسطيني، (وهو عبء كبير وثقيل)، بكل أبعاده، (وهي كثيرة ومتشعبة ومتداخلة)، فإن الجزائر هي الدولة الوحيدة القادرة على تحمّل هذا العبء: بسياساتها الثابتة والمتواصلة تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، دون انقطاع، وبتاريخها المجيد وتاريخ ثورتها الخالد، وبشعبها (50 مليون نسمة تقريباً)، ومساحتها الهائلة، واقتصادها المتماسك، وتحالفاتها على الصعيد الدولي.
أما عن بقية الدول العربية الشقيقة العشر فيمكن أن نقول:
ـ الأردن ومصر، مرتبطتان بعلاقة مع العدو الإسرائيلي. ولا مصلحة للفلسطسنيين في إحراجهما، وخاصة في ضوء ما قد يحمله المستقبل من تطورات على صعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ـ لبنان وتونس تحمّلتا، (مشكورتان جداً)، عبء الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية لأكثر من عقد واحد لكل منهما. ولن ينسى الفلسطينيون ما قدمته الدولتان وجماهير شعبيهما الشقيقين، من دعم ومساندة للشعب الفلسطيني طوال سنوات ضيق.
ـ سوريا، (بالإضافة الى كل ما في بعض تاريخ العلاقة من مرارة)، والعراق واليمن، والسودان، (بالإضافة الى طعنة التقارب مع العدو الإسرائيلي)، تمر جميعها في مرحلة بالغة القسوة، وليس من الحكمة إضافة عبء الى ما تعانيه من أعباء.
ـ تبقى بعد ذلك السعودية، ولظروفها الخاصة، ولاحتياجاتها الأمنية وغير الأمنية، ولخلافاتها، ولتحالفاتها، يجدر بالفلسطينيين الإبتعاد عن إمكانية إحراجها.
ـ أما في ما يخص المغرب، فإن التطورات الأخيرة على الصعيد المغربي الإسرائيلي تجعلها خارج دائرة التفضيل من جانب فلسطين.
ثم: هل يمكن لاختيار الجزائر مقرّاً للحكومة الفلسطينية في المنفى، ما قد يكون سبباً في تعقيدات وانعكاسات سلبية على العلاقات الفلسطينية مع أي من الدول العربية الشقيقة الأعضاء في جامعة الدول العربية؟
لا أعتقد ذلك. ولكن، ومنعاً لأي سوء فهم للخطوة الفلسطينية، فإنه من الضروري إجراء اتصالات، وإجراء محادثات غير معلنة، مع جميع الدول العربية، والتوضيح مسبقاً للخطوة الفلسطينية، ومن البديهي أن تكون الجزائر هي المحطة الأولى في هذا التحرك السياسي.
أولاً لاستمزاج رأي الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبّون، والحكومة الجزائرية، وتنسيق الخطوات الفلسطينية اللاحقة معهم؛ والتوضيح للأشقاء في الجزائر أن فلسطين هي ضحية الإحتلال والإستعمار الإسرائيلي، وهي الطرف الضعيف، وهي التي تسأل: من مع فلسطين؟، ولا تقبل أن يوجّه لها سؤال مثل: مع أي طرف تقف فلسطين؟. ويذكُر الأشقاء في الجزائر أن ثورتهم المجيدة، وجيش التحرير الجزائري، كان على علاقة متواصلة مع جميع الأطراف العربية دون استثناء، من مصر أيام الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، إلى ملِكي المغرب الراحلين، محمد الخامس والحسن الثاني، ومع تونس الرئيس بورقيبة، وملك ليبيا إدريس السنوسي، ومع السعودية والأردن وسوريا والعراق وجميع الدول العربية الأخرى، بل ومع قيادات وشيوخ وأُمراء شعوب عربية لم تكن قد تخلّصت بعد من الإستعمار المباشر.
