هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يتابع العالم بقلق سوق العقارات الصينية، في أعقاب مواجهة مجموعة «إيفرغراند» احتمالية التخلف عن السداد. وعكف مراقبو السوق على عقد مقارنات ما بين ما يجري في الصين اليوم والانهيار العقاري الذي شهدته الولايات المتحدة عام 2008، بل وقارن البعض مع انهيار سوق العقارات في اليابان قبل عقدين. إلا أنه رغم وجود بعض التشابهات، يبقى الوضع القائم في الصين اليوم مختلفا على نحو جوهري عن الحدثين السابقين.
وعلى ما يبدو، تتمثل المقارنة الأكثر وضوحا مع انهيار العقارات الصيني المحتمل، في فقاعة الإسكان داخل الولايات المتحدة التي انفجرت في أعقاب انهيار بنك «ليمان براذرز». نحن نعلم الآن أن الفقاعات العقارية تضر الاقتصاد على نحو خاص؛ لأنها تنطوي على الكثير من الديون. وعندما تنفجر هذه الفقاعات، فإنها تميل عادة إلى إسقاط النظام المالي معها، الأمر الذي يتسبب في تراجع المقرضين، خوفا من الإفلاس وغياب السيولة. في الواقع، هذا تحديدا ما حدث في الولايات المتحدة، لكن مثلما سارع المعلقون إلى التوضيح، فإن الصين لا تواجه في واقع الأمر خطر هذا النمط من السيناريوهات، نظرا لسيطرة الحكومة على البنوك. وإذا طلب الرئيس شي جينبينغ من البنوك الصينية الاستمرار في الإقراض، فإنها ستفعل ذلك بالتأكيد، بغض النظر عن مدى سوء الوضع المرتبط بمؤسسات أخرى على غرار ما تواجهه «إيفرغراند».
الحقيقة أن الفقاعة العقارية في اليابان وانفجارها الذي حدث في أوائل تسعينيات القرن الماضي، يعد مثالا لا يفهمه سوى القليل نسبيا خارج البلاد. ومع ذلك، قد يسارع البعض غريزيا للربط بينه وبين ما يجري اليوم في الصين، باعتبار أن كلا البلدين يقع في شرق آسيا.
أواخر الثمانينيات، أتت جهود اليابان للحاق بالغرب بكامل ثمارها، لكن النمو الاقتصادي للبلاد كان يتباطأ. وفي محاولة للحفاظ على مستوى النمو الذي اعتادت عليه، اقتحمت البنوك اليابانية مجال التمويل العقاري على نحو كبير، وعاونها في ذلك تخفيف صرامة القيود التنظيمية وانخفاض أسعار الفائدة وقوة العملة.
حتى هذه اللحظة، يبدو هذا الوضع شبيها بعض الشيء بما تشهده الصين اليوم. جدير بالذكر هنا أنه في كل مرة يتعرض الاقتصاد الصيني لخطر التباطؤ، تصدر أوامر للبنوك بتقديم قروض، وغالبا ما تقدم البنوك قروضها إلى مجال العقارات والصناعات المرتبطة به مثل البناء. ويبدو هذا نسخة تتميز بالتأني أكثر عما فعلته اليابان، لكن على الأرجح يبقى الحافز المتمثل في الحفاظ على النمو السريع متشابها في الحالتين.
ثمة عامل آخر أسهم في تفاقم الفقاعة العقارية في اليابان، وهو نظامها المالي، فعلى عكس الحال داخل الولايات المتحدة، اقترضت معظم الشركات من البنوك الكبرى، بدلا عن إصدار السندات. ومن أجل الحصول على قروض، احتاجت الشركات إلى ضمانات، وكانت الأراضي هي الضمانات التي أظهرت البنوك الحماس الأكبر تجاه قبولها. وكان من شأن ذلك زيادة الطلب على العقارات بالمناطق الحضرية، الأمر الذي تسبب في تفاقم فقاعة الأسعار، وتسبب في الوقت ذاته في تفاقم الانهيار عندما تراجعت قيمة الضمانات التي قدمتها الشركات. وعليه، رفضت البنوك تقديم مزيد من القروض للشركات، ما أجبر الأخيرة على تقليص نشاطاتها.
ومن جديد، من غير المحتمل أن يشكل مثل هذا الأمر مشكلة للصين، فرغم أنه بالتأكيد تحمل الشركات الصينية على كاهلها الكثير من الديون، فإنه إذا لم تكن العقارات جزءا من نشاطاتها الأساسية، فإن انخفاض قيمة ما تحوزه من الأراضي، ربما لن يشكل أهمية فيما يخص عمليات الاقتراض المصرفي، ذلك أنه سيبقى بمقدور الحكومة توجيه القروض للوجهة التي ترغبها.
