قضايا وآراء

لبنان ما بين الاستقلال والتبعية

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600
يحتفل لبنان سنويا في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر بـ"عيد الاستقلال"، وهو اليوم الذي استقلت فيه البلاد عن فرنسا عام 1943. والسؤال هنا والذي قد يبدو ساذجا: هل استقل لبنان بالفعل، وأصبح له السيادة على أرضه، وأصبح يملك قراره الحر؛ غير عابئ بأي ضغوط خارجية من الدولة التي منحته استقلاله بالأوراق والتوقيعات وانسحب جيشها، تاركة رجالها الذين صنعتهم على أعينها يملؤون فراغها؟

لقد رحلت فرنسا عن بلاد الأرز، حاملة معها جغرافية لبنان وممسكة بخيوط اللعبة في قبضة يدها، تحرك رجالها كعرائس المارونيت كيفما تشاء، لتحكم لبنان من باريس كما تريد!

أعتقد أن استقالة "جورج قرداحي"، والتي جاءت بناءً على طلب ماكرون - كما قال بلسانه - خير برهان على أن فرنسا لا تزال تحكم لبنان، ولا ننسى أيضا أن "ماكرون" هو من فك "سعد الحريري"، رئيس حكومة لبنان حينها، من أسر ابن سلمان حينما احتجزه عنده وأهانه وأجبره على الاستقالة على الهواء!

أضف إلى ذلك أن الاستعماري الجديد "ماكرون" والذي يحلم بعودة الإمبراطورية الفرنسية، كان أول من وصل إلى بيروت فور حادثة انفجار المرفأ معلناً أنه راعي الشعب، ومتجاهلاً النخبة الحاكمة، بل أخذ يهددهم ويتوعدهم، وأعطاهم مهلة ستة أشهر لمعالجة الأزمات الاقتصادية في البلاد وتشكيل حكومة جديدة..
لا يزال لبنان في حضن فرنسا، ولكن انضم إليها شركاء آخرون لم يكونوا في حسبانها حينما سلمته أوراق الاستقلال

نعم لا يزال لبنان في حضن فرنسا، ولكن انضم إليها شركاء آخرون لم يكونوا في حسبانها حينما سلمته أوراق الاستقلال، وهم السعودية وسوريا وأخيرا إيران. وهذه الأطراف يبدو أنها استطاعت تنظيم خلافاتها بما يحقق مصالحهما في لبنان، رغم تقاطعها وتضاربها.

وحكومة ميقاتي الأخيرة ولدت على يدي فرنسا وإيران مما أغضب السعودية غضباً شديداً، وهي التي كانت ترى أنها الشريك الأساسي في حكم لبنان بعد اتفاق الطائف الذي تم بوساطة سعودية- سورية عام 1989، منهياً بذلك الحرب الأهلية في لبنان، والتي امتدت أكثر من خمسة عشر عاما، لتبدأ بعدها الحقبة الحريرية بابن السعودية البار، رئيس الوزراء الراحل "رفيق الحريرى"، وليزداد نفوذ السعودية داخل لبنان، وإن كانت سوريا أيضا قد نالها جانب كبير من ذلك النفوذ بوجود جيشها ومخابراتها على أرض لبنان بحجة منع اندلاع أي حرب أهلية جديدة. وعُرفت تلك الفترة "بحقبة الوصاية السورية"، والتي امتدت أكثر من خمسة عشر عاماً، ثم أجبرت سوريا على الانسحاب بعد اغتيال رفيق الحريرى واندلاع ثورة الأرز عام 2005، بموجب قرار مجلس الأمن الدولي 1559.

