أكثر من نصف قرن مرت على رحيل أبو الهزائم العربية في العصر الحديث (28 أيلول/ سبتبمر 1970م) ولا زالت آثاره بيننا تنتج "كل يوم هزيمة تلو هزيمة"، وتتملكنا الحيرة بالفعل من الوقوف على حقيقة هذا الوصف، فلا مبالغة على الإطلاق إذا اتصلت خيوطه بخيوط كل كارثة وهزيمة عاشتها الأمة وتعيشها حتى هذه الساعة. والأمر لا يحتاج دراسات وإحصاءات ونظر وتحليلات ليتحقق أمام عينيك هذا الاتصال الوثيق الذي ما زال موصولا بأصله.
وتزداد الحيرة تحيرا حين تحاول فهم المسألة.. هل هي تتعلق بالشخص نفسه؟ أم تتعلق بالزمن التاريخي الذي بزغ فيه طالعه السعيد؟ أم تتعلق بالموقع، والذي كان أنسب موضع لتشييد المسرح الذي شهد ما شهد من كل أنواع الدراما التاريخية التي تكاد تفوق ما تركه أسخيليوس وسوفوكليس، أهم كتّاب التراجيديا الإغريق؟ والذين للمفارقة صوروا لنا بطلا يقترف في العادة "جريمة رهيبة" دون أن يدري ودون أن يعلم كم هو أحمق ومستهتر ومغرور، ثم بعد ذلك عندما يتحقق من خطئه - ويحدث ذلك ببطء شديد - وإذا به يجد كل شيء حوله يتحطم ويتحطم ويتحطم.
ظاهرة "الزعيم الأسطورة" الذي يدخل القرية الوديعة وأيضا الفاسدة، ممتطيا حصانه الشهير ويعلن أن القدر جاء به لإصلاح القرية.. ثم يفعل فيها ما يحلو له
* * *
حدثنا التاريخ عما يطلق عليه الزعيم الكبير (الفوهرر هتلر/ الدوتشي موسليني/ الكوديللو فرانكو في إسبانيا)، وتجاوز التاريخ هذه الشخصيات بعينها وطرح أمامنا الظاهرة بأم عينها.. ظاهرة "الزعيم الأسطورة" الذي يدخل القرية الوديعة وأيضا الفاسدة، ممتطيا حصانه الشهير ويعلن أن القدر جاء به لإصلاح القرية.. ثم يفعل فيها ما يحلو له.
هكذا تقول الحكاية. هو إذن الرجل القوي الذي يصل إلى السلطة معتمدا على قدراته وعلى الأتباع القليلين من حوله، ولأنه يتمتع بقدرات عسكرية ذاتية يتمكن من قيادة "تنظيم" للوصول إلى السلطة باستخدام العنف، وغالبا ما يستغل ظروف الاضطرابات.. سواء التي يصنعها بنفسه أو التي تكون موجودة بالفعل.
أبرز الأشكال التاريخية لهذه الظاهرة وأشهرها هي ظاهرة "الانكشارية" التي استخدمت القوة المسلحة في اغتصاب السلطة وعزل السلاطين في الدولة العثمانية (السلطان عثمان الثاني عزل وقتل سنة 1622م/ السلطان إبراهيم الأول سنة 1648م).
بعد تطور التنظيمات العسكرية وتكوين الجيوش سيكتب التاريخ عن شيء مدهش للغاية اسمه "الانقلاب العسكرى". طبعا سيكون وراء كل ذلك مؤامرة ومتآمر ومأمور وعبيد للمأمور، كما حدث في إيطاليا عام 1922 (موسوليني ومسيرة روما الشهيرة)، وفي الأرجنتين عام 1930 (انقلاب أوريبورو واستمرار الحكم العسكرى حتى 1983)، وفي سوريا عام 1949 (حسني الزعيم وأول انقلاب عسكري في الوطن العربي.. أو النكبة الأولى كما قال بحق الزعيم فارس خوري والذي عُرف بالأب المؤسس للجمهورية السورية)، ثم في
مصر (عبد الناصر 1952) و"الأخ العقيد" في ليبيا (1969) أظرف وأطرف وأشرس زعيم. وما يفعله اللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا الآن ما هو إلا ذلك أو شبه ذلك، لكن من الدرجة الثالثة.. رديء وكالح للغاية.
