انتهت الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) وانتصر الحلفاء بقيادة أمريكا، وكالعادة وكما يحدث دائما، اجتمع المنتصرون ليقتسموا غنائم الحرب، والتي كانت عبارة عن "كوكب الأرض". كانت مدينة يالطا الأوكرانية هي مكان اجتماعهم: الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت (1882-1945م)، والرئيس السوفييتي جوزيف ستالين (1878-1953م)، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل (1874-1965م). انتهى الاجتماع الذي أقر واقعا واستحدث وقائع، وذهب كل في طريقه.
إلا أن الرئيس روزفلت كان مقررا له سلفا أن "يدلف" في رحلة العودة عبر البحار إلى بلاد الشرق الأوسط ليلتقي بأهم زعمائها.. كان الطراد "يو إس إس كوينسي" دونا عن كل قطع البحرية الأمريكية؛ من نال شرف هذه اللقاءات التي سيدخل بها التاريخ، والتي ستدخل بها المنطقة العربية تاريخا آخر تماما.
اللقاء الأول بدأ بأهم ملوك الشرق، الملك فاروق (1920-1965م)، ملك مصر والسودان وفي اليوم التالي مباشرة التقى الملك عبد العزيز آل سعود (1876-1953)، ملك المملكة العربية السعودية، ثم الملك هيلا سيلاسي، ملك إثيوبيا!
لقاء 14 شباط/ فبراير مع الملك عبد العزيز انتهى بتوقيع "اتفاقية كوينسي" باللغتين العربية والإنجليزية، وكان أهم مقرراتها "توفير الولايات المتحدة الحماية اللا مشروطة للسعودية"، مقابل بعض المطالب الأمريكية الضرورية؛ وبالطبع كان على رأسها أهم استراتيجياتها في الشرق الأوسط عبر كل العصور: النفط وإسرائيل. الاتفاقية كانت لمدة 60 عاما، انتهت عام 2005م وتم تجديدها 60 عاما أخرى في عهد الرئيس بوش الابن.
سنعلم أنه وبعد سبع سنوات من هذا الاجتماع بالغ الأهمية، فقد ذهب السفير الأمريكي جيفرسون كافري الى الملك فاروق في قصر رأس التين بالإسكندرية، في صبيحة يوم صيفي قائظ الحرارة (23 تموز/ يوليو 1952م) ليطلب منه مغادرة البلاد، ولم يجادل الملك فاروق كثيرا وغادر
لكن لقاء 13 شباط/ فبراير مع الملك فاروق والذي حضره فقط أحمد حسنين باشا، رئيس ديوانه، لم نعرف حتى كتابة هذه السطور ماذا دار فيه، ومن غير المعقول أن يتم لقاء على هذا المستوى وفي هذا التاريخ الفاصل بين زمنين وعهدين؛ ولا يكون فيه "موضوع" يٌكتب ويٌوثق. ما الذي عرضه الرئيس روزفلت كما حدث في اليوم السابق مع الملك سعود؟ وما الذي قبله أو رفضه الملك فاروق؟.. لا أحد يعلم.
لكننا سنعلم أنه وبعد سبع سنوات من هذا الاجتماع بالغ الأهمية، فقد ذهب السفير الأمريكي جيفرسون كافري الى الملك فاروق في قصر رأس التين بالإسكندرية، في صبيحة يوم صيفي قائظ الحرارة (23 تموز/ يوليو 1952م) ليطلب منه مغادرة البلاد، ولم يجادل الملك فاروق كثيرا وغادر، وكان سعادة السفير شخصيا في وداعه مع اللواء محمد نجيب.
سنعرف من أ. د. محمد عبد الوهاب سيد في كتابه المهم "العلاقات المصرية الأمريكية.. من التقارب إلى التباعد 1952- 1958"، والذي صدر في القاهرة عام 2018 عن دار الشروق، أن كافري كان هو محور الأحداث جميعا في مصر في تلك الأيام الباكرة من حركة الضباط.
