لا تزال
فلسطين مهوى أحرار العالم، ولا يزال الفلسطينيون منبع الإلهام ومبعث الأمل لدى الشعوب العربية المقهورة والأسيرة داخل أوطانها المحتلة من قِبل حكام طغاة فاشيين، عينهم المحتل قبل أن يرحل ولا يزال يصنعهم على عينه، ليكونوا وكلاءه في المنطقة.
ولكي يثبت هذا الوكيل جدارته بهذا المنصب؛ أمعن في الظلم والاستبداد وإذلال الشعب لينال رضا أسياده، فأصبحت الشعوب ضعيفة مستكينة خانعة محبطة، وتمكنت روح الهزيمة من التسرب إلى داخلها، وقالت لا طائل لنا اليوم بالحكام وجنودهم. فليس لدينا القوة لمواجهتهم، وتغافلت عن حقيقة هامة وهي أن الشعوب أقوى من الحكام مهما بلغ طغيانهم وظلمهم؛ إذا ما توافرت لديها العزيمة والإرادة.
وقد أدركت الشعوب هذا أثناء ثورات الربيع العربي، واستطاعت أن تخلع أعتى الطغاة وتذلهم ذلاً مُهيناً، لم يكونوا ليتخيلوه حتى في كوابيسهم، فكان لا بد أن يعيدوا الشعوب مرة أخرى إلى حظيرة الخوف ويسقونها كأس الذل والهوان، ليتسرب اليأس والإحباط إلى نفوسها من جديد، بوأد ثوراتها بثورات أخرى مضادة؛ تكسر إرادتهم وتنزع منها نشوة الانتصار والإحساس بالكرامة والعزة، وتغرس بدلاً منها الروح الانهزامية الذليلة!
ومع ذلك ظلت جذوة الثورة موقدة داخل نفوس الأحرار منهم، الذين يرفضون العبودية والاستبداد ولا يستسلمون للأمر الواقع، واتضح ذلك جلياً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو ما يسمى الإعلام البديل، في تعاطفهم ومناصرتهم للمقاومة الفلسطينية ضد
الاحتلال الصهيوني في كل عدوان يشنه على الفلسطينيين، وكأنهم وجدوا ضالتهم في هذا المارد الفلسطيني الحر، الذي يعوضهم عما هم فيه من ذل وهوان. وآخر ذلك انتفاضة الأقصي ومعركة سيف القدس في رمضان الفائت، التي أظهرت قوة ومقدرة المقاومة على مواجهة العدو وأرست قواعد جديدة في معادلة الردع، فأحيت روح الأمل في نفوس الشعوب العربية، ولولا القبضة الأمنية الحديدية التي تعوق حركة الشعوب، لخرجت إلى الشوارع كالسيل الجارف في مظاهرات عارمة، لا تعرف أولها من آخرها.
فلسطين هي البوصلة، فعلى مدار أكثر من سبعين عاماً هي التي توحد الجماهير العربية، ليس فقط لأن المسجد الأقصى مسرى رسولنا الكريم على أرضها، ولكن لأنها البلد الوحيد في العالم في عصرنا هذا الذي لا يزال ينزح تحت براثن المستعمر الغاصب، في احتلال صريح ومباشر للأرض، وليس من خلال وكيل كما في سائر الدول العربية الأخرى، وإن كانوا قد حاولوا فعل ذلك أيضا في الأراضي الفلسطينية من خلال سلطة أوسلو الوهمية بعد الانتفاضة الفلسطينية الكبري، انتفاضة الحجارة عام 1987، ولكنهم فشلوا في ترويض هذا الشعب الجبار وكسر إرادته وإخضاعه لسلطة التنسيق الأمني (المقدسة)، كما يطلق عليها رئيسها المنبطح "محمود عباس".
وانحازت أغلبية الشعب الفلسطيني إلى المقاومة، وكان هناك شبه استفتاء علني بين الفلسطينيين جميعاً في الداخل والخارج، على خيار المقاومة في معركة "سيف القدس"، حيث خرج الفلسطينيون في الأراضي الفلسطينية المحتلة يناصرون إخوانهم في القدس وغزة ضد العدوان الصهيوني، في صورة بليغة تعبر عن مدى الأرتباط الوثيق بينهم.. مشهد لم تره الأراضي الفلسطينية منذ عام 1938، مشهد زلزل الأرض من تحت أقدام الاحتلال الغاشم، وبعث الرعب في نفسه خوفا على مستقبل كيانه الغاصب في ظل توحد الفلسطينيين.. مشهد لم تحسن استغلاله منظمة التحرير الفلسطينية لأنها ملطخة بعار أوسلو ولا تريد الاغتسال والتطهر من دنسه، وتعود لسيرتها الأولى واستراتيجيتها كحركة تحرر وطني وكفاح مسلح ضد الاحتلال، وتنزع من بين جنبيها ما انبثق عنها من سلطة التنسيق الأمني مع العدو الصهيوني..
لقد اختار الشعب الفلسطيني طريق المقاومة لتحرير أرضه وأسقط كل معاهدات السلام الزائفة، