هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شهد مطار الخرطوم مطلع الأسبوع المنصرم حادثة بسيطة الوقائع ولكن عظيمة الدلالات، فقد كان إبراهيم الشيخ بصدد السفر مع عائلته إلى القاهرة عندما تم منعه من ذلك، والشيخ هذا كان وزيرا للصناعة حتى انقلاب عبد الفتاح البرهان على الحكم في 25 تشرين أول (أكتوبر) المنصرم، وقيامه بإلغاء كافة هياكل الحكم، وكان للبرهان ثأر شخصي مع الشيخ هذا لأنه طالب قبل الانقلاب بأيام بإزاحة البرهان من قيادة الجيش ورئاسة مجلس السيادة الذي تشكل عقب الإطاحة بنظام عمر البشير في نيسان (أبريل) من عام 2019، ومن ثم كان الشيخ من الوزراء الذين زج بهم البرهان في السجن لما يزيد قليلا على الأربعة أسابيع.
كانت غاية إبراهيم الشيخ من السفر إلى مصر عيادة أخته التي تم نقلها إلى هناك بعد أن ساءت حالتها الصحية خلال وجود الشيخ في السجن، وبعد أن أكمل إجراءات الصعود إلى الطائرة، جاءه رجلان قالا إنهما من "أمن المطار"، وأبلغاه أنه محظور من السفر بأمر مجلس السيادة، فما كان من الشيخ إلا أن اتصل هاتفيا لتقصي صحة الأمر بـ "الهادي إدريس" الذي نال عضوية مجلس السيادة حسبما يقضي اتفاق جوبا للسلام بين الحركات المسلحة والحكومة، ومن حيث الناحية القانونية والدستورية فإن إدريس وكافة أعضاء المجلس السيادي يتمتعون بنفس الصلاحيات التي يتمتع بها البرهان، بمعنى أن كون البرهان رئيسا للمجلس لا يعطيه أي صلاحيات خاصة تعلو فوق صلاحيات الأعضاء الآخرين.
لم يأت اتصال الشيخ بالهادي بأي نتيجة، ولكن الشيخ وبموازاة ذلك اتصل برئيس الوزراء عبد الله حمدوك وأبلغه بأمر منعه من السفر، وما زال ينتظر منه رداً، ومن هنا تأتي الدلالات العظيمة لتلك الحادثة، وهي أن حمدوك، وهو من الناحية الفنية والقانونية والدستورية صاحب أعلى سلطة تنفيذية في السودان، بلا حيلة أو سلطة من الناحية العملية حتى لإبطال قرار منع مواطن من السفر، وهو قرار لا يقوم على أي سند من القانون لأن حرية الحركة والسفر مكفولتان بنص الوثيقة الدستورية التي تشكلت بموجبها هياكل الحكم الانتقالي في السودان، والتي لا يفتأ البرهان وحمدوك الزعم بأنهما يمارسان صلاحيات الحكم بهَدْيِ نصوصها، ولا يملك مجلس السيادة مجتمعا أو رئيسه منفردا حق منع مواطن من السفر، وبهذا يتضح أن حمدوك بات مدركا أنه لم يعد يملك حتى سلطة إعطاء أمر واجب التنفيذ لرجل أمن في المطار.
كان حمدوك قد فقد منصبه بأمر البرهان عند حدوث الانقلاب العسكري في 25 تشرين أول (أكتوبر) المنصرم، ثم عاد إليه في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بموجب اتفاق ثنائي بينهما يجعل الانقلاب نافذا من الناحية "التطبيقية"، أي أن الاتفاق يجعل البرهان شخصيا، أو مستترا وراء لافتة مجلس السيادة صاحب الشأن في كل أمور الحكم، بينما يبقى رئيس الوزراء نمرا من ورق بلا أنياب أو أظافر، ولا ذكر لأي سلطة له أو لغيره في ذلك الاتفاق باستثناء اختيار وزراء من التكنوقراط، وحتى هنا أبلغوه أنه لا شأن له باختيار ممثلي أطراف اتفاق السلام الأخير في مجلس الوزراء، وهذه الأطراف كانت ولا تزال داعمة للانقلاب.
