كتاب عربي 21

حسن حنفي.. الفيلسوف الثائر

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
لا أدري كيف عرف اسمي، لكن عندما تجاوز منطقة الشرطة والجمارك بمطار تونس قرطاج الدولي، ولقي في طريقه مجموعة من الشباب، سألهم إن كانوا يعرفونني، ومنذ ذلك التاريخ تعارفنا وتصادقنا وأصبحت بيننا علاقات وثيقة.. إنه المفكر والفيلسوف الكبير حسن حنفي الذي غادرنا هذه الأيام، تاركا وراءه عددا مهما من الكتب والمقالات، إلى جانب جمهور واسع من التلاميذ والقراء الذين اطلعوا على بعض كتاباته، وتفاعلوا مع أفكاره، واحترموا جهوده العلمية حتى وإن اختلفوا معه في كثير أو قليل من الأفكار والاجتهادات. 

حنفي من المثقفين الذين تركوا بصمتهم في سياق رحلة طويلة، كان ضمن كوكبة من الكبار الذين صعدوا فوق الركح بين السبعينات والتسعينات من القرن الماضي، وملأوا الفضاء العربي بسجالاتهم الفكرية والأيديولوجية، ونجحوا في استقطاب شباب الجامعات، ومنحوهم مادة معرفية سمحت لهم بإضفاء أبعاد فكرية لصراعاتهم السياسية خلال تلك الفترة، ونمّوا لديهم الرغبة في المطالعة والحوار الذي قد يتحول أحيانا إلى صراعات عنيفة هنا وهناك. لكن مع ذلك بقيت تلك المرحلة تتسم بالثراء والحيوية، ومكنت من إنتاج جيل جديد من المثقفين والسياسيين الذين لا يزالون فاعلين على أكثر من صعيد حتى يومنا هذا.
عندما أطلق حسن حنفي مصطلح "اليسار الإسلامي" فجّر بذلك جدلا صاخبا في كامل الوطن العربي. بدا المصطلح غريبا إلى حد كبير، إذ جمع بعدين اعتبرهما كثير من الناس غير قابلين للدمج أو التوفيق بينهما، بحكم أن لكل منهما شحنة وتاريخ متعارضين. فاليسار ارتبط بالحركة الشيوعية، في حين أن مصطلح الإسلامي هيمنت عليه حركة الإخوان المسلمين وبقية تيارات الإسلام السياسي

عندما أطلق حسن حنفي مصطلح "اليسار الإسلامي" فجّر بذلك جدلا صاخبا في كامل الوطن العربي. بدا المصطلح غريبا إلى حد كبير، إذ جمع بعدين اعتبرهما كثير من الناس غير قابلين للدمج أو التوفيق بينهما، بحكم أن لكل منهما شحنة وتاريخ متعارضين. فاليسار ارتبط بالحركة الشيوعية، في حين أن مصطلح الإسلامي هيمنت عليه حركة الإخوان المسلمين وبقية تيارات الإسلام السياسي. كما أن المعارك التي خاضها التياران كانت شديدة، وأحيانا عنيفة، مما جعل مجرد التفكير في وضعهما ضمن سياق واحد أو رؤية فكرية مشتركة احتمال غير وارد سواء في السياق الفكري او السياسي. مع ذلك، أقدم حنفي وآخرون على التعامل مع هذه المعادلة من زاوية مختلفة تماما.

قلت "آخرون" لأن المرحوم فتحي عثمان كتب افتتاحية العدد الأول من مجلة المسلم المعاصر التي أصدرها المرحوم جمال الدين عطية، توقع أن تكون هذه المجلة "لسان حال اليسار الإسلامي". حدث ذلك بتاريخ 1 تشرين الأول/ أكتوبر 1974، أي قبل أن يصدر حنفي مجلة تحمل نفس العنوان في مطلع الثمانينات. وبرر فتحي عثمان الذي كان قريبا من الإخوان المسلمين في مرحلة شبابه؛ استعماله لهذا المصطلح بقوله: "الإسلام مظلوم حين يوضع دائما مع اليمين لمجرد أنه دين، وحقا أن القرآن يثني على أصحاب اليمين، ولكن اليمين والشمال في تعبير القرآن عن جزاء الآخرة، غير اليمين واليسار في تقويم السياسة الحديثة للعمل في الدنيا لأجل الإنسان". كما أبرز عثمان غياب أو ضعف مسألة الظلم الاجتماعي لدى الإسلاميين، وتساءل: "عجيب أن نسمع عن "اليسار الكاثوليكي" أو اليسار المسيحي، في حين نرى تصنيف الأفكار والحركات الإسلامية ضمن قوى اليمين".

