بكل تأكيد، الشعب
التونسي لا يمكن حكمه بالأدوات القديمة التي أشاعها الاستبداد طيلة عقود حكم ابن علي، ولا يمكنه التخلي بأي حال من الأحوال عن تجربته في
الديمقراطية والمواطنة وحماية دستوره الذي صاغه بعد الثورة.
خروج التوانسة للشوارع للمطالبة بحماية الدستور الذي عُلق العمل به بأمر من الرئيس
قيس سعيد في 25 تموز/ يوليو الماضي، ودوام حالة الشلل البرلماني والحزبي والحكومي والمؤسساتي، بعدما اعتقد نظام قيس سعيد بقدرته على الاستئثار بكل السلطات والصلاحيات التي أجازها لنفسه حسب المادة 80 من الدستور المعطل، وبخطابات شعبوية يواجه فيها المجتمع المدني التونسي والمسار السياسي للأحزاب السياسية التونسية؛ بالتنكر لتجربتها والهجوم عليها بشعبوية لإضعاف حركتها وتشتيت جهودها في عملية الانتقال الديمقراطي.. كل ذلك شكل حركة جدل وحوار ونقاش بين مختلف الأحزاب المجمعة على رفض انقلاب الرئيس قيس سعيد على الدستور والمؤسسات المُنتخبة.
وبات تجديد دور حركة النهضة التونسية في المشهد السياسي في تونس يتطلب المراجعة الانتقادية الشاملة، لكنه لن يكون بديلاً للنقد الذاتي الخجول والتبريري الذي عكفت عليه أحزاب سياسية في تناول إجراءات الرئيس سعيد، والتي استند جزء منها على التكيف مع طبيعة السلطة القائمة الفوقية والاستعلائية، دون معالجة مشكلات مجتمع له سماته وتناقضاته المحددة؛ وليس كشكل حزبي معزول عن أوضاع ومشكلات وقضايا المجتمع التونسي، وذلك ما استدعى مراجعة لمجمل التوجهات التي حكمت علاقة حركة النهضة بالمجتمع التونسي وبالسلطة القائمة ودورها فيها وأسس التحالفات التي أملتها البرامج الحزبية "النفعية"، دون مراجعة جريئة وحازمة للخطاب السياسي والفكري، وهو ما قاد مؤخراً لحملة استقالات جماعية في الحركة طاول قيادات وكوادر.
التردد في إجراء مراجعة انتقادية شاملة، سواء في النظام السياسي أو الحزبي القائم في تونس، يهدد بالمزيد من التردي في دور القوى والأحزاب التونسية التي شهدت تجاذبات واصطفافات مؤيدة للرئيس أو ورافضة لاستبداده، أو مؤيدة للدستور أو ممزقة له.. وهذا يهدد بعزلة هذه القوى، ومظاهر الغضب في الشارع التونسي هذه الأيام تقول: إنه لا فائدة من اجراء التغيير والتعديل الشكلي الذي أعاد إنتاج الأساليب القديمة في حكم الشعب.
ومفاهيم قيس سعيد وقيادته ونهجه، والذي يقوم بتسجيل الإنجازات الوهمية، إنما تأكيد على أن ما يجري في الشارع التونسي من رفض وغضب لسياسات الرئيس يؤكد على عدم صحة الإنجازات وعدم ملاءمة البلاغة الرئاسية لإنقاذ التجربة الديمقراطية في تونس وحل مشكلاتها.
تجربة الثورة التونسية، وعملية الانتقال الديمقراطي، ساهمت في تحول بعض الأحزاب من التحدث عن الشعب إلى الحديث معه والاقتراب من مشكلاته وحملها في برامج عملها، أما تحويل مؤسسة السلطة لمؤسسة مغلقة على ذاتها بخطاب بعيد عن مصالح وهموم المجتمع؛ فقد قاد التونسيين بالأساس الى الثورة، ويقود باقي المجتمعات الرازحة تحت الاستبداد والطغيان نحو طريق مماثل.
والأحزاب التونسية التي نزلت للشوارع لحماية دستورها والحفاظ على عملية الانتقال الديمقراطي في المجتمع، مطالبة اليوم، بما فيها حركة النهضة التونسية، بالتخلص من الدوغمائية والتمحور حول الذات؛ الذي يقود إلى تقويض القيم والأهداف التي تحملها وتناضل من أجلها، بغير ذلك ستواجه هدر رصيدها النضالي والكفاحي.
من دلالة المظاهرات التونسية نهاية خداع الشعب، لذلك كله يصبح من الضروري المبادرة إلى فتح صفحة جديدة من الحوار الجدي الديمقراطي؛ والبعيد عن الحسابات الضيقة للقوى والأحزاب التونسية حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، حوار يضع حصيلة مراجعة كل طرف أمام الجميع. وفي صلب هذه القضايا قضية الديمقراطية والحرية والمواطنة.
أما المنظومة العقائدية الجامدة والمكتملة في فكر السلطة وبعض أحزابها؛ فهي غير منفتحة على أي تطوير وإغناء، على ضوء متغيرات الواقع التونسي بعد الثورة، والواقع العربي بعد الثورات المضادة.
وتبقى قيم الحرية والعدالة والمساواة غير خاضعة لتيارات فكرية وحزبية؛ بقدر ما أصبحت التزاما معياريا وأخلاقيا لا يمكن تهميشها.
الوعي الديمقراطي في تونس هو تدعيم للاستقلال الوطني، وتحصين للمجتمع تجاه محاولات استغلال الديمقراطية والتعددية وصولاً لتقويض أسسها ومرتكزاتها، وهو ما حدث في تجربة الرئيس قيس سعيد وانقلابه على الديمقراطية وعلى الدستور، في محاولةٍ لتكريس هيمنة حكم الفرد الواحد وقصور دوره "الإصلاحي" على إقصاء وشيطنة كل العمل السياسي كله في تونس، معتمدا على أساليب ديماغوجية في التعبئة، وعلى موارد غير بسيطة من تيار الثورة المضادة في الخارج.