هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في كتابه "تضخيم الدولة العربية"، يقدم الباحث نزيه الأيوبي قراءةً اقتصادية سياسية هامة لثورة 1919 تتناول البورجوازية المصرية في طور الولادة التي جاءت في كنف الاحتلال البريطاني، وكيف كانت تلك البورجوازية التي صنعت الثورة على الإنجليز هي أصلاً صنيعة بريطانيا، وكيف أن الشق الاقتصادي للثورة هو شق أهملته الأدبيات عن الثورة التي حاولت أن تُلمع صورة الكثير من الرموز والتي نشأت في كنف الاحتلال البريطاني.
وتطورات تلك العلاقة شكلتها سياسية بريطانية مُتبعة على الدوام في كل المستعمرات، سنستعرضها في السطور الآتية.
جذور البورجوازية المصرية
إن البورجوازية المصرية كمفهموم لطبقة لم يكن جديداً، ولكنه كان ميتاً ولم يحيه في النهاية سوى الاحتلال البريطاني.
عرف المصريون بورجوازية مبكرة بلورت أحلامهم في شكل حركة سياسية، كانت قادرة على أن تفرض مطالبها على الدولة العثمانية بإزاحة واليها على مصر، وتأتي بآخر بناءا على اختيارها، والحديث هنا عن الحركة المصرية 1805م، بقيادة عمر مكرم، التي أتت بمحمد علي واليا على مصر في النهاية.
إلا أن محمد علي سرعان ما أدار ظهره بالتدريج للبورجوازية المحلية والقوى الشعبية التي كانت قد جاءت به إلى السلطة، وبدأ في استبعادها وإقصائها سواء بالنفي أو بإحداث الشقاق في صفوفها، ثم اعتمد بدلاً منهم على النخبة التركية الشركسية المعهودة بالنسبة إلى القضايا المتعلقة بالتجارة والنقل والزراعة.
الاستنزاف ووهم الحكم الذاتي
كانت حقبة محمد علي هي حقبة الشوكة للبورجوازية الشركسية في المجتمع، وموت لبورجوازية مصرية تعبر عن مصالح شعبها، حتى جاء الاحتلال البريطاني لمصر، فقد كانت الكولونيالية البريطانية معروفة بتشديدها على الاهتمامات الاقتصادية والاعتماد بقدر المستطاع على أشكال الحكم غير المباشر، لذلك كانت ترى النخب المثقفة في المستعمرات التابعة لبريطانيا أنه يمكن التفاهم معها دائما حول صيغة تضمن للمستعمرة استقلالا ذاتياً وفي نفس الوقت ترعى مصالح بريطانيا.
وكان الغرض الرئيس للاحتلال البريطاني في أي مستعمرة هو استنفاذها اقتصادياً وتسخيرها لخدمة المتروبول في لندن، لذلك كانت بريطانيا تسن قوانين وسياسات تختلف من بلد لآخر بما يتناسب مع نمط إنتاجه.
ولأن مصر في عهد محمد علي كانت جديدة في طور الصناعة، ولم تشكل رأسمالية صناعية محلية قوية، وامتازت بجودة قطنها مع ذلك، رأت السياسات البريطانية أن مفتاح الحكم المحلي في مصر هو صناعة بورجوازية تتكون من كبار ملاك الأراضي، لذلك كانت قوانينها ثورة محطمة للإحتكار الحكومي الذي تميزت حكومة محمد علي للأراضي الزراعية، وبدأت في تمليك المصريين تلك الأراضي، وسنت العديد من القوانين في صالح الفلاح المصري، والمشاريع الزراعية الكبرى.
سرعان ما انطلقت تلك البورجوازية الزراعية الجديدة لتغطي الغياب المصري المحلي في مجالات الأخرى، فأطلقت استثماراتها في الصناعة والتجارة، وبذلك كانت بورجوازية محلية مصرية ترتبط مصالحها بمصالح الراعي البريطاني، لتكون بامتياز ابنة بارة لذلك الإحتلال، ولم تكن تسعى تلك النخبة البورجوازية والتي تعاونت بصراحة مع القوة الاستعمارية، إلا لبعض من الإصلاحات في نطاق السياسة الاستعمارية الكاملة، وقد كان حزب الأمة خير معبرعن هذا التوجه في بدايته، مع ما يحتويه من رموز كلطفي السيد وسعد زغلول ومحمد عبده وقاسم أمين.
أما المعارضة بالقدر الذي وجدت فيه، فقد بقيت معارضة ضعيفة بلا قاعدة طبقية حقيقية خاصة بها، وممزقة بين عدم رضاها بالظروف القائمة في بلدها، وانجذابها للبورجوازية الوطنية الموالية للاستعمار، وحملت لواءها جماعات الأهالي والطلبة والعمال والإنتلجنسيا والجماهير الحضرية التي لم تستفد من سياسات الاحتلال البريطاني على غرار البورجوازية الزراعية.