حسن حنفي ذهب إلى ما هو أبعد من فتحي عثمان، حيث لم يكن الهدف من محاولته إخراج الحركات الإسلامية من مأزقها التاريخي، بقدر ما حاول أن يحقق هدفين في غاية من الأهمية والدلالة..
هو لم يفعل مثل آخرين دعوا إلى إحداث قطيعة معرفية مع التراث للتخلص من ثقل الماضي ومن وصاية الأجيال السابقة وطرق تفكيرهم وأجوبتهم عن قضايا وأسئلة مستحدثة، وإنما اعتبر أن التخلص من التراث عملية غير تاريخية

كان الأول محاولة منه لتثوير التراث الكامن والساكن في أعماق الذات العربية والإسلامية، وربطه بهموم الحاضر. فكتابه الشهير "التراث والتجديد" يلخص جوهر أطروحته، ويسلط الضوء على الأبعاد الفكرية التي يمكن أن تترتب عن ذلك. حاول أن يثوّر التراث من داخله، ويجعل منه أداة من أدوات تغيير الواقع الراهن وتحقيق نوع من المصالحة مع الذات. هو لم يفعل مثل آخرين دعوا إلى إحداث قطيعة معرفية مع التراث للتخلص من ثقل الماضي ومن وصاية الأجيال السابقة وطرق تفكيرهم وأجوبتهم عن قضايا وأسئلة مستحدثة، وإنما اعتبر أن التخلص من التراث عملية غير تاريخية.

أما الهدف الثاني من أطروحة حنفي فيتمثل في نزعته التوفيقية ورغبته في تحقيق نوع من المصالحة بين تيارات الأمة المتنازعة والمتصارعة، دون توقف أو هوادة. حاول في هذه الدعوة جمع الإسلاميين والقوميين واليساريين والليبراليين حول كلمة سواء هي خدمة الأمة، والنهوض بها بعد سلسلة من الهزائم والتآكل والاحتراب. وجعل من أطروحته منطقة الجمع بين كل هؤلاء، من خلال أفكاره التي حاول أن يجعل منها نقطة لقاء سماها "اليسار الإسلامي". لكن بقي يدعو إلى الوحدة طيلة حياته إلى أن وافته المنية دون أن يحقق هذا الهدف الكبير، فكان مصيره بشكل من الأشكال شبيها بمصير جمال الدين الأفغاني الذي اجتهد من أجل الحيلولة دون انهيار الخلافة؛ فمات وهو يرى الدول الإسلامية تسقط الواحدة تلو الأخرى في شباك الاستعمار الغربي.

حسنة أخرى فعلها الرجل في حياته، عندما حاول أن يؤسس ما أسماه بعلم الاستغراب ردا على مدرسة الاستشراق، أي تحويل الغرب إلى مجال للبحث كما عمد الآخرون إلى أن يجعلوا من الشرق مجالا للدراسة والتفكيك. فعل ذلك ليعزز من ثقة العرب في أنفسهم، ويرسخ لدى نخبهم ولدى نخب الغرب أيضا مبدأ المساواة والتعامل بندية مع المشروع الغربي، ليس بصفته "مصدر الحكمة"، وإنما باعتباره اجتهادا بشريا يحتمل الخطأ والصواب.

رحم الله حسن حنفي، اجتهد وأصاب، ولكن الأهم أنه بقي وفيا لنفسه وأمته.
التعليقات (0)