ـ يلي ذلك التنسيق مع مصر، القاعدة الحضرية الحقيقية للهرم العربي، والتي كانت على مدى التاريخ الظهر الصلب الذي يحمي فلسطين من أيام الهكسوس والغزو الفارسي، مرورا بكل الطامعين بأرض فلسطين، (جرّاء موقعها الجغرافي المميز والذي لا شبيه له تقريبا)، من الامبراطوريات الغاربة: الإغريق والرومان وغيرهما، ووصولاً الى الحروب الصليبية، والإنتصار الحاسم بقيادة صلاح الدين الأيوبي، عندما نجح بالتنسيق التاريخي والتكامل بين وادي النيل وبلاد الشام، وانتهاء بدور وتضحيات مصر في مواجهة الحركة الصهيونية وإسرائيل، وآخرها، (حتى الآن)، بالتنسيق مع سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
ـ أما الأردن فهو ليس مجرّد شقيق لفلسطين، إنّه الشقيق التوأم، وله مع فلسطين الحدود الأطول، (335 كيلومتراً)، وتشابه وتطابق في اللهجة والعادات والتقاليد وترابط العلاقات العائلية بالدّم وبالنسب، وهو المستهدف الأول للحركة الصهيونية بعد فلسطين، وحماية النضال والدور الفلسطيني مصلحة أردنية كما هو مصلحة فلسطينية.
ـ واضح أيضاً أن بالإمكان تشكيل فريق فلسطيني جزائري مشترك، يتواصل مع بقية الدول العربية، (بل وبعض الدول الحليفة والصديقة المؤثرة في الإقليم وفي العالم)، ويبحث ويوضح أبعاد الخطوة الفلسطينية.
يبقى بعد ذلك «بيت القصيد»، الساحة الفلسطينية. لكن، حتى لو اعتبرنا أن «حكومة فلسطينية في المنفى، ومقرها الجزائر»، هي بيت القصيد، فإن الساحة الفلسطينية تكون «عنوان بيت القصيد»، فهي الأساس المتين، هي الأداة، ومصلحتها هي الهدف، ومنها الإنطلاق، لها منافعه إن نفع، (كما أعتقد وأرجو)، وعليها مضارّه، (لا سمح الله)، إن أخطأ الهدف.
لا بديل عن حوار فلسطيني حقيقي وجاد، تشترك فيه كل الفعاليات الفلسطينية: الداخل الفلسطيني، وداخل الداخل، والتجمعات الفلسطينية في دول اللجوء والشتات. منظمة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها وتنظيماتها وحركاتها، وجميع الحركات والجبهات الفاعلة في الساحة الفلسطينية، والمستقلون والكفاءات الفلسطينية الممُيّزة في كافة الحقول، لتنتهي كل جولات الحوار والنقاش الى نتيجة تدعمها الأغلبية، (إذا تعذّر الإجماع).
في ضوء الإنقسام المؤذي، والمشين، في الساحة الفلسطينية، وفي ضوء ما أوصلته السنوات العجاف الماضية من أضرار بالغة وشبه قاتلة بالعمل الوطني الفلسطيني، منذ سنة 2007 وحتى الآن، فإن «حكومة فلسطينية في المنفى» تتمثل فيها كل الفعاليات الفلسطينية، دون استثناء، مؤهلة لأن تكون الوريث الجدير والشرعي لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تعذّر إصلاحها حتى الآن، وتخضع لقراراتها كل السلطات والهيئات التي انبثقت عنها، وتتولى كامل المسؤوليات وتقود العمل الفلسطيني، الى حين انجاز المرحلة الأولى من التحرير، وتحوّل كل الحركات والفصائل والتنظيمات الى أحزاب سياسية، تتنافس من خلال صناديق الإقتراع في انتخابات نزيهة حقيقية، لبرلمان فلسطيني يشكّل حكومات تحظى بثقة أغلبية فيه، ومعارضات تحاول وتجرب حظها في دورات انتخابات كل اربع او خمس سنوات، حسب ما تقرره أغلبية أعضاء ذلك البرلمان.
حكومة فلسطينية في المنفى، حرة في حركتها، بعيدا عن حماية جيش وقوات أمن الاحتلال الإسرائيلي لتحركاتها وتنقلاتها، غنية عن استرضاء العدو لتمييز أعضائها عن بقية أفراد شعبها ببطاقات الـ»شخصيات هامة جدأ» والأقل أهمية وصولاً الى بسطاء المواطنين العاديين، وكأنها عودة الى عصور الظلام، عصور «الباشا» و»الأفندي» و»البيك».. يتحرك أعضاؤها بحرية وبقرار مستقل، ويستقبلون من يريدون من مسؤولين وغير مسؤولين في العالم، دون استئذان سلطات العدو الإسرائيلي واستجدائها، ودون أي تنسيق مع أي طرف كان.
* كاتب فلسطيني