وكأنه جرى تناسخ للمشاهد، حتى استقر في وجداننا أن المشهد
السوداني شاهدناه من قبل، وكأنه صورة طبق الأصل لما جرى في مصر!
يضيق الإخوة في السودان، ومن الأطياف السياسية المختلفة، من اندفاع المصريين لإسقاط الحالة المصرية على ما يجري في بلادهم، فالانقلاب في السودان ليس انقلاباً على حكومة منتخبة كما هو الحال في مصر، وعلى رجل صالح كالدكتور محمد مرسي، وهو قول فريق يبرر تماهيه مع ما جرى، أما الفريق الذي وقع عليه الانقلاب فيرفض تماماً استدعاء مبادئ الثورة الرخوة في مصر، لتكون ميزاناً للحكم في السودان، وذلك في ما يختص بتبرير رفضه الذهاب للانتخابات، وباعتبار أن الانتخابات السريعة قبل التخلص من الدولة العميقة (كما يفعل هو)، أنتجت حكماً ضعيفا على نحو مكن من الانقلاب عليها!
والتعليق على الرأيين ليس موضوعنا الآن، فما قصدته بتطابق الحاصل هنا وهناك، هو من حيث الاحتماء في العسكر، فكل الأطراف السياسية احتمت بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة واستقوت به، والذي تعامل معها على أنها مجموعة من الأغبياء فاستبدل طرفاً بطرف، واستغل شهوة الحكم والتمكن عند كل الأطراف في الإطاحة بها جميعاً. وهو ما يفعله الآن في السودان، تماماً كما حدث في مصر، على نحو يجعل من العسكري أذكى إخوته، وهو اللاعب الفائز في كلتا الحالتين، وإن كان ذكاؤه ليس مقطوعاً به وهو يكرر نفسه هنا وهناك. وإن غباء القوى المدنية، من أقصى اليمن إلى أقصى اليسار، فيه قولان، فلن نجزم باتهامها بالغباء ولكنها الحماقة التي أعيت من يداويها!
ما يفعله الآن في السودان، تماماً كما حدث في مصر، على نحو يجعل من العسكري هو أذكى إخوته، وهو اللاعب الفائز في كلتا الحالتين، وإن كان ذكاؤه ليس مقطوعاً به وهو يكرر نفسه هنا وهناك. وإن غباء القوى المدنية، من أقصى اليمن إلى أقصى اليسار، فيه قولان، فلن نجزم باتهامها بالغباء ولكنها الحماقة
عقب تنحي مبارك، فإن الجميع ذهبوا للمجلس العسكري محلقين ومقصرين، وبعد أن كان الثوار أمة واحدة، تفرقت بهم السبل، واهتموا بجمع الغنائم، فكانوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. وكل الأطراف تحتمي بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة من أجل تصفية الطرف الآخر، وعندما كانت الثورة في عامها الأول فإن الاستقواء كان متبادلاً، وكان العسكر هم من يعزفون والجميع يرقصون على أنغامهم، وما تضمنه الدستور الحالي بعد تعديله من تمكين المجلس المذكور من أن يكون وصياً على الدولة المدنية؛ هو فكرة القوى السياسية المدنية، لأنها كانت تدرك أن الانتخابات سيفوز الإسلاميون بها، فمن يضمن تبادل السلطة؟!
وقد كتبت عن هذا في حينه، ودار سجال بيني وبين أحد فقهاء القوم ونحن في طريقنا لأستوديو قناة الحرة من القاهرة، عندما زف لي بشرى هذا الطلب في لجان الحوار التي رعاها المجلس العسكري الحاكم، لكنه فوجئ بي أقول له إن هذا خطأ كبير، لأنه ضد طبائع الأشياء أن يكون العسكر هم الأوصياء على الدولة المدنية!
وعندما سألني: ومن يحمينا من الإخوان؟ قلت له الشعب والقانون، فإن كان لا بد من جهة للاحتكام إليها فلتكن المحكمة الدستورية العليا بعد إعادة تشكيلها بشكل موضوعي، كما كانت في البداية، قبل أن يعبث بها مبارك في سنوات حكمه الأخيرة!