بعد تطور التنظيمات العسكرية وتكوين الجيوش سيكتب التاريخ عن شيء مدهش للغاية اسمه "الانقلاب العسكرى". طبعا سيكون وراء كل ذلك مؤامرة ومتآمر ومأمور وعبيد للمأمور
روبرت بوتنام، أستاذ السياسة العامة في جامعة هارفارد وصاحب الكتاب الشهير "كيف تنجح الديمقراطية" الذي ترجمته د. إيناس عفت (الجمعية المصرية للنشر والترجمة)، يرى أن حالة "الزعيم/ الكوديللو.." لا يمكن اعتبارها انقلاباً عسكرياً.. لكن يمكن الحديث عن ذلك فقط عندما تنحرف المؤسسة العسكرية عن الدور المرسوم لها، وتحاول التأثير في الوظائف والهيئات الأخرى غير العسكرية في الدولة بما فيها القيادات السياسية، كما حدث في تركيا في أوقات متفرقة.
* * *
لم يأت به الشعب ولا حتى الجيش، أتى من خلال تنظيم سري داخل الجيش.. ثم لا يلبث أن يدفع بهم "التنظيم" بعيدا على أطراف مدينته التي سيشيدها بكل أشكال التنظيمات التي بداخلها تنظيمات، مثل عروس الماتريوشكا الروسية الشهيرة.. حتى تصل إلى قبضة ويد الزعيم بشخصه وأصله وفصه.
حين كتب أ. صلاح جاهين أغنية "ثوار" الشهيرة التي لحنها أ. السنباطي وغنتها السيدة أم كلثوم أمام "الزعيم" سنة 1961م.. جاء عند مقطع "ثوار مـع البطـل اللي جـابـه الشعب"، وحكى لأصدقائه بعدها قائلا: وقلت لنفسي الشعب لم يأت به، وتبقى كذبة كبيرة.. وأخذت أفكر وأفكر.. أمال جه إزاي؟ فخليتها اللي جابه القدر. وأكمل بعدها:
رفعنـا راسنـا لفـوق لـمـا ظـهـــر بـوسنـا السـمـا ويـاه ودوسنـا الخطر؟!
وهو ما لم يحدث على أي نحو ولا بأي صورة، وردد الناس ذلك وراء أم كلثوم أو بالأحرى صلاح جاهين.. وهو ما جعل الشاعر الراحل يعتبر نفسه مسؤولا بشكل ما عن المشاركة في صنع الكارثة التي هبطت على رؤوس المصريين، مما أصابه بالاكتئاب الحاد مرات ومرات حتى مات بسببه رحمه الله.
سيقول لنا توفيق الحكيم في عودة الوعي: لم يكن الرجل في يوم من الأيام سياسيا، ولم تكن له قط طبيعة رجل السياسة التي يملكها رجال اتصل بهم وعرفهم مثل نهرو وتيتو.. نهرو قال له في عبارة رقيقة موحية إنه يحتاج إلى قليل من الشعر الأبيض.. كان يقصد قليلاً من الرزانة والحكمة والتجربة والوقار والأخلاق.
* * *
سيكون أبرز وأسوأ وجه للسياسة والحكم في عهده غياب مقومات "الدولة"؛ من مؤسسات وهيئات وسلطات، وهو ما سيترسخ تقريبا في كل المنطقة العربية بعدها استلهاما من الزعيم الخالد
سيكون أبرز وأسوأ وجه للسياسة والحكم في عهده غياب مقومات "الدولة"؛ من مؤسسات وهيئات وسلطات، وهو ما سيترسخ تقريبا في كل المنطقة العربية بعدها استلهاما من الزعيم الخالد. سنرى الاستخفاف الشديد الذي تعامل به الرئيس التونسي قيس سعيد مع الدستور وفكرة الدولة ومؤسساتها وهيئاتها، وما كان ذلك إلا كابوسا من كوابيس الزعيم الخالد هبط عليه ذات ليلة حالكة الألوان.
* * *
سيحدثونك كذبا وزورا عن مجانية التعليم.. وسيلجأون لقوة التكرار في تأكيد أكذوبة "لولا عبد الناصر ما تعلم أحد"، لكننا سنعلم من الدكتور صابر عبد الباقي، مدرس الاجتماع بجامعة المنيا، أن التعليم الابتدائي في مصر كان مجانيا منذ عهد الملك فؤاد في الثلاثينيات، ومنذ عام 1944 أصبح التعليم الأساسي مجانيا، وفي عام 1951م تقررت مجانية التعليم الثانوي. ووزير المعارف الأشهر د. طه حسين هو صاحب مقولة التعليم كالماء والهواء.