وسنعرف بعدها أن العلاقة بين مصر وإسرائيل ستكون هي المبتدأ والخبر في علاقة أمريكا بمصر عبر كل العصور، ليس فقط لأن
إسرائيل دولة يهودية، ولا في تحولها إلى مجتمع يهودي يعيش في حضن العرب.. ولكن لأنها رأس حربة العالم الغربي (أوروبا وأمريكا) في قلب الحضارة العربية الإسلامية. كان هذا، وهو كائن كما نرى ونعيش، وسيكون، إلى أن يتم تغيير كل ذلك في يوم ما، وعسى أن يكون قريبا.
سنعرف بعدها أن العلاقة بين مصر وإسرائيل ستكون هي المبتدأ والخبر في علاقة أمريكا بمصر عبر كل العصور، ليس فقط لأن إسرائيل دولة يهودية، ولا في تحولها إلى مجتمع يهودي يعيش في حضن العرب.. ولكن لأنها رأس حربة العالم الغربي (أوروبا وأمريكا) في قلب الحضارة العربية الإسلامية
* * *
حين أتى إريك لوران، المصري الفرنسي اليهودى العتيق، إلى مصر سنة 1963م مبعوثا من جريدة اللوموند ليرى ويسمع ويكتب عما يجرى في القاهرة ثم يعود، قابل "الزعيم الخالد" الذي أكد له أنه لا يمانع من أن يقيم العرب سلاما كاملا مع إسرائيل إذا تم حل مشكلة اللاجئين أو تعويضهم.
سنفهم من الكتاب أن فكرة السلام بين "العرب إسرائيل" هي فكرة قديمة قِدم إسرائيل نفسها، وكل تسويات وترتيبات المنطقة ما بعد مؤتمر يالطا ما كانت إلا تحت ظل القبول بهذه الفكرة قبولا تاما.
* * *
على خلفية كل ذلك نستطيع أن نرى ونفهم أكتوبر السياسة.. بعد أكتوبر الحرب، سنعرف من كل ما كُتب عن تلك الفترة ممن عاصر وشارك؛ أن الزعيم الخالد كان سيذهب - بعد مبادرة روجرز الشهيرة - إلى ما هو أكثر وأبعد مما ذهب إليه الرئيس السادات بعد
حرب أكتوبر العظيمة..
على خلفية كل ذلك نستطيع أن نرى ونفهم أكتوبر السياسة.. بعد أكتوبر الحرب، سنعرف من كل ما كُتب عن تلك الفترة ممن عاصر وشارك؛ أن الزعيم الخالد كان سيذهب - بعد مبادرة روجرز الشهيرة - إلى ما هو أكثر وأبعد مما ذهب إليه الرئيس السادات بعد حرب أكتوبر العظيمة
وهو أشد ما كان يقلق ويرهق الفريق عبد المنعم رياض (العسكري الاستراتيجي العملاق)، وقد أحب أن يضع الموقف كله في نصابه الصحيح ويغلق كل باب دون باب الحرب، فصرخ صرخته الفصيحة التي ستُكتب على أستار الزمان كل طلعة شمس: "لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة.. عندما أقول شرف البلد فلا أعني التجريد.. وإنما أعني شرف كل فرد.. شرف كل رجل وكل امرأة". وقد كان، الحمد لله حمداً كثيرا على نعمته وعلى هذا البلد وأهل هذا البلد.. أن في تاريخهم حرب رمضان/ أكتوبر العظيم.
وسيبقى سؤال الرئيس السادات (1918-1981م) للفريق أول محمد فوزي (1915-2000م) وزير حربية الزعيم الخالد بعد الإفراج عنه من اعتقالات 15 أيار/ مايو، وكان ذلك في شباط/ فبراير 1974م في استراحة القناطر، كما حكى فوزي: "بذمتك يا فوزي عبد الناصر كان ح يحارب..؟".. سيبقى هذا السؤال علامة استفهام بحجم بحور الدمع التي سكبها المصريون مرارة وحزنا وهمّا وكمدا على أرضهم وشهدائهم في أم الهزائم (حزيران/ يونيو 1967م).