في الوقت ذاته، من المؤكد أن الشركات التي تعتمد على العقارات أو البناء والحكومات المحلية التي تمول نفسها عبر بيع الأراضي ستتعرض لضربة كبرى إذا ما تراجع قطاع العقارات. ومع ذلك، من المرجح أن تكون الشركات العاملة بمجال التصنيع وغيره من المجالات بمأمن، على عكس ما كان عليه الحال في اليابان.
وهنا، تكمن الأخبار السارة. بصورة أساسية، اتسمت كل من الولايات المتحدة واليابان بأنظمة مالية رأسمالية، حيث يمكن للمقرضين الانسحاب عندما تنهار العقارات. في المقابل، تغيب عن الصين نقطة الضعف تلك.
بيد أنه من جميع النواحي باستثناء الاستقرار المالي، يبدو الاقتصاد الصيني أكثر عرضة لحدوث انهيار عقاري عن أي من الولايات المتحدة أو اليابان. جدير بالذكر في هذا الصدد أن صناعة العقارات والصناعات الأخرى المرتبطة بها، تشكل ما يقرب من 30 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي للصين، ما يشكل نصيبا أكبر بكثير عما كان عليه الحال داخل الولايات المتحدة في ذروة الازدهار العقاري.
وإذا ما كان شي جادا بشأن دفع الاقتصادي الصيني بعيدا عن العقارات وباتجاه التصنيع، مثلما أعلن، فإن هذا بالتأكيد سيكون تحولا لا يخلو من ألم. وإذا ما جرى استغلال سقوط «إيفرغراند» وانهيار السوق العقارية لإجراء هذا التحول الهيكلي، سيزيد الألم؛ لأنه سيتركز في غضون فترة قصيرة.
وما يزيد الأوضاع سوءا، أن المواطنين الصينيين يعتمدون على نحو استثنائي على العقارات، حيث يبلغ معدل الملكية 90 في المائة، وتشير تقديرات إلى أن الصينيين الذين يعيشون في مناطق حضرية يملكون أكثر عن 70 في المائة من ثروتهم الخالصة في صورة عقارات. في الواقع، هذا أمر لم تواجه اليابان ضرورة التعامل معه، ذلك أن المنازل اليابانية تميل قيمتها إلى الانخفاض، وليس الارتفاع، ذلك أن الحكومة تميل إلى إعادة بنائها بين الحين والآخر. لذلك، فإنه عندما انهارت أسعار الأراضي، فإن ذلك لم يقض على الطبقة الوسطى. أما الطبقة الوسطى داخل الولايات المتحدة، فتعرضت لضربة أقوى، لكن إذا تراجعت أسعار الأراضي داخل الصين، فإن جموع السكان ستتعرض لأضرار مالية هائلة.
وأخيرا، من شأن حدوث انهيار بقطاع العقارات يستمر لمدى طويل، تقليص قدرة الصين على الاستجابة لصدمات الاقتصاد الكلي بدرجة كبيرة. من ناحيتهما، تستخدم اليابان والولايات المتحدة السياسة النقدية والمالية التقليدية لمحاربة فترات الركود، بينما لطالما اعتمدت الصين على إصدار أوامر للبنوك بالإقراض. ومن دون العقارات، سيبقى هناك عدد أقل بكثير من الشركات الرابحة أمام البنوك الصينية لإقراضها، الأمر الذي يعني أن الصين ستكون عرضة للتضرر بشدة من صدمة الركود التالية.
وبذلك، يتضح أن وضع العقارات في الصين يختلف إلى حد ما عن وضعه داخل الولايات المتحدة واليابان فيما يتعلق بالانهيار العقاري الذي شهدته البلدان، ولكنه أسوأ من نواح كثيرة. ومع أن الصين لا تتسم بالهشاشة المالية التي تعانيها الدول الرأسمالية، فإن ثروة الطبقة الوسطى لديها وسياسة الاستقرار والنمو طويل الأجل تعتمد جميعها بشكل أكبر على العقارات. ولا بد أن أي شركة تستثمر في الصين، أو تكسب قوتها من التصدير إلى الصين، يخالجها توتر بالغ بشأن التداعيات المحتملة من أزمة «إيفرغراند».
(الشرق الأوسط اللندنية)