كل المصلحين والرسل وأصحاب الأفكار الكبيرة استُقبلوا بالحرب والمقاومة ومحاولة الاقتلاع.. هذه سنّة من سنن الحياة، لذا على أصحاب الفكر الإسلامي والمشروع الإسلامي النهضوي أن لا يعلقوا فشلهم على مشجب مقاومة الآخرين لهم. ببساطة هم قادمون ليحلوا محل القائمين، ومن الطبيعي أن تتم مقاومتهم ومنعهم من تحقيق أي نجاح، وهذه هي سنة لدنية لا تغيير لها، وليست سببا أو مبررا للإخفاق، لهذا على أصحاب من يسمونه "الإسلام السياسي" البحث عن أسباب أخرى لفشلهم، بعد آخر موقعة أو حرب تمت في الساحة التونسية.
موقعة تونس لم تكن الأولى طبعا، ولن تكون الأخيرة، فقد شهدت معظم الساحات العربية تجارب إسلامية منيت بالفشل، وكان النجاح في بعض الساحات الإسلامية غير العربية هو الاستثناء، كما حدث في ماليزيا وتركيا مثلا، وتلكم تجربتان لهما خصوصية تستحق الاستبطان والدراسة المعمقة، أكثر مما حصل حتى الآن، ليس من باب التأسي فقط، بل من باب الاستلهام والتعلم!
موقعة تونس لم تكن الأولى طبعا، ولن تكون الأخيرة، فقد شهدت معظم الساحات العربية تجارب إسلامية منيت بالفشل، وكان النجاح في بعض الساحات الإسلامية غير العربية هو الاستثناء، كما حدث في ماليزيا وتركيا
كثيرون كتبوا وبحثوا في ظاهرة فشل "الإسلام السياسي"، وأنا هنا أستخدم المصطلح غصبا عني رغم رفضي له بسبب منشئه المريب، حيث أنتج هذا المصطلح في مختبرات العدو، الذي اصطنع في ما اصطنع مصطلح "الخطر الأخضر" وهو تقريبا مرادف لمصطلح "الإسلام السياسي"، فكلاهما يدلنا على كنه واحد.
ولا بد هنا من التسليم باستخدامنا لهذا المصطلح للدلالة على ما أراده مخترعوه منه، فهو يدل باختصار على كل جهد بذله علماء ومجاهدو ودعاة ومفكرو الأمة للنهوض بها من كبوتها، وكان كل هذا مستهدفا من الإمبريالية الغربية بكل تلاوينها وعملائها وأذنابها ورموزها في الشرق والغرب، وكرست لحربه أسلحة وأشعلت معارك سالت فيها الدماء، وأسست آلات إعلامية وبحثية ضخمة جدا صرفت عليها المليارات من الدولارات، أملا في اقتلاعه من الجذور، أو تشويهه وتخريب صورته لتنفير الناس منه.
وفي الأثناء "اخترع" هؤلاء تنظيمات ومنظمات ودويلات لتشويه المصطلح الأصلي وتمييع محتواه؛ من جهاد وعدل وطهر وعفة، لإفراغه من محتواه الرسالي النظيف، وتشويهه في عيون محبيه، وهي أدوات استعملها كفار مكة من قبل مع رسول الإسلام وصحبه، حين رموه صلى الله عليه وسلم بالجنون والسحر. ولم تزل تلك الأدوات الشيطانية "فاعلة" حتى الآن، حيث يعتقد الدهماء أن
الإسلاميين والإرهاب صنوان، وأن ما يسمونها "جماعات الإسلام السياسي" إما عميلة أو تستهدف تخريب الأوطان(!) وهي في الوقت نفسه ضحية للأنظمة الظالمة، وضحية أيضا لمن يقولون إنها عميلة لهم من أسياد تلك الأنظمة!
نظرة سريعة على تجارب الإسلاميين مع الأنظمة القائمة توصلنا إلى نتيجة سريعة أيضا؛ تقول إن الأنظمة استعملت الإسلاميين كشهداء زور
نظرة سريعة على تجارب الإسلاميين مع الأنظمة القائمة توصلنا إلى نتيجة سريعة أيضا؛ تقول إن الأنظمة استعملت الإسلاميين كشهداء زور، وشاهد الزور في العرف الشعبي يؤخذ للشهادة في المحكمة راكبا معززا مكرما، حتى إذا أتم شهادته ترك كي يعود من مشواره ماشيا، فلم يعد لمن أركبه حاجة به. وكذا كانت الحركات الإسلامية التي "شاركت" في الحياة السياسية وصدقت فرية الانتخابات والديمقراطية، فقد وفرت "شرعية" كانت مطلوبة للأنظمة، حتى إذا تحقق لهذه الأنظمة هذا مالت عليها وضيّقت عليها الخناق، أو حتى حاولت إبادتها واقتلاعها من جذورها فيزيائيا.
لنا أن نسمي تلك الحرب على الإسلاميين بأنها ثورة مضادة، ولكن ليس لنا أن نعلق على هذا المشجب أخطاء "الإسلام السياسي". إن ما غاب عن أصحاب المشروع الإسلامي المعاصر وأدركه أعداؤه جيدا، أن هذا المشروع لا يصلح أن يكون شريكا للباطل الذي يمثلونه، بل هو يتصف بالصفة الإحلالية، لهذا يسارع "شركاؤه" من سادة الوضع القائم لسحقه قبل أن يستوي على عوده ويشتد، لأنهم يعلمون جيدا أنه سيقتلعهم من جذورهم إن هو تمكن من الصمود.
النتيجة في النهاية، لا شراكة حقيقية بين "الإسلام السياسي" وأي نظام حكم عربي قائم، فما البديل؟ وكيف تعمل الحركات الإسلامية بعد تسجيل مسيرة فشل استمرت طيلة نحو قرن من الزمان؟
ولهذا لا سبيل لأي شراكة حقيقية بين أي نظام قائم و"الإسلام السياسي"، وأي أوهام خارج هذه الحقيقة أثبتت عبثها في كل الشراكات التي قامت أو حاولت أن تقوم بين الأنظمة العربية وأي مشروع إسلامي سياسي حقيقي. والتجارب ماثلة لكل ذي بصيرة، أما تلك الشراكات الملتبسة بين الأنظمة وبين بعض المظاهر الإسلامية الرقيقة، كقوانين المواريث والعبادات و"دين الدولة الإسلام" ووجود مؤسسات للفتوى وإدارة الأوقاف، فتلك شراكات ليست بذات بال، فكل هذه المظاهر الإسلاموية محض ديكور أو طلاء خفيف لأنظمة قمع لا علاقة لها بالإسلام الحقيقي كدين ودولة.
وأذكر هنا أن الشهيد الدكتور عبد الله عزام كان يدرسنا في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية مادة تسمى "حاضر العالم الإسلامي"، وكان ينوه في بداية الفصل إلى أن الاسم الحقيقي للمادة الذي يجب أن تدعى به هو "حاضر العالم الذي كان إسلاميا"!
وهنا لب الموضوع..
النتيجة في النهاية، لا شراكة حقيقية بين "الإسلام السياسي" وأي نظام حكم عربي قائم، فما البديل؟ وكيف تعمل الحركات الإسلامية بعد تسجيل مسيرة فشل استمرت طيلة نحو قرن من الزمان؟
تلك مسألة تحتاج لوقفة أخرى، إن تيسر الأمر إن شاء الله.