كان ملاك المزارع الكبرى من البورجوازية آمنين في مواقعهم، يزدادون ثراءًا بإرتباط مصالحهم برأس المال العالمي، وكان هذا الارتباط بالاقتصاد البريطاني الذي يعد نافذة للارتباط بالاقتصاد العالمي هو الثغرة التي ستضرب إسفيناً في علاقة البورجوازية المصرية بالاحتلال البريطاني، لتعلن بدء مرحلة الانفصام.
الانضمام لصفوف الجماهير
لقد تشكلت ثورة 19 نتيجة عوامل عدة تضافرت لانفجارها في النهاية، كان أهم تلك العوامل انضمام البورجوازية المصرية إلى صفوف الثورة، فقد كانت الحركة الوطنية متشرذمة في العديد من الاتجاهات والمطالب، فالحزب الوطني بقيادة الزعيميين مصطفى كامل ومحمد فريد يجتذبان العمال والطلبة في النوادي والنقابات، وكانت الطبقة الوسطى مشغولةً في أحلامها بالارتقاء الطبقي والوظيفي.
أما البورجوازية والتي شكلت نخبة الساسة في مصر كما جمعتها المصالح الاقتصادية مع بريطانيا دائما، هي التي فصلتها عنها في النهاية، وهي التي أنقذت أسماء الذين صنعوها كأبطال وطنيين بدلاً من تذكرهم في التاريخ كخونة موائمين للاحتلال، وجعلتهم ظهيراً لطموحات الشعب ضاغطاً على الاحتلال.
جاءت الأزمة الرئيسية الأولى التي واجهت النظام التصديري المعتمد كليا على زراعة القطن في أعقاب الأزمة المالية الانكماشية في أوروبا 1906-1907م، وأدت تداعياتها لانكماش كبير وتدهور خطير في مصر، وصاحب الآثار اللاحقة التي استمر الشعور بها حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، تململ الطبقة الوسطى بالدرجة الأساس ضد البريطانيين الذي تتوج بثورة 1919م.
وانجذبت النخب الزراعية تجاه ثورة 1919م، ودعمتها على أمل تحقيق سياسة اقتصادية قائمة على أساس يتسم بدرجة أكبر نسبياً من الروح الوطنية، يمكنها أن تحمي مصالحها من تقلبات السوق العالمية، فعبد العظيم رمضان يرى أن الحرب العالمية الأولى كانت قد ضربت إسفينا في علاقة الاحتلال بطبقة كبار الملاك التي كانت تميل إلى التوافق معه، بعدما أخذ سعر القطن في النزول تدريجيا بسبب خوف مستوردي الأقطان المصرية في البلدان الأجنبية من غلق الأسواق التي يبيعون فيها منتجاتهم.
وسبق أن انخفض سعر القنطار إلى اثني عشر ريالاً بعدما كان تسعة عشر في السنة السابقة للحرب، وتسبب ذلك في خسارة جسيمة، وحينما شهدت سوق القطن بانتعاشة خفيفة في فترة الحرب، قررت حكومة الاحتلال أن تحدد سعر القطن بثلاثة وعشرين ريالا وهو سعر يقل عن سعره الحقيقي، وقامت بإلغاء أوامر تصدير القطن وحصرها في عدد محدود من بيوت التصدير الأجنبية، فكان هذا بمثابة إعادة لاحتكار محمد علي، ولكن بشكل مخفف، وهدد اقتصاديات كبار ملاك الأراضي.
فبالرغم من الفائدة المحققة التي جناها كبار ملاك الأراضي بسبب ارتفاع أسعار القطن أثناء الحرب، إلا أن الإنجليز بتحكمهم في أسعار القطن، واحتكاره، لم يتركوا لهم فرصة التمتع بأقصى ما يمكن تحقيقه من هذه الأرباح الاستثنائية التي أتت بها الحرب، وكان لذلك حزازة شديدة في نفوسهم ظهر أثرها في موقفهم من ثورة الشعب في عام 1919 واشتراكهم مع طبقات الأمة.
إن هذا لا يعني أن سعد زغلول حينما استجاب لنداء ويلسون بالحرية لكل الأمم في أعقاب الحرب، قد نهض لأسباب اقتصادية بحتة، فسعد زغلول لم يكن من كبار ملاك الأطيان، إلا أنه بصفته ممثلا عن البورجوازية الجديدة بالإضافة إلى أصله الفلاحي الوطني، كان خير وسيط يبلور ويجمع آمال الشعب الحالم بالتحرر آنذاك، مع البورجوازية التي حلمت بالتحرر الاقتصادي.
وأتت تلك الثورة على مصر باستقلال شكلي، أعطى البورجوازية المصرية مساحة أكبر في المجال الاقتصادي، جعلها في النهاية تنسحب مرة أخرى لرعاية مصالحها الذاتية كنخبة كومبرادورية متمثلة في حزب الوفد، حتى أتت ثورة يوليو 1952.