هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
باتت تلك السياسات التي تنتهجها بعض الأنظمة السياسية العربية في إدارة المشهد الديني في مجتمعاتها، والرامية إلى تنحية السلفيين وإقصائهم عن مواقع التأثير، وتقريب الأشاعرة والمتصوفة وتمكينهم من إعادة تشكيل الحالة الدينية تتبلور بشكل أوضح يوما بعد يوم.
وبدأت تلك التوجهات بالتشكل بعد تصنيف السلفية كحاضنة لتفريخ الفكر الديني المتشدد، وتعزيزها لنزعة الغلو، وإشاعتها للتطرف في أوساط المتدينين، وهي الرؤية التي تبنتها مراكز البحوث والدراسات الأمريكية بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، الأمر الذي دفعها لتقديم توصيات بمحاصرة الفكر السلفي، والعمل على إقصائه عن مواقع التأثير في المجال الديني.
وقد تعززت تلك التوجهات بعد انتفاضات الربيع العربي، التي دفعت بحركات الإسلام السياسي والحركي إلى صدارة المشهد الديني، بما فيها بعض الاتجاهات السلفية الإصلاحية والحركية، وهي التي يُنظر إليها بوصفها قوى إسلامية معارضة، عُرفت بمناكفتها للأنظمة السياسية، وباتت تشكل تحديات حقيقية لها، وتستبطن في الوقت نفسه خطابا داخليا يسعى لتقويض شرعية تلك الأنظمة وفق منتقديها.
وكان لتحولات المزاج السياسي الرسمي العربي، بعد الحراكات العربية المطالبة بإصلاح الأنظمة السياسية، أثر كبير انعكس على الحالة الدينية برمتها، تجلى بتوجهاته الرامية إلى محاصرة السلفية والعمل على إقصائها، واختيار نسق التدين الصوفي الأشعري المذهبي بوصفه تدينا ناعما، لم يعرف عنه الاشتغال بالسياسة، أو المشاركة والمنافسة في ميادين العمل السياسي حسب الكاتب والمحلل السياسي الأردني، الدكتور حسين الرواشدة.
حسين الرواشدة.. كاتب أردني
ولفت الرواشدة إلى أن "الحالة في الأردن لم تنضج بعد لتبني أي اختيارات دينية معينة، مع وجود معطيات ومؤشرات تشير إلى تبلور اتجاه لتبني الأشعرية الصوفية المذهبية" مستدركا بأن "الدولة لا تستطيع أن تفرض على المجتمع اتجاه ديني معين، فالمجتمع أوسع وأكثر مرونة من أن يقتنع بذلك، ومن الصعب في الوقت نفسه إقصاء أي اتجاه من المشهد الديني العام".
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "من المعلوم في بدايات تأسيس الدولة الأردنية قبل ما يقارب 70 سنة، أن الحضور الأكبر كان للتيار الأشعري الصوفي المذهبي، وكان لرجالاته دور كبير في تأسيس المؤسسات الدينية الرسمية".
وعن بواعث وأبعاد تقريب التيار الأشعري الصوفي، أرجع الرواشدة ذلك التوجه إلى "رغبة السياسي في تقريب نسق ديني ناعم، يبتعد عن المناكفات السياسية، ولا يتبنى الدعوة للتمرد وما شابه، خاصة بعد أن تم تصنيف السلفية كاتجاه ديني متشدد، يدعو إلى الغلو، وهي السمعة التي لحقت بالسلفية، ما أثر على حضورها وتأثيرها بشكل سلبي، لا سيما بعد قرار السعودية تنحية الوهابية عن المكانة التي كانت تحظى بها طوال القرون السابقة".
ونبه على "ضرورة الانتباه إلى صعوبة إقصاء أي تيار ديني، حتى لو كان في إطار التوجهات الرسمية، ولا يمكن في الوقت نفسه لأي تيار أن يملأ المكان الديني ويشغله لوحده، وما ينبغي أن يكون الحال عليه، الإفساح لكل التيارات لتعبر عن أفكارها، وتدعو إلى نسقها الديني، بالتزامها بالقوانين النافذة، مع احترام كافة الاتجاهات الدينية بعضها لبعض بعيدا عن التبديع والتضليل، والنزعة الاتهامية".
وعلى الرغم من الخلافات العقائدية العميقة بين السلفية والأشاعرة، خاصة ما كان منها في مسألة الصفات الإلهية، وهو خلاف قديم إلا أنه لا خلافات تُذكر فيما يتعلق بالسياسة الشرعية، فالأشاعرة لا يخالفون السلفية وأهل الحديث في منع الخروج بالسيف على الحكام حسب الباحث الشرعي المصري، والنائب السلفي السابق، الدكتور علي ونيس.