سنة 1962م تقررت مجانية التعليم الجامعي.. وكانت القواعد قبل عام 1952 تمنح المجانية فقط للحاصلين على الثانوية بـ 60 في المائة، ثم يذهب الباقي إلى التعليم المهني مما يحتاجه سوق العمل وخطط التنمية، لكن وبدءا من 1962م، زحف على المجتمع طوفان الجامعيين بلا عمل ولا ضرورة، وتكدس عددهم في المدرجات وبعد التخرج في الشارع، وهو ما أحدث فجوات اقتصادية واجتماعية وأضر ضررا بالغا بـقيمة وحرمة "العلم الجامعي"، وهو ما سيمتد طويلا طويلا وينحدر كثيرا كثيرا، على أنه من المدهش أنه طوال فترة 1954-1970 لم تنشأ في مصر سوى جامعة واحدة فقط.. في أسيوط (وكان البدء في إنشائها عام 1950م) وثلاث كليات في طنطا والشرقية والمنصورة.. قبل 1952 كان في مصر ثلاث جامعات من أكبر جامعات العالم، هي فاروق الأول (الإسكندرية)، وجامعة فؤاد (القاهرة)، وجامعة إبراهيم باشا الكبير (عين شمس).
ولم يُخرج لنا مبدعا واحدا تلقى تعليمه ونمى وترعرع في ظل حكمه، كل ما شهدته الخمسينيات والستينيات من أسماء كبيرة غُرست بذورها قبل 1952م، وتحديدا بعد ثورة الشعب الكبرى 1919م (العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وأم كلثوم وعبد الوهاب مصطفي صادق الرافعى والمراغى وشلتوت والغزالي ومحمود غنيم وباكثير.. الخ).
سيحدثونك كذبا وزورا عن الصناعة والخطة الخمسية وعزيز صدقي، والحال ما نراه في واقع الحال وفي كل الأحوال.
* * *
دمر وحدة وادي النيل التي انتهت بانفصال السودان عن مصر، والتي قال عنها النحاس باشا في وجه الإنجليز: تقطع يدي ولا تفصل مصر عن السودان، ولا زالت جراح السودان تترى من ذاك اليوم المشؤوم.. دمّر فكرة "وحدة مصر والشام"، والتي كانت عنوان انتصار الشرق في كل العصور؛ بالنموذج البائس السقيم الذي قدمه في الوحدة المصرية السورية (شباط/ فبراير 1958م) والتي انتهت بفشل فاضح.. في اليمن سنتذكر بكل الأسى وإلى هذه الساعة!.. سنتذكر التدخل الثأري من النظام السعودى وقتها وهو ما تسبب في قتل 200 ألف يمني و15000 جندي مصري، حتى تأميم شركة قناة السويس انتهى باحتلال إسرائيل سيناء، كانت إسرائيل تحتل نصف فلسطين؛ فانتهت باحتلالها النصف الآخر إضافة إلى غزة والجولان وسيناء واستشهاد عشرين ألف جندي مصري على صحرائها.
بأي قدر من الجرأة على الشعب والوطن والتاريخ يمكن أن يمدح أحد هكذا زعيم وهكذا تجربة، وهي التجربة التي جاءتها من فرص التاريخ ما لم ولن يأتي مثلها في أي وقت ثم صنعت في حق الأمة ما صنعت
ولو كانت سيناء عمرانا ومدنا، وجمال حمدان وكل عباقرة الجغرافيا الاستراتيجية بحّت أصواتهم معه ومع نظامه في ضرورة تعمير وملء هذا الفراغ الرهيب المُهدِد للأمن القومي! وأصلا بها ما بها من الثروات.. لو كان قد حدث ذلك لما ضاعت بكل هذه الخيبة في ست أيام، ولما رجعت بكل هذا الهلاك في 1982م.. وها هي اليوم لا زالت تشهد دم أبنائنا وإخوتنا.
* * *
بأي قدر من الجرأة على الشعب والوطن والتاريخ يمكن أن يمدح أحد هكذا زعيم وهكذا تجربة، وهي التجربة التي جاءتها من فرص التاريخ ما لم ولن يأتي مثلها في أي وقت ثم صنعت في حق الأمة ما صنعت؟.. ليس هذا فقط، بل ويريدون بكل ما في الصلافة والتبجح من غشم أن نعتبر أن ذلك كله كان مؤامرة "استعمارية" على الرجل وتجربته.
أنعى لكم يا أصدقائي اللغة القديمة والكتب القديمة.. أنعى لكم كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة.. أنعى لكم.. أنعى لكم نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة. هكذا بكى وأبكانا الشاعر الكبير نزار قباني.. وهكذا كانت التجربة وزعيم التجربة.
twitter.com/helhamamy