ما بات مؤكدا هو أن حمدوك في كامل التناغم مع البرهان وإجراءاته الانقلابية، وأنه لا يمانع في وضع كافة السلطات التنفيذية أو معظمها في يد البرهان، وبات مؤكدا أيضا أنه بذلك فقد معظم السند الشعبي الذي ظل يحظى به طوال العامين الماضيين،
وهناك اليوم تسريبات لا يمكن القطع بصحتها بأن حمدوك كان ضالعا في الانقلاب وليس فقط على علم به، وأن وضعه رهن الحبس في منزله كان فيلما هنديا على غرار الفيلم الذي أخرجته الجبهة الإسلامية في حزيران (يونيو) من عام 1989 عندما نفذت انقلابا عسكريا، ومن باب التمويه أرسلت رئيسها حسن الترابي إلى السجن حبيسا وعمر البشير قائد الانقلاب إلى القصر رئيسا، ويستدل مروجو تلك التسريبات على ذلك بأن عسكريين تواصلوا مع قوى شعبية قبل تنفيذ الانقلاب وطلبوا منها خلق كيان يشكل حاضنة شعبية سياسية لحمدوك تكون بديلا لتحالف قوى الحرية والتغيير، وهناك جهد مكشوف من حمدوك اليوم لتكوين تلك الحاضنة والخلاص من قوى الحرية والتغيير التي أسندت إليه رئاسة الحكومة والتي تنفرد بسلطة اختيار وزراء السلطة التنفيذية حسب الوثيقة الدستورية.
وما بات مؤكدا هو أن حمدوك في كامل التناغم مع البرهان وإجراءاته الانقلابية، وأنه لا يمانع في وضع كافة السلطات التنفيذية أو معظمها في يد البرهان، وبات مؤكدا أيضا أنه بذلك فقد معظم السند الشعبي الذي ظل يحظى به طوال العامين الماضيين، فالرفض الشعبي للانقلاب كاسح، وكل من يركب سفينة الانقلاب مرفوض شعبيا، وهذا ما أكدته المواكب الضخمة التي تخرج أسبوعيا رافضة توافق البرهان وحمدوك على الانفراد بأمور الحكم (عبرت عن ذلك لافتات ضخمة في موكب خرج في الثالث من الشهر الجاري تقول: يا حمدوك من دخل مظلة البرهان فقد خان).
وما هو مؤكد أيضا هو أن السودان سيشهد خلال الأسابيع القليلة المقبلة تصعيدا شعبيا لرفض الانقلاب وما ترتب عنه، وتتولى هذا التصعيد ما يسمى بلجان المقاومة وهي كيانات نشأت في كل المدن والبلدات خلال الحراك الشعبي لإسقاط نظام عمر البشير، وما زالت هي الأكثر قدرة على تحريك الشارع لأنها لا تخضع لأجندة تنظيم سياسي معين أو أكثر، ويقينا سيرتفع قريبا شعار إزاحة حمدوك من المشهد تماما، ما لم يقم حمدوك بالاستدارة 180 درجة للخروج من بيت طاعة البرهان، ويقينا فإن البرهان والطاقم الانقلابي سيلجأون بإزاء كل ذلك إلى المسار الوحيد الذي يجيدون المضي فيه: القمع المفرط، ومعلوم أن العنف في مواجهة الثورات الشعبية يزيد تلك الثورات عنفوانا.
وفي سياق كل ما هو حادث اليوم في المشهد السياسي في السودان وما سيحدث حتما في المستقبل القريب سيكون الخاسر الأكبر هو حمدوك الذي ضيعه العسكر بتوريطه في نهجهم الانقلابي، وأضاع نفسه بأن رضي بأن يكون أداة في يد العسكر يعطلون بها إقامة نظام حكم مدني حقيقي.