استقواء الإخوان
وفي المقابل، فإن الإخوان كانوا يستقوون بالمجلس، وجعلوا خياره خيارهم، حتى عندما كان يتحدث عما وصفته حينذاك بـ"مرشح العلبة" للانتخابات الرئاسية، وقد استفادوا مبكراً من هذه العلاقة، فهم - دون غيرهم - من كان لهم ممثل في لجنة إعداد التعديلات الدستورية، عشية سقوط مبارك، ثم جرى الرضوخ لهم في تحديد موعد الانتخابات النيابية، وفي تحديد موعد واحد لقبول طلبات الترشيح لمجلسي الشعب والشورى، مع أن الانتخابات لن تجرى في وقت واحد، وفي تمكين الأحزاب من المنافسة على ثلث المقاعد الحزبية. وكان هذا بعد مظاهرات دعوا لها، وإن شاركهم فيها حزب الوفد، وإذ أراجع الآن زاويتي اليومية التي كتبتها في هذه الفترة بجريدة "الدستور"، فقد كتبت محذراً من أن هذا سيكون مثار طعن في دستورية هذا الإجراء، وهو ما حدث فعلا!
وعندما أعلن الدكتور محمد البرادعي انسحابه من الترشيح للانتخابات الرئاسية، لأنه ليس واثقاً في نزاهتها في ظل تغول المؤسسة العسكرية، كان من سخر منه وهجوه هم الإخوان، والذين كانوا في هذا الوقت في انتظار المرشح الرئاسي الذي يقرره المجلس العسكري!
والدعوة لاستدعاء العسكر لم تبدأ من قبل المدنيين بفوز الرئيس محمد مرسي، ولكنها بدأت بعد انتخابات البرلمان، حيث ذكرتني هذه "اليوميات" بذلك. وكثيراً من تفاصيل هذه الفترة نسيناها بفعل تكالب الأحداث علينا، على نحو لم يمنحنا فرصة لالتقاط الأنفاس وتذكّر ما جرى وتأمله!
واستمرت عملية الاستقواء بالمجلس يشترك فيه الطرفان، لأنه كان يجمع بينهما شعار "لقد ولى زمن الانقلابات العسكرية"، وإذ فقد الإخوان الثقة في المكون العسكري بانقلاب 3 تموز/ يوليو، فقد استمرت ثقة القوى المدنية فيه إلى أن قرر السيسي خوض الانتخابات الرئاسية، ثم فتح لهم السجون، ونكّل برموزهم، فمن لم يستقبله السجن ظل في بيته مهاناً، ليكون عبرة لمن يعتبر!
هذا الاستقواء حدث في السودان من جانب المكون المدني، الذي احتكر الثورة، ونصّب نفسه ولياً عنها ووصياً عليها، ولأنه يدرك أنه ليس منافساً جاداً في أي انتخابات نزيهة، فقد استقوى بالمؤسسة العسكرية، بعد استيفاء الشكل، من خلال إبعاد وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف والقبول بالبرهان، والذي جاء لمنصبه متخطياً الرقاب
يحدث في السودان
وهذا الاستقواء حدث في السودان من جانب المكون المدني، الذي احتكر الثورة، ونصّب نفسه ولياً عنها ووصياً عليها، ولأنه يدرك أنه ليس منافساً جاداً في أي انتخابات نزيهة، فقد استقوى بالمؤسسة العسكرية، بعد استيفاء الشكل، من خلال إبعاد وزير الدفاع أحمد عوض بن عوف والقبول بالبرهان، والذي جاء لمنصبه متخطياً الرقاب. وأعطى أولياء أمر الثورة شرعية لمليشيات شكلها البشير لحمايته، فباعته عند أول منعطف، وظن القوم أنهم سيكونون أصحاب فضل على
البرهان وحميدتي، في تجاهل تام لوقائع التاريخ، ولما حدث في الجارة مصر، فدائما حالة الاستعلاء تدفع للإيمان بأننا لسنا الآخر، فالسودان ليس مصر، تماماً كما كانت مصر ليست تونس!
واستغل المكون المدني هذه الحماية العسكرية في أن ينتقم من الخصم السياسي وتصفية حساباته معه، من خلال اللجنة سيئة الصيت المسماة لجنة "إزالة التمكين"، والتي تذكرنا بلجان المصادرة والحراسات في الانقلاب العسكري الأول في مصر، والتي استباحت أعراض الرجال، واستولت على أملاكهم.
