قضايا وآراء

ثقافة "النصّ المفتوح" في التّعامل مع النّصوص الشّرعيّة المتعلّقة بالمرأة

محمد خير موسى
1300x600
1300x600
في مرحلة ما بعد الحداثة ظهرت نظريّات نقديّةٌ ومصطلحاتٌ جديدةٌ في التّعامل النّقديّ مع النّص الأدبيّ، ومن أشهر هذه المصطلحات مصطلح "النّص المفتوح".

تحرير المصطلح وحقيقةُ دلالته

يذهبُ كثيرٌ من النقّاد الغربيّين إلى أنّ ريادة هذا المصطلح كانت على يد النّاقد والفيلسوف والرّوائي الإيطالي "آمبرتو إيكو" (توفي 2016م)، فهو الذي استخدم هذا المصطلح في تحليل نصوص سردية لجيمس جويس، وهو الذي أشاع مفهومي النّص المفتوح (Open text) والنّص المغلق (Closed text) في كتابه "العمل المفتوح" الصادر عام 1962م.

وإذا أردنا تبسيط تعريف هذين المفهومين فيمكننا الذّهاب إلى تعريف الدكتور محمد عناني في كتابه "المصطلحات الأدبية الحديثة" إذ يقول:

"النّص المفتوح": هو النص الذي ينفتح على كل احتمالات التفسير، أي أنه النّص الذي يقبل كلّ تأويل محتمل.

أما "النّص المغلق": فهو ذلك النّص الغائم الدّلالة، وبرغم ذلك فإنّه لا يحتمل إلا تفسيراً واحداً.
تطبيق هذه الثّقافة في دائرة النّص الشرعيّ يعني أنّ كلّ أحدٍ يستطيع أن يفهم النّص، وأن يخضعه للمنهجيّة الذّاتيّة ولإمكاناته الشّخصيّة التي يعرفها ويجيدُها في القراءة والتّفسير والتأويل والتّنزيل والتّحليل والاستنباط

على أنّنا إذا تفرّسنا قليلاً سنجدُ أنّ ثقافة النّصّ المفتوح تعودُ في جذورها العميقة إلى حركة مارتن لوثر (توفي 1546م) ضدّ رجال الكنيسة وتعاليمهم، حيث ذكر "ديفيد جاسبر" في كتابه "مقدمة في الهرمينوطيقا" أنّ "مارتن لوثر انصبّت اهتماماته على إطلاق الحريّة للإنجيل في التّفاعل مع تجربة القارئ الذّاتيّة".

فمعنى النص المفتوح يرتبط إذن بشكلٍ كبيرٍ بنزعة التّمرد على القوالب الأدبية الأخرى، ورفضه الانصياع لهذه القوالب والخروج عن القواعد النمطيّة في تقديم النّص السردي، وفيه يصبح النص متحركاً، وغير واضح المعالم.

ويغدو الأمر أكثر إشكالاً بعدما تمّ استيراد هذا المفهوم ودلالاته من دائرة الإعمال والتوظيف في النصّ الأدبيّ، ليتمّ إعماله وتطبيقه في النّص الشرعيّ من القرآن والسّنّة.

إعمال ثقافة "النصّ المفتوح" في النّصوص الشرعيّة

تطبيق هذه الثّقافة في دائرة النّص الشرعيّ يعني أنّ كلّ أحدٍ يستطيع أن يفهم النّص، وأن يخضعه للمنهجيّة الذّاتيّة ولإمكاناته الشّخصيّة التي يعرفها ويجيدُها في القراءة والتّفسير والتأويل والتّنزيل والتّحليل والاستنباط، مع عدم التّفريق مطلقاً بين النّصوص البشريّة أو نصوص الوحي الإلهيّ.
إعمالُ ثقافة "النّص المفتوح" في النّصوص الشرعيّة هو انعكاسٌ لحالة السّيولة التي تهيمن على مرحلة ما بعد الحداثة، وهي تقودُ بشكلٍ لا لبسَ فيه إلى الفوضى الفكريّة، وإلغاء قدسيّة النصّ القرآني

فقراءة النصّ الشرعيّ تعتمدُ على إعمال العقل الذّاتيّ للوصول إلى تأويل النّص وفهمه دون النّظر إلى أيّة قواعد أخرى يمكن أن يحتكم إليها النصّ من اللغة أو غيرها، وقد انتهج هذا المتعاملون مع النصوص الشرعيّة بالمنطق الحداثي كأمثال محمد أركون ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وصولاً إلى محمد شحرور.