* * *
112 رسالة تبادلها الرئيس السادات وهنري كيسنجر (98 سنة)، وزير الخارجية الأمريكي وقتها، في الفترة بين شباط/ فبراير وتشرين الثاني/ نوفمبر 1973، عبر قناة للاتصالات السرية بينهما، وبلغ نشاطها خلال الأسابيع التي بدأت بيوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1973، والذي أرسلت فيه أهم وأخطر رسالة: "نوايا مصر من خوضها حربا ضد إسرائيل". كان الطرف المصري في هذه الاتصالات هو السيد محمد حافظ إسماعيل (1919-1997م)، الذي كان يشغل آنذاك منصب مستشار الأمن القومي برئاسة الجمهورية.
الأستاذ هيكل (1923- 2016م) قال في حوار له مع الأستاذ صلاح عيسى نشر عام 1983م؛ إن حافظ إسماعيل أخفى أهم فقرة في رسالة السادات لكيسنجر، وهي الفقرة التي أخطره فيها بأن مصر "ليس في نيتها تعميق مدى المواجهة أو توسيع نطاق الاشتباكات. وقال إن خطورة هذه الرسالة تكمن في أنها أرسلت في ذروة الانتصارات العربية، وفي الوقت الذي كان فيه وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان يوصي مجلس الوزراء بإصدار قرار بالانسحاب الإسرائيلي الشامل من "كل سيناء"، ولأن كيسنجر ما كاد يطمئن إلى أن مصر ليس في نيتها توسيع نطاق الاشتباكات أو تعميق مدى المواجهة، حتى بدأ - كما قال - بالنص في مذكراته - يشاغل المصريين، ويسيل لعابهم بالحديث عن إمكانية انسحاب إسرائيلي.. (انتهى كلام الأستاذ هيكل).
أهمية هذا الكلام لا تكمن في مضمونه بقدر ما تكمن في أهمية قائله.. فالأستاذ هيكل عجن كل عجين وخبز كل خبيز في قصة العلاقة مع إسرائيل، من أوائل الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات، وهو الذي شهد بنفسه إلى جوار الرئيس السادات قراره بعدم التقدم بعد العبور أكثر من 15 كيلومترا شرق القناة، والذي كان كبار القادة يطمحون إليه بعد أن رأوا قدرة وشجاعة الجنود ومما تم تحقيقه بالفعل من ساعة العبور.
لن يكون صعبا أن نفهم وندرك أن كل حاضر المنطقة العربية الآن كُتبت سطوره الأولى في اللحظة التي تم فيها توقيع اتفاقية فض الاشتباك الأول في كانون الثاني/ يناير 1974م
نستطيع القول إذن أن تحرير "كل سيناء" كان ممكنا رغم أنه لم يكن ضمن الأهداف الاستراتيجية للحرب، كما ذكر المشير الجمسي في مذكراته قائلا: "لقد حققت قواتنا المسلحة مهمتها المباشرة طبقا لخطة العمليات، وأنشأ كل من الجيش الثاني والثالث رأس كوبري جيش بعمق 15 كيلومترا في سيناء تمهيدا لاستكمال مهامها في العملية الهجومية".. ويضيف في سطر مستقل: وكان لا بد من استمرار الهجوم".. لكن ما حدث أن رياحا كثيرة هبت وأثارت غبارا كثيفا هنا وهناك.. وتم إفراغ الفرصة من شحنتها المتفجرة كما يقولون.
لن يكون صعبا أن نفهم وندرك أن كل حاضر المنطقة العربية الآن كُتبت سطوره الأولى في اللحظة التي تم فيها توقيع اتفاقية فض الاشتباك الأول في كانون الثاني/ يناير 1974م.
وهي اللحظة التي "بكى" فيها الرجل الذي وقع عن الجانب المصري.. وحُق له أن يبكي. فقد كان هو بعينه المشير محمد عبد الغنى الجمسي، رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة في حرب أكتوبر 1973م.. وآخر وزير حربية.
twitter.com/helhamamy