ومن الطريف أن المتظاهرين في ثورة الأرز، والذين أطلق عليهم جماعة "14 آذار"، يتزعمهم "وليد جنبلاط" رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، و"سمير جعجع" رئيس حزب القوات اللبنانية، و"أمين الجميل" رئيس حزب الكتائب، و"ميشال عون" رئيس التيار الوطني الحر، والذي جاء من منفاه في باريس، و"سعد الحريري" رئيس تيار المستقبل، في أول ظهور له على الساحة السياسية، وآخرون من القادة السياسيين التقليديين بالوراثة السياسية. وقد رفعوا شعارات: "حرية، سيادة، استقلال"، وكل هؤلاء أول مَن طالبوا بإقالة "جورج قرداحي"، رضوخا للشرط السعودي، ونسوا كلامهم عن السيادة والاستقلال، ولم يشعروا بالمهانة لدولتهم الحرة المستقلة ذات السيادة؛ أن تقبل بإقالة وزير في حكومتها تنفيذاً لطلب دولة أخرى!

لقد اعتبرت السعودية أن "جورج قرداحي" أهان المملكة إهانة لا تغتفر، فقررت أن تعاقب الشعب اللبناني كله وتطرد السفير اللبناني وتسحب سفيرها من بيروت، وفرضت عقوبات اقتصادية وهددت بطرد الآلاف من اللبنانيين العاملين في المملكة. وحذت حذوها الإمارات والبحرين والكويت، بينما اكتفت كل من قطر وسلطنة عُمان بإصدار بيانين ينددان فيه بتصريحات "قرداحي" التي وصف فيها الحرب في اليمن التي استمرت سبع سنوات بالعبثية وأنه يجب أن تتوقف، مع العلم أن هذا التصريح كان في برنامج تلفزيوني سابقا لتوليه وزارة الإعلام بشهرين.

ألم يقل كثير من المسؤولين والسياسيين في الغرب والكتّاب - وأنا واحدة ممن كتب - أن الحرب في اليمن عبثية وتسببت بقتل وإصابة عشرات الآلاف من اليمنيين، وأهلكت الحرث والنسل ودمرت اليمن تماما وأعادته للعصر الحجري، وقد طالب الجميع بإيقافها على الفور؟ إذن ما الخطأ أو الجريمة الكبرى التي ارتكبها قرداحي والتي جعلت السعودية تقيم الدنيا ولا تقعدها؟ وهل تجرؤ السعودية أن تتخذ ذلك الموقف الحاد تجاه أية دولة غربية هاجمتها على لسان مسؤوليها بسبب حربها العبثية في اليمن؟!

ولماذا لم تشعر المملكة بالمهانة، عندما كان ترامب يهين الملك "سلمان" في خطاباته ويقول "سأحلبهم ويجب أن يدفعوا مقابل حمايتنا لهم، ولولانا ما بقوا في أماكنهم"، إلى آخر ذلك من سيل الإهانات التي وجهها للسعوديين، فلماذا صمتوا عن إهانات متواصلة من قادة ووزراء غربيين؟ حقا أسد عليّ وفي الحروب نعامة..

لا شك أن أسلوب التصعيد الذي اتبعته السعودية مع لبنان يدل على مدى المراهقة التي يدار بها النظام الملكي السعودي..

وعلى الرغم من أن تصريحات "قرداحي" قد لامست جرح ابن سلمان الذي ينزف منذ سبع سنوات، إلا انها ليست جوهر الأزمة، بل العكس كانت فرصة استغلتها السعودية لتفجير أزمة مفتعلة، تخفي وراءها الأزمة الحقيقية بين السعودية وإيران في اليمن وسيطرة حزب الله على لبنان، أي النفوذ الإيراني فى لبنان، وخاصة أن "جورج قرداحي" محسوب على الحليف الإيراني، فهو من حصة "سليمان فرنجية"، رئيس تيار حزب المردة، حليف حزب الله والنظام السوري.
كانت فرصة استغلتها السعودية لتفجير أزمة مفتعلة، تخفي وراءها الأزمة الحقيقية بين السعودية وإيران في اليمن وسيطرة حزب الله على لبنان، أي النفوذ الإيراني فى لبنان، وخاصة أن "جورج قرداحي" محسوب على الحليف الإيراني

وهذه الحكومة في لبنان تشكلت بعيداً عن السعودية ولا تضم وزراء موالين لها، وهي التي كانت تشكل الحكومات مع النظام السوري ويتقاسمان الحصص. و"لنبيه بري" رئيس مجلس النواب قول شهير "س س"، فباتفاقهما تُحل الأزمات اللبنانية، وبخلافهما تتعقد الأزمات في لبنان..

