اشتهر في ثمانينيات القرن الماضي وما بعده برنامج على أثير إذاعة البرنامج العام
المصري كان اسمه: "أغرب القضايا". ظل البرنامج في الذاكرة وما يزال للطف دراماه القائمة على قضية جنائية اعتيادية غالبا، فيما كانت موسيقاه مخيفة على النقيض تماما مما تحياه مصر اليوم شكلا ومضمونا، خاصة ما حدث فيها منذ قرابة الشهر؛ من دراما غريبة تجاوزت القارات وخلطت بين السياسة والثقافة والآثار.
إذ أفرجت السلطات الأمنية بصعوبة بالغة في 20 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي عن "آيدا" البريطانية، بعد أن احتجزتها لمدة 10 أيام كاملة بلياليها، متجاسرة على حبس "إنجليزية" في سابقة نادرة، ولكن مع "آيدا"، فإن "السوابق" ستكثر حتى لتذكرنا ببيت الشعر العربي الموجز القديم:
والليالي من الزمان حُبالى*** مثقلات يلدن كل عجيبة!
ففي حين لم يقصر السفير البريطاني في القاهرة غاريث بايلي باتخاذ الإجراءات المناسبة في مثل هذه الأجواء المتأزمة؛ من التواصل على أعلى مستوى مع المسؤولين حتى وقت قليل جدا قبل الإفراج عن "آيدا"، إلا أن "أهلها" كادت تذهب عقولهم بسبب ما تفعله سلطات الجمهورية الجديدة المُدّعاة؛ بـ"فنانة" همها الأول والأوحد في الحياة أن تبدع فنا تشكيليا هو الأول من نوعه في تاريخ العالم على الإطلاق. وتم إرسال "آيدا" لمصر لتشارك في أول معرض للفن المعاصر يُقام إلى جوار الأهرامات في سابقة أولى منذ آلاف السنين. بل إنه بحسب "الغارديان" البريطانية أيضا، فإن "آيدا" تم اتهامها بأنها جاسوسة جاءت للبلاد للتجسس وتهديد
الأمن القومي المصري، ولذا تم إيداعها في "مخازن الجمارك"، رغم أن الدعوة وُجهتْ إليها رسميا من وزارتي الآثار والخارجية معا؛ للمشاركة بالمعرض الذي افتتح في اليوم التالي بعد ساعات من تكرم السلطات بالإفراج عنها، بعد حدوث شبه أزمة دبلوماسية بين البلدين.
أما ما ثار قبلها، فيشبه الجنون لشركة استشارات عالمية مسؤولة عن مشاركة "آيدا"، فلعل موجزه ما قاله أحد مسؤوليها بأن ما تنبأ به مواطنه البريطاني الكاتب جورج أوريل عام 1948م، في رواية "1984" أصبح واقعا حقيقيا. ويقصد أن الكاتب أبدع في تشخيص واقع الديكتاتوريات في زمانه والإمكانية المذهلة لتفاقمها، خاصة في سياق التقدم التكنولوجي المتوقع أن يتحقق الآن على أرض "أم الدنيا".
فقد توقعت رواية "1984" بأنه سيتم مراقبة المواطنين ومعاقبتهم عبر شاشات تلفزيونية عبقرية في التجسس، تودي بحياتهم إن تجاسروا على مخالفة السلطات. وهو بالفعل ما فعلت أكثر منه السلطات الأمنية المصرية مؤخرا؛ فـ"آيدا" التي هي أول "روبورت" أو إنسان آلي عالمي مخصص للإبداع في الفن التشكيلي؛ صارت "جاسوسة خطيرة"، وعزز ذلك "التوهم" لدى السلطات أن لها "مودم"؛ والأهم لدى السلطات "العبقرية" المصرية، أن لها عينين آليتين "تستخدمهما حصرا في الرسم وطلاء الألوان". وهذا تحديدا مربط فرس لدى عباقرة الأمن المصريين، وهو ما دفع مخترع الروبوت الفنان إيدان ميلر للقول - في نفاد صبر - قبيل الإفراج عنها: "احتجز حرس الحدود آيدا في البداية لأن لديها مودم، ثم لأن عينيها تحتويان على كاميرات؛ يمكنني التخلص من أجهزة المودم، لكن لا يمكنني فعلا أن أغمض عينيها"، مضيفا في
سخرية مريرة: "كان السفير البريطاني يعمل طوال الليل لإطلاق سراح آيدا"!
فمع تمادي السلطات المصرية في قمع معارضيها والتخلص منهم، وصل الأمر بها إلى أن عكست تصور أوريل، تصورت النقيض تماما، فبدلا من افتراضه تجسس الدولة على المواطنين بـ"أعين
التكنولوجيا" أو "التلفزيونات المبصرة"، اعتقد أشاوس الأمن أن أعين "آيدا" التشكيلية جزء من منظومة بريطانية/ عالمية للتجسس على البلاد والعباد، وكأنه يوجد في مصر ما يخفى عن الأخيرين.
ثم كيف تصور أولاء أن "آيدا" المشحونة عن طريق حقائب حساسة متخصصة بالشحن الجوي، يمكنها - إن تم تركيبها - إبصار ورصد أسرار مصر المخابراتية ونقلها للعالم؟! ربما لأنهم علموا أن مشروعها اكتمل منذ عامين فحسب، وتم إنفاق ملايين الجنيهات الإسترلينية عليها لتحسين ذكائها الاصطناعي، فكل هذه المعلومات مع الحقائب المتخصصة؛ خاصة مع رؤية "آيدا" مفككة لأجزاء صغيرة، أثارت أسئلة عن الحالة الفنية، وتكفي كتابة اسم الروبوت "آيدا" على موقع البحث المعروف "جوجل" للتخلص منها ومن هلعها.
وربما أثارت هذه الحقائق الواضحة القوية "الشهية المخابراتية" لدى الديكتاتورية القامعة للحرية، وعلى رأسها حرية الإبداع في مصر، وقد ندم أصحاب المعرض الذين دعوا إليه فنانين عالميين. فقد جاءت "آيدا" مُصنعة بحرفية فنية عالية للتجسس على مصر بتقنيات ليس لها مثيل عالميا؛ وكأن الأوهام التي يُسجن ويُعذب ويُطلق الرصاص بسببها على المصريين، فضلا عن أن يطاردوا ويستشهدوا؛ قد تطورت حتى صارت تطارد حتى "فنانة إلكترونية" ذات تجربة فريدة عالميا. وهذا إجمالا ما جعل السفارة البريطانية في القاهرة تسخر ضمنا من الموقف العبثي كله؛ إذ أعربت في 21 تشرين الأول/ أكتوبر "عن سعادتها لحل القضية"!
رحم الله مصر وأهلها من طوفان واستبداد وقمع نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي تجرأ وطال واستباح كل ما هو منطقي وبنّاء وفنان ومبدع في مصر، ووصل حتى إلى الوافدين لفترة قصيرة عليها؛ خاصة لو كان جهازا إلكترونيا عبقريا لا عهد له به ولا محبة له معه، بل لديه فرط خوف جنوني من انتشار روح الرغبة في التحرر والإبداع منه للمصريين.. فربما تجاسروا على التخلص من الجنرال نفسه!