لم تكن هذه التصرفات تنتمي إلى الثورة التي خرجت على الاستبداد، ولكنها الحرب والمكيدة، وظل العسكري ينظر إليهم بدون رفض أو إدانة لهذه المظالم، فلما قضى منهم وطراً، كان الانقلاب الصريح، عندما اعتقدت القوى المدنية أنها تستطيع أن تجرده من السلطة بناء على الوثيقة الدستورية. فهل كانوا "مغمى" عليهم عندما ظنوا بالعسكر أنهم من يتخلون عن السلطة ولو رضوخا لعقد وقعوا عليه؟.. فهل هي الحماقة أم المادة الخام للغباء؟!
لم تكن هذه التصرفات تنتمي إلى الثورة التي خرجت على الاستبداد، ولكنها الحرب والمكيدة، وظل العسكري ينظر إليهم بدون رفض أو إدانة لهذه المظالم، فلما قضى منهم وطراً، كان الانقلاب الصريح، عندما اعتقدت القوى المدنية أنها تستطيع أن تجرده من السلطة بناء على الوثيقة الدستورية
ولم يكن أمام القائد العسكري السوداني إلا أن يقرأ من ذات المنهج الدراسي المقرر على العسكريين في المنطقة، فلم يخترع العجلة، فقد استبدل حليفاً بحليف، ودغدغ مشاعر "الكيزان"، بحل لجنة إزالة التمكين، وأفرج عن الرجل الأول في الحزب الحاكم سابقاً إبراهيم الغندور، في إشارة لا تخطئ العين دلالتها. فهل يستطيع المكون المدني أن يقول لنا ما هو المسوغ القانوني لاعتقال الرجل من قبل لجنة الإزالة هذه، والرجل فقد نفوذه السياسي ليس فقط بالثورة، ولكن قبل قيامها بعام عندما عزله البشير من منصب وزير الخارجية بسبب خطاب معارض له في البرلمان؟!
ولكن في المقابل، لم يعترض العسكريون على هذا القرار، وتركوا المكون المدني يرتكب الكثير من المظالم ضد المنتمين لحزب الأغلبية، وآخرين من دونهم ينتمون للتيار الإسلامي، وإن كانوا في خصومة مع الحزب الحاكم، فبدا انتقامهم من التيار الإسلامي بمن فيهم من خرجوا على البشير!
وإذ انتهى زواج المتعة بين العسكر والمكون المدني، فإن جماعة الانقلاب يكررون نفس السيناريو، بالتقارب مع حزب البشير ومن يمثله في الشارع، وأغلبيته من خصوم التيار المدني الذي كان في الحكم. ولا تسألني عن هذه الجماهير التي احتشدت في مليونية 30 تشرين الأول/ أكتوبر، فالأغلبية منها ضد الانقلاب العسكري ولا تعطي تأييدها للمدنيين، وإلا لكانت فرصة - وقد تأكدوا من شعبيتهم - في الدعوة لانتخابات الآن بإشراف دولي، ليزاح العسكر بإرادة الناس!
لقد عزل البرهان النائب العام وعددا من قيادات النيابة العامة، وأعاد اعتقال من أفرج عنهم، في سياق القطيعة مع المكون المدني والتقرب من "الكيزان"، وهو يريدهم كما أراد السيسي المدنيين؛ لمسافة السكة. وفي النهاية فإن العسكري السوداني كما العسكري المصري لا توجد لديه فواتير لأحد، فينتظر الفرصة ليأخذ الجميع حصته من الاستبداد، وكما خضع المكون العسكري لهم بالقول في البداية، فسيخضع لهم المكون الكيزاني وهو يستأصل شأفة الخصم السياسي!
ويبدو هذا الخضوع مبرراً في الدول التي شهدت أنصاف ثورات، فالثورات الكاملة لها قواعد أخرى للتصرف، وقد جاء رجال الشاه من قيادات الجيش والشرطة، إلى الخميني، مُهطِعِين مُقنِعِي رُؤوسهم فرفضهم، لكن العجز وطول الأمل، هو ما يجعل ورثة أنصاف الثورات يعتقدون أنهم الأذكى من أصحاب التجارب السابقة، ليمارس عليهم العسكر نفس المقرر الدراسي، بالنص، لتبدو النتائج صدمة وكأنها سياسة تمارس لأول مرة!
إن العسكري ليس أذكى إخوته.. غاية ما في الأمر أن إخوته يتسمون بالحماقة!
twitter.com/selimazouz1