قضايا وآراء

السودان وأسوأ الأزمات: هل خبا ضوء النفق؟..

إبراهيم الصديق علي
1300x600
1300x600

(1)
في استباق لمواكب السبت، قدم رئيس الوزراء السوداني د. عبد الله حمدوك خطاباً مساء الجمعة (15 تشرين الأول/ أكتوبر 2021م)، وكالعادة مفتوح الخيارات في قضايا لا تحتمل الأبواب "المواربة" ومتعدد التفسيرات في وقت يتطلب رسائل واضحة..

ومن السمات العامة للخطاب، هو ذلك الإحباط في تشخيص الواقع حين وصفه بأنه "أسوأ أزمة تمر بها البلاد"، والطريق المسدود أمام الحلول، وعلى سعة السياسة (فن الممكن)، فإن المشهد السياسي يبدو في حالة "تحجر" يوشك أن يتفتت، دون أي بارقة أمل. لقد خبا "الضوء في نهاية النفق" الذي وعد به د. حمدوك في خطابه أمسية ٣٠ حزيران/ يونيو ٢٠٢١م، وساد اليأس بدلاً عن التطلعات والأحلام الوردية..

لقد قال د. حمدوك في لقاء مع الإذاعة السودانية يوم ٢١ آب/ أغسطس ٢٠٢٠م: "أنا متفائل بطبعي وأنظر للأمور بطريقة مختلفة، وحتى عندما يرى الناس الأشياء تمضي لتحت فإني أراها تمضي لفوق". ولكن د. حمدوك ومن خلال هذا الخطاب يبدو يائساً وكئيباً تعوزه الكلمات والتعبيرات..

والسمة الثالثة، إن الخطاب يبدو وكأنه "إبراء ذمة"، وتبيان جهود رئيس الوزراء وتواصله مع القوى السياسية ومشاوراته، وكذلك رسالة للمجتمع الدولي والإقليمي عن حالة الانحراف عن المسار الانتقالي..

والسمة الثالثة في الخطاب هو انسداد الأفق، فلا حلول ولا نتائج أو مقاربات، وإنما شرح مطول لما جرى، والباب مفتوح على كل الخيارات والتأويلات، ولم يعد هناك مسار يمكن الركون إليه، أو نقاط اتفاق يمكن الإضافة عليها، وهذا أمر يستوجب التوقف عنده بالقراءة والفحص والمراجعة..

(2)
وفي ثنايا الخطاب خبايا كثيرة ومهمة، وتم تغليفها بعبارات فضفاضة، ومن ذلك تعريف الأزمة أنها بين تيارين: الانتقال الديمقراطي وأعداء الانتقال، وذلك بدلاً عن تعريف سابق "مدنية وعسكرية"، أو خلاف "مدني- عسكري" و"عسكري- عسكري" أو "مدني- مدني". وتضمن الخطاب تبرئة المكون العسكري من الانقلاب، بل أورد صراحة "عدم تحميل المؤسسة العسكرية الانقلابات والمغامرات" وهذا تراجع واضح عن بيان مجلس الوزراء صباح ١١ أيلول/ سبتمبر ٢٠٢١م..

ومضى خطاب د. حمدوك في صيغة أقرب للاعتذارية، وهو يشير إلى أن قضايا مثل محاربة الإرهاب وقضايا الحدود ومهددات الأمن القومي يجب ألا تخضع للتشكيك في النوايا والتكهنات والمزايدات، وهذه إشارة واضحة لموقف بعض الأطراف السياسية التي شككت في المواجهات مع خلايا الإرهاب بالعاصمة..

ومن تلك الإشارة الفضفاضة الحديث عن لجنة التمكين وضرورة وجودها مع "مراجعة الأداء وأسلوب العمل وضمان الاستئناف والعدالة".. وهل يطالب الناس بأكثر من ذلك؟ وهل فعلوا أكثر من الاستئناف الذي نقض بعض قرارات اللجنة..؟

ولكن أهم ما استحق الإشارة هو الحديث عن "الالتزام بالوثيقة الدستورية نصاً وروحاً"، فهل يمكن تفسير ذلك بحل الحكومة "الحزبية" وتشكيل حكومة من كفاءات وطنية مستقلة تركز على قضايا الانتقال وتحدياته، ومن أهم نقاطه الذهاب إلى الانتخابات؟

لقد أثمر خطاب المكون العسكري وشركاء السلام عن الانتخابات؛ هذه النقطة المهمة الغائبة عن أجندة الحكومة.. ولم تشكل مفوضية الانتخابات ولم يُجز قانون ولم يتم إجراء تعداد سكاني ولم تحدد دوائر..

