هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لابد أن الأستاذ صباح فخري -رحمه الله- يشكل في أذهان أهل الشام وما حولها مثالا لرصانة الغناء وجديته، ويدعم ذلك تركيز هذه التجربة وحفظها للحظات الطرب الفريدة والتي وصلت إلينا بصوته ذي المساحة الممتدة وخامته المميزة.
تتراكم تجربة الغناء والطرب الممتدة بعنصريها الجمعي والفردي بالدرجة الأولى؛ العنصر الجمعي بما توارثته الأجيال عبر تاريخ الطرب العربي منذ ما روي عن مجالس الطرب وحتى بدايات القرن المنصرم، وبالدرجة الثانية بما اجتهد به هذا المبدع الذي وهبه الله صوتا لا مثيل له، بما اجتهد وواظب على حفظ هذا الموروث والحرص على تعلمه وأخذه من أهله الحقيقين. ومن أفضل من أهل حلب وأفذاذ هذه الصناعة فيها؟! من أفضل منهم كي يشرب صافي الجُمل الطربية ويرتوي من أسرار الصنعة؟!
مِن أهم شيوخ الأستاذ صباح فخري الشيخ عمر البطش الأستاذ المجدد والمجيد لهذا الفن. بحسب الدكتور سعد الدين آغا القلعة هو سيد درويش الشام. ومنهم أيضا الأستاذ محمد رجب والأستاذ ابراهيم جودت. وقد كانت الموسيقى آنذاك تقتصر وتختص في الأغلب بالغناء الديني والمديح النبوي كما يشترط بمن أراد أن يسلك هذا الطريق أن يكون صاحب امتداد كبير في الصوت وهذا شرط لا يمكن التنازل عنه، فأهل حلب آنذاك كانوا بشروطهم - التي قد تبدو تعجيزية في زماننا- يشكلون سياجا متينا يطوي أي فكرة غير جدية قد تلوح لهاو يريد أن يحترف الغناء.
لذلك قد يبدو من الطبيعي أن نسمع وخاصة في بداية ظهور صباح فخري وانتشاره عربيا أراء كلاسيكية تقلل من قيمة ما يقدمه وتتهمه بتخريب الطرب الحلبي. ليس لقلة في عربه الصوتية أو قصر في مساحته ولكن لخروج الأداء عن مألوف ما تمرست عليه آذانهم وتشربت به قلوبهم وعرفته أرواحهم. وكل من سمع الأستاذ أديب الدايخ والأستاذ حسن حفار سيعرف معنى ذلك.
ظهرت علامات نبوغه مبكرا في حلب وأصبح يُدعى للإنشاد في المناسبات الدينية، وفي أثناء زيارة الأستاذ سامي الشوا عازف الكمان الشهير لمدينة حلب سمع صوت هذا الفتى وأعجب به وظل يصحبه في جولاته في المدن السورية، ثم أشار على أهله أن يرجع معه لمصر ليكمل دراسته الموسيقية ويتفاعل مع الجو الموسيقي فيها، لكن جدلا واسعا نشأ بين الأستاذ سامي الشوا وبين الأستاذ الشاعر فخري البارودي حول بقاء هذه الموهبة في الشام واستكمالا دراسته فيها بعد أن تم انشاء المعهد الموسيقي حديثا واستقدام أساطين الفن آنذاك للتدريس فيه.
كان القرار هو البقاء في دمشق ودراسة وتعلم الموشحات وأساليب الغناء العربي الأصيل في ذلك المعهد ثم استمرت المسيرة في دمشق ورجوعا إلى حلب بعد تأسيس إذاعة حلب سنة 1956 ثم منذ الستينات بدأ عهد الاحتراف لديه.
تدين الأذن العربية للأستاذ صباح فخري بحفظه وأرشفته لأكثر من ألف موشح ولحن كانت ستكون من ضمن المجاهيل لولا إحساسه بالمسؤولية التاريخية نحو ما يقدم من فن، بل وجديته ودأبه بإعطاء هذه الأعمال الكثير من وقته وجهده وروحه وحياته.
بعد انتشاره على نطاق واسع، أخذ هذا الفنان بأداء ألوان أخرى من الموروث الشامي لمدن غير حلب مثل أغنياته (العزوبية) و(أول عشرة محبوبي) من دمشق و(أنا في سكرين) بصورتها النهائية والتي انشرت في حمص من كلمات الأستاذ بدر الدين الحامد وألحان الأستاذ نعسان الحريري.
بمثابرة واجتهاد الأستاذ صباح فخري أصبح كل ما يؤديه فيما بعد يعتبر ركيزة ومرجعاً للتراث يقيس كل عربي مدى انزياح الألحان الجديدة، قربها أو بعدها من التراث الغنائي الأصيل. كان هو المساهم الأبرز بتكوين صورة الغناء الفردي الذي يلتزم بقواعد وأساسيات الطرب الذي خبره التاريخ الموسيقي. وتراكم هذه التجربة وامتدادها زمنيا ربما أثر على أساليب أخرى كانت منتشرة قبله لكن لم يكتب لها الخلود. ولم يستطع الصمود أمام هذا الاجتياح الكبير سوى ما صنعه الأستاذ عبد الحليم نويره في أداءه الجماعي للتراث الموسيقي العربي، وتجارب من أبرزها ألحان الأستاذ فؤاد عبد المجيد والتي برقت كشهاب عابر وامض أنار في بداية ثمانينيات القرن المنصرم ثم اختفى.
يذكر هذا الفنان في إحدى مقابلاته تجارب له في التلحين بل وبغناء أنماط مختلفة غير التي عرفناها عنه. لكن تركيزه الأبرز على حفظ الموروث هو ما جعله أيقونة مشعة تحرس تاريخنا.
نقل الأستاذ صباح فخري الغناء الديني والمديح إلى صورة تتوافق مع الذائقة العربية وتدخلها من باب الطرب الحلبي وهنا يكمن سر نجاحه وانتشار أغانيه بشكل كبير. هذه الخلطة التي وفق لها جعلت من صوته رسالة صادقة تعتبر التاريخ الطربي أستاذا متربعا على افئدة كل من يتذكرون الماضي ويحتفلون به ويجعلونه خبزا لحياتهم المليئة بالمتاعب.