وإعمالُ ثقافة "النّص المفتوح" في النّصوص الشرعيّة هو انعكاسٌ لحالة السّيولة التي تهيمن على مرحلة ما بعد الحداثة، وهي تقودُ بشكلٍ لا لبسَ فيه إلى الفوضى الفكريّة، وإلغاء قدسيّة النصّ القرآني، والعبث بالوحي الإلهيّ لا من حيث الثّبوت والحفظ وإنّما من حيث التفسير والتأويل والدلالة.

فانفتاح النّص الشرعيّ معناه السّماحُ بعددٍ غير نهائيّ من القراءات التفسيرية والتأويليّة للنّص القرآني والحديثيّ؛ هذه القراءة منفلتةٌ من أيّةِ قواعد منهجيّة أو علميّة أو منطقيّة؛ فلا تعتمد على اللغة، ولا على المأثور، ولا تقبلُ حتى التفسير النبويّ للقرآن الكريم. ويكون النصّ النبوي كذلك سائلاً بلا حدود ولا أيّ إطار، فالحقائق كلّها متغيرة، ولا شيء منها ثابت، وقابلةٌ للتغيّر الدّائم إلى ما لا نهاية، والتنوع المستمرّ الذي لا حدود له.

لقد كان السّعيُ دائباً في مرحلة ما بعد الحداثة إلى ترسيخ فكرة انفتاح النّص والتّنظير لها بشكلٍ واسع، والتأكيد على قدرة النّص الشرعيّ على إنكار الحد والحدود، مما يجعله يقبل التّأويل المستمر والتحول الدائم، وبذلك تتحول نصوص الوحيّ من القرآن الكريم والسنّة النبويّة إلى نصوص لا نهائيّة في نصيّتها، ولا محدودة في معانيها، مما يفضي إلى تعدد الحقائق وسيولتها بتعدد القراءات.
كان السّعيُ دائباً في مرحلة ما بعد الحداثة إلى ترسيخ فكرة انفتاح النّص والتّنظير لها بشكلٍ واسع، والتأكيد على قدرة النّص الشرعيّ على إنكار الحد والحدود، مما يجعله يقبل التّأويل المستمر والتحول الدائم، وبذلك تتحول نصوص الوحيّ من القرآن الكريم والسنّة النبويّة إلى نصوص لا نهائيّة

فلكَ أن تتخيّل أنّه لم يسلم من هذه السّيولة وثقافة "النّصّ المفتوح" حتّى آيات الميراث في القرآن الكريم التي تحدّدُ الأنصبة للوارثين بدقّة متناهية لا لبس فيها، إذ عمدت القراءة الحداثيّة المعاصرة إلى العمل على إيجاد تفسيرات وتأويلات لهذه الآيات؛ تعتمد بعض النّظرات الحسابيّة والرّقميّة والمنعتقة من أيّة ضوابط لغويّة للتدليل على وجوب إعادة تحديد أنصبة المواريث بين الذّكور الإناث، كما دعا لذلك محمّد شحرور وغيره.

إعمال "النصّ المفتوح" في أحكام المرأة

من أكثر المسائل التي شهدت تطبيقاً لثقافة "النصّ المفتوح" على النّصوص الشرعيّة؛ هي قضايا المرأة والنّصوص القرآنيّة والنبويّة التي تتحدّث عن الأحكام المتعلّقة بها.

وفي ظلّ حالة السيولة التي فرضتها مرحلة ما بعد الحداثة، ذهبت شريحةٌ ممّن تصدّروا للحديث في نصوص الوحي إلى تفسيراتٍ وتأويلاتٍ لا يمكن وصفها إلّا بأنّها تفسيرات ذاتيّة شخصيّة، منفلتة من أيّة قواعد لغويّة أو أصوليّة أو خاضعة لفهم السياق الذي وردت فيه النّصوص. ومن أمثال من فعلوا ذلك في المسائل المتعلّقة بالمرأة؛ نوال السّعداوي والدّكتورة أماني صالح والدّكتورة أسماء المرابط وعائشة التيموريّة ومحمّد شحرور وغيرهم.

فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ راح البعضُ يروّج لاستنباطاتٍ جديدةٍ متعلّقة بعورة المرأة، وأنّ شعرها وعنقها وصدرها وساعداها وغير ذلك من أجزاء جسدها ليست من العورة وأنّه يجوز كشفها، معتمدين على ما يدّعونه تفسيراً لغويّاً لمعنى الجيب، ومعنى الزينة الظّاهرة في قوله تعالى: "وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ".

كما ذهبت شريحةٌ أخرى إلى محاولة إيجاد تخريجات يقال إنّها لغويّة لعدد من الألفاظ التي وردت في آيات قرآنيّة، مثل لفظ الضرب والنّشوز في قوله تعالى: "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ".

والدّافع إلى هذه التّخريجات هو الاعتقاد الكامن بأنّ الاستنباطات الفقهيّة قد ظلمت المرأة، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فأستاذة العلوم السياسية المصرية أماني صالح - على سبيل المثال - لا تأخذُ فقط على المفسرين تفسيرهم لهذه الألفاظ بشكل منحاز تصفه بأنّه "يقنّن دونية المرأة"، بل إنها تتهمُ أيضاً معاجم اللغة نفسها بالانحياز الذّكوريّ، وتنادي بضرورة تتبع اللّفظ كما ورد في آيات أخرى، لفهم معناه بعيداً عن معاجم اللغة وما تذكره من معان.
هذا الواقع المغرق في السّيولة يحمّل الفقهاء والعلماء المعاصرين مسؤوليّة كبيرةً في ضرورة تقديم تفاسير وقراءاتٍ جديدةٍ لنصوص الوحي تكون قراءات راشدةً منضبطةً، وفي الوقت ذاته منسجمةً مع روح العصر بعيدةً عن ردّات الفعل الانهزاميّة من جهة وردّات الفعل الاستعلائيّة تجاه السيولة من جهةٍ أخرى

ويكمنُ الإشكالُ في هذه السّيولة النّاتجة من الاعتماد على ثقافة "النّصّ المفتوح" في التّعامل مع النّصوص الشرعيّة في أنّها تلقى رواجاً؛ لا بسبب قوّتها ولا منطقيّتها ولا ارتكازها على أساس ثابت، بل بسبب انتشار الجهل بقواعد اللّغة ودلالات الألفاظ، إلى جانب كونها تدغدغ مساحةً مشاعريّةً في نفوس شريحة واسعة من النساء اللواتي يجدن في هذا الخطاب مخرجاً من حالة التّهميش والظّلم التي يعانين منها.

غير أنّ من بديهيّات الإيمان بثبوت الوحي أن يتمّ التعامل معه تأويلاً وتفسيراً واستنباطاً، على وفق قواعد اللغة التي نزل بها النصّ الشرعيّ ودلالات الألفاظ العربيّة وتفسير النبيّ صلى الله عليه وسلّم للوحي، وأن لا يكون التأويل منفلتاً من الضّوابط بحيث يكون لا نهائيّ الدلالة؛ لأنّ رضوخ الوحيّ لهذه السّيولة يوقعه في العبث، والله جلّ في علاه منزّه عن العبث.

كما أنّ هذا الواقع المغرق في السّيولة يحمّل الفقهاء والعلماء المعاصرين مسؤوليّة كبيرةً في ضرورة تقديم تفاسير وقراءاتٍ جديدةٍ لنصوص الوحي تكون قراءات راشدةً منضبطةً، وفي الوقت ذاته منسجمةً مع روح العصر بعيدةً عن ردّات الفعل الانهزاميّة من جهة وردّات الفعل الاستعلائيّة تجاه السيولة من جهةٍ أخرى، وترفع عن المرأة القيود والأغلال التي فرضها عليها الواقع الاجتماعيّ ظلماً وزوراً باسم الإسلام.

twitter.com/muhammadkhm
التعليقات (0)