لا شك أن السعودية شعرت بالإحباط لعدم قدرتها على التأثير في الساحة اللبنانية، رغم إنفاقها عشرات المليارات في لبنان، ولكن تبين لها أخيراً أن الرابح منها سياسيا هو التيار الموالي لإيران!

ومما يؤكد كلامي هذا ما قاله وزير الخارجية السعودي "فيصل بن فرحان" لوكالة رويترز؛ من أن الأزمة أبعد من مجرد تصريح لقرداحي، مضيفا: "أعتقد أن من المهم أن تصيغ الحكومة في لبنان أو المؤسسة اللبنانية مسارا للمضي قدما بما يحرر لبنان من الهيكل السياسي الحالي الذي يعزز هيمنة حزب الله"..

حرص ماكرون قبل زيارته إلى السعودية لحل الأزمة؛ أن يرضيها وينفذ رغبتها بإزاحة قرداحي بالاتفاق مع إيران. وأعتقد أن حزب الله تنازل تكتيكياً مقابل إزاحة القاضي طارق البيطار، الذي يحقق في حادث انفجار مرفأ بيروت والذي يريد حزب الله إبعاده أو خلعه عن ملف التحقيق، وبذلك يكون قد أرضى الطرفين السعودي والإيراني..

إن مصيبة لبنان أن عدة دول تحكمه، منها السعودية وإيران، وكلاهما مع أتباعهما اللبنانيين أسوأ من بعضهما البعض!

ولكن يبقى السؤال: هل باستقالة "جورج قرداحي" ستحل الأزمة السعودية- اللبنانية؟ الإجابة جاءت على لسان قارئ النشرة في قناة العربية السعودية والتي تعبر عن توجهات النظام، حينما أعلن المذيع عن الاستقالة التي تزامنت مع قراءته للنشرة، متحدثا عن "خبر عاجل غير مهم".

وعلى الرغم من تلك البدعة السعودية في نشرات الأخبار التي لم تسبقها إليها أية قناة إخبارية عالمية، والتي قد تبدو مضحكة، إلا أن قارئ الخبر قد صدق، فالاستقالة ليست مهمة ولا هي بيت القصيد بالنسبة للسعودية كما أشرنا سلفاً، وإن كانت نصراً معنوياً للمراهقين السياسيين في المملكة!
لن تحل المشاكل السياسية والاقتصادية في لبنان، ولن تفتح له خزائن السعودية من جديد لحل أزمته المالية والوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد، ولن تكون هناك استثمارات أو منح أو قروض، وهو ما تطلبه الحكومة اللبنانية وتسعى إليه

السعودية تريد من السلطات اللبنانية تحجيم حزب الله وإبعاده عن الحكومة وتقليم أظافره، أي نزع سلاحه، وهي مطالب تعجيزية لا تقوى أية حكومة عليها، وهي تدرك ذلك تماما، فدور حزب الله له علاقة بالواقع الإقليمي والدول، وحل إشكاله يأتي أيضا من خارج الدولة اللبنانية..

ولذلك لن تحل المشاكل السياسية والاقتصادية في لبنان، ولن تفتح له خزائن السعودية من جديد لحل أزمته المالية والوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد، ولن تكون هناك استثمارات أو منح أو قروض، وهو ما تطلبه الحكومة اللبنانية وتسعى إليه، وغاية ما في هذه الوساطة الماكرونية هي إعادة السفراء، وإن كان الوسيط قد عاد إلى بلاده وفي جعبته عقود بصفقات أسلحة بأكثر من 20 مليار دولار؛ ينقذ بها الاقتصاد الفرنسي والذي تأثر كثيراً بكورونا والمقاطعة!

لا شك أن لبنان الجميل والذي كان درة الشرق؛ يعيش في أزمة بسبب تعقيدات الوضع الإقليمي والدولي وتضاربهما معا، ودائما وأبدا يدفع المواطن اللبناني المسكين ثمن هذه الأزمات!

twitter.com/amiraaboelfetou
التعليقات (0)