ونقل ونيس عن ابن تيمية قوله: "وأما الأشعرية فلا يرون السيف موافقة لأهل الحديث، وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى مذهب أهل السنة والحديث"، مضيفا أن "من قرأ (غياث الأمم في التياث الظلم..) للإمام الجويني، أو (الأحكام السلطانية) لأبي الحسن الماوردي، سيجد أنهما يوافقان السلفية وأهل الحديث إجمالا في باب السياسة الشرعية، وهما من أساطين الأشاعرة".
علي ونيس.. نائب سلفي مصري سابق
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "ولا أظن أن الخلاف بين السلفية والأشعرية في مسألة الصفات أو غيرها يؤثر في تقريبهم من الحكام، أو إقصاء السلفية عنهم، لكنني أرى أن السبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى كون المذهب الأشعري في العقيدة هو الذي تتبناه الهيئات الدينية الرسمية، وعلى رأسها الأزهر الشريف".
وتابع: "وكذلك فإن أكثر الأشاعرة صوفية، وقليل منهم من يتبنى المنهج الصوفي الأصيل، فلا يخلو منتهج لنهج الصوفية منهم من كثير من البدع، وأهمها التسليم لولاة الأمر تسليما مطلقا، وعدوا ذلك من التسليم لقدر الله تعالى، وأن مناصحتهم والأخذ على أيديهم من الاعتراض على قدر الله تعالى، ولو لم يترتب على ذلك مفاسد" على حد قوله.
ومع أن السلفية والأشاعرة يتوافقان على طبيعة العلاقة مع الأنظمة السياسة بطاعتها وإعطائها الولاء التام بوصف الحكام أولياء أمور شرعيين، إلا أن توجه الأنظمة لتنحية السلفيين وتقريب الأشاعرة يثير تساؤلات عما وراء تلك السياسات، وما الذي يمكن للأشاعرة تأديته والقيام به في الوقت الذي عجز عنه أو (رفض) السلفيون القيام به؟
من جهته رأى الباحث في الفكر الإسلامي، حسام الدين عوض أن تلك التوجهات تأتي في سياق توظيف الأنظمة السياسية لتلك الأطراف والاتجاهات الدينية بما يخدم سياساتها، وينفذ أجنداتها، لافتا إلى أن "الأمر لا يتعلق بالسلفية أو الأشعرية الصوفية، بقدر ما يتعلق بالفكر الديني السائد، أو الرائج، والذي تحرص السلطة السياسية ـ في كل عصر وفي كل مصر ـ على التماهي معه، وهذا توجه وسلوك قديم".
حسام الدين عوض.. باحث في الفكر الإسلامي
وأردف في حواره مع "عربي21": "الأشعرية والسلفية حركات علمية في الأصل، ليس لها توجهات سياسية، فكان لا بد للأنظمة الحاكمة من القيام بمغازلة كليهما، وتقريبهما من بلاط السلطة، فبدأ الأمر في دول شبه الجزيرة العربية التي تبنت السلفية وأغدقت عليها، فيما كانت دول الشام وشمال أفريقيا تحرص على دعم الحركات والطرق الصوفية، حين لم يكن للسلفية صوت مسموع في تلك البلاد".
وأضاف: "ثم بعد أن زحف المد السلفي إلى بلاد الشام وشمال أفريقيا خلال تسعينيات القرن الماضي، بفضل الإنفاق السخي الذي أنفقته المحفظة البترودولارية الحريصة على تحصين سلطانها السياسي بالسلطان الديني، صار للسلفية منابر وأصوات مسموعة، وبدأ الصوت الصوفي (الذي يمثل الجانب الروحي للأشعرية والماتريدية) يخفت تدريجيا".
وتابع عوض: "ثم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وبعد أن تنبهت دول الغرب إلى خطورة العفريت (دعمها للإسلاميين لمقاتلة الروس في أفغانستان) التي قامت بتحضيره، ولا زالت عاجزة عن صرفه حتى يوم الناس هذا، وبعد أن ان لم يعد بمقدور الأنظمة كسر شوكة التيار السلفي الجهادي الذي أعطته هي قبلة الحياة قبل عقود، أخذت بالبحث عن بديل ديني ليحل محله".
وختم حديثه موضحا أنه "مع استحالة تدجين ذلك التيار كما حدث مع السلفية العلمية التقليدية عندها حاولوا البحث عن البديل الجاهز الذي صار جسدا بلا روح، بعد عقود من كبس زر (السلفية)، فعادت الأنظمة من جديد لتكبس الزر الآخر، ألا وهو التدين الأشعري الصوفي، لعلّ وعسى ينجح في سحب البساط من تحت أقدام التيار السلفي، وكسر شوكته" وفق وصفه.