(3)
ولا يخلو خطاب رئيس الوزراء من "حالة انفصام عن الواقع"، وتبدّى ذلك في نقطتين: في قضية الشرق والتي وصفها بالعادلة واقترح عقد مؤتمر دولي، بينما المطالب "إلغاء مسار الشرق" في اتفاقية جوبا، والنظر في توصيات مؤتمر سنكات. لقد تجاوز د. حمدوك تفاصيل الراهن واكتفى بالتهويم البعيد، وتجاوز حتى توصيات اللجنة الوزارية. وأما النقطة الثانية فهي الحديث عن تحسن في الاقتصاد واستقرار الصرف، بينما كل واقع الخلافات المجتمعية والنزاعات ذات خلفيات اقتصادية ونتيجة قصور الحكومة عن أداء مهامها والتزاماتها..

واتسع خطاب د. حمدوك للرجاء والدعوة للوحدة، وفي هذا مفارقة واضحة مع تعريفات مجموعة الأربعة لأساس الخلاف. فبينما يرى هذا الفريق من الحاضنة أن هذه ردة عن تغيير كانون الأول/ ديسمبر، فإن د. حمدوك يشير إلى أن هوّة الخلاف داخلية وانفجر مكبوتها مع تداعيات محاولة الانقلاب، وهذا مؤشر على أن الحدث داخل الحاضنة السياسية..

(4)
ومن بلاغة البيئة الاجتماعية، أن أحد الأقرباء وحين ترد على أذنه كلمة "الاصطياد في المياه العكرة" يصفعك ببديهة سريعة: اللوم على من عكر المياه؟.. وهذا بالضبط ما جرى يوم السبت (١٦ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢١م) من مواكب تدعو لحل الحكومة الانتقالية وتوسيع قاعدة المشاركة وبناء تحالفات جديدة.. لقد كان واضحاً:

- أن الحشود كبيرة وأنها نتاج فعل تنظيمي واسع، لأن حركة المجموعات تشير للتحشيد.. وهذا ليس عيباً، خاصة أن الحكومة والحاضنة السياسية استفزت قطاعات اجتماعية وقبلية ذات وزن وتأثير..

- تزامن مع الموكب فعل سياسي تمثل في توقيع ميثاق التوافق السياسي، ولم تفلح الجهات المنظمة في التوظيف الإعلامي وتوفير تدفق إعلامي وبيانات ونجوم ورموز فاعلة..

- بروز دور واضح لشركاء السلام من حركات مسلحة وقوى سياسية، وربما يكون لذلك تأثير على مواقف المجتمع الدولي وتفاعله مع الأحداث، ويتطلب الأمر أن تطمئن الهواجس حول ضمان الانتقال الديمقراطي المدني..

- مع تعاطف الإسلاميين مع الحدث، رغبة في إزاحة عدو أظهر توحشاً سياسياً، فإن القادم الجديد غير مضمون الجانب، وأجندة بعض الداعمين "تصفية الإسلام السياسي"، وربما لسان الحال قول المتنبي: ومن نكد الدنيا علي الحر أن ترى عدواً له ما من صداقته بد..

إن الواقع مفتوح على رهانات عديدة، وسيناريوهات مفتوحة، وأسوأ الخيارات أن يتم إعلان حل الحكومة ببيان وبزة عسكرية. إن سبب هذه الأزمة تشظي الحاضنة السياسية والتنكر لمستجدات الواقع السياسي، وعليها أن تتحمل مسؤولية معالجة هذا الاختلال بقرارات عملية وموضوعية.. والجلوس لمائدة حوار واسع وإقصاء الأجندة الحزبية.. فهذا الوطن على حافة الانهيار، ولا تمكن معالجة القضايا ومواجهة التحديات بالمواكب والمواكب المضادة.. واختبار الشعبية تؤكده صناديق الاقتراع..

 


التعليقات (0)