باتت غالبية البلدان العربية تقف على خط الدول الطاردة للعقول؛ بسبب خليط من السياسات الخاطئة التي تتبعها الأنظمة العربية على الصعيد الاقتصادي وتوزيع الثروات، بالإضافة إلى الفساد الذي بات أحد أهم أساليب هذه الأنظمة في إدارة سياساتها الوطنية.
تظهر استطلاعات الرأي والمراصد المختصة بالهجرة ارتفاع نسبة الراغبين في
الهجرة من البلاد العربية، ويلاحظ الخبراء ارتفاع عدد عمليات البحث على جوجل؛ التي يجريها المواطنون العرب في ما يتعلق بالهجرة، ما يعكس نزوعاً لدى شرائح عربية عديدة في البحث عن فرص أفضل للحياة، فلم تعد بلدانهم قادرة على توفير الحد الأدنى منها.
وبالإضافة لما سبق، ثمّة أسباب وعوامل متراكبة تقف خلف هذه الظاهرة، من ضمنها تراجع توقعات
الشباب وخريجي الجامعات والمعاهد العليا حول إمكانية تحقيق عوائد مادية وقيم مضافة، كالمكانة الاجتماعية نتيجة حصولهم على شهادات جامعية، في ظل الانتشار الواسع لبطالة الخريجين، وانخفاض - إن لم يكن اضمحلال - ميزانيات البحث والتطوير في مؤسسات الدول العربية، بالتراكب مع انخفاض قيمة العملات الوطنية وتراجع مستويات المعيشة إلى أدنى المستويات.
يلعب العامل السياسي دوراً مهما في تنمية اتجاهات هجرة العقول العربية وتحوّل البلدان العربية إلى جهات طاردة للخبرات، وخاصة بعد فشل ثورات الربيع العربي، واتجاه السياسة إلى مزيد من الانغلاق، وتراجع فرص التغيير السياسي
ويلعب العامل السياسي دوراً مهما في تنمية اتجاهات هجرة العقول العربية وتحوّل البلدان العربية إلى جهات طاردة للخبرات، وخاصة بعد فشل ثورات الربيع العربي، واتجاه السياسة إلى مزيد من الانغلاق، وتراجع فرص التغيير السياسي، وانعدام الثقة بالنخب السياسية وانكشاف فسادها، فضلاً عن انتشار ظاهرة المحاسيب الاقتصادية التي أدت إلى احتكار رؤوس الأموال ضمن دوائر ضيقة قريبة من السلطات الحاكمة، أو هي من صناعتها في أحيان كثيرة. وهذه لا تخضع لقوانين عمل واضحة، وتمارس المحسوبية والوساطة لدى اختيار
الكفاءات، ولا تمنح الآخرين ما يكافئ إمكانياتهم وقدراتهم وإنتاجيتهم.
مقابل ذلك، هناك دول بدأت تضع ميزانيات وخططا لجذب العقول، وبدأ ينتشر مصطلح "حرب عالمية لتصيّد العقول"؛ تتنافس في إطارها مجموعة من الدول عبر تقديم التسهيلات والامتيازات، وتبرز في هذا الإطار الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان وبعض دول أوروبا. وتعاني هذه الدول من ظاهرة الشيخوخة، أي زيادة عدد كبار السن وتراجع نسب المواليد فيها، وحاجتها لدماء جديدة وخاصة للعمل في قطاعات معينة بدأ مواطنو تلك البلدان بهجرانها.
هناك دول بدأت تضع ميزانيات وخططا لجذب العقول، وبدأ ينتشر مصطلح "حرب عالمية لتصيّد العقول"؛ تتنافس في إطارها مجموعة من الدول عبر تقديم التسهيلات والامتيازات
الدول المستهدفة في الغالب هي الهند والصين ودول جنوب شرق آسيا؛ نظراً لوجود خبرات في إطار التكنولوجيا وتقنيات المعلومات، وقدرة مواطني هذه البلدان على التكيف مع نمط الحياة في هذه المجتمعات والاندماج فيها.
لكن ذلك لا يعني أن المجتمعات العربية ليست في إطار الاستهداف، ففي فرنسا مثلا يتم استقبال آلاف المراهقين والشباب من بلدان المغرب العربي، صحيح أن أغلبهم يصل إلى فرنسا بطرق التهريب والهجرة غير الشرعية، لكن يتم وضعهم في المدارس المتخصصة وخاصة في مجال التخصصات المهنية (كهرباء، ميكانيك، نجارة.. الخ)، وتنجح ألمانيا في دمج عشرات آلاف اللاجئين الذين وصلوا إليها في السنوات الأخيرة في أسواق العمل لديها.
بالإضافة لذلك، من الممكن ملاحظة استقطاب أعداد كبيرة للأطباء والممرضين العرب في بلدان أوروبا في السنوات الأخيرة، وقد كشفت أزمة كورونا عن وجود أعداد كبيرة من هذه التخصصات في العيادات والمشافي الأوروبية، وجزء مهم من هؤلاء وصل في السنوات الأخيرة، وخاصة إلى المانيا وفرنسا وهولندا. بالتزامن مع ذلك، باتت هذه القطاعات (الطب والتمريض) تشهد نقصاً حاداً في الكوادر في العديد من البلدان العربية.
تحتاج أي حكومة، وجراء تعقّد وتطوّر حاجات المجتمعات، إلى خبرات في مجالات تقديم الخدمات وتسيير الشؤون العامة. وعدا عن كون الخبرات موارد مهمة، فهي تكلف الدول كثيراً لتأهيلها وبنائها، سواء على صعيد المال أو الوقت، وليس من السهولة تعويض النقص إذا حصل بأشكال دراماتيكية، وسينعكس هذا النقص، ليس فقط على مستوى الخدمات المقدّمة، بل أيضاً على إمكانيات تطور الدول ولحاقها بالركب العالمي.
هجرة العقول هي إحدى أبرز مخرجات السياسات الكارثية التي تعتبر النخب العربية الحاكمة أبرز منتجيها، ولن تتوقف هذه الظاهرة ما لم يكن هناك أمل بإحداث تغييرات سياسية تشعر في ظلها المجتمعات العربية بقدر من الاحترام
وبدلاً من ذلك تتصاعد في البلدان العربية حالات إدمان المخدرات بين الشباب، والتي لا يمكن فصلها عن المناخ العام في هذه البلدان، والذي يسوده الإحباط لدى شرائح الشباب من إمكانية تحسن الأوضاع أو إيجاد ظروف مناسبة للعيش بكرامة؛ في ظل حكم نخب عسكرية تهدر كرامة البشر، ونخب اقتصادية تمتص دماءهم، وبالتالي انعدام وجود أفق للخروج من هذه المتوالية الكارثية التي تقوم على الفساد وعدم الكفاءة وهجرة العقول وتكسّر أحلام وطموحات الشباب؛ وانضمامهم إلى قافلة الفقراء والمحرومين.
هجرة العقول هي إحدى أبرز مخرجات السياسات الكارثية التي تعتبر النخب العربية الحاكمة أبرز منتجيها، ولن تتوقف هذه الظاهرة ما لم يكن هناك أمل بإحداث تغييرات سياسية تشعر في ظلها المجتمعات العربية بقدر من الاحترام. وإلى ذلك الحين، ستستقطب بعض الدول المحتاجة لهذه الكفاءات المزيد والمزيد منهم.
twitter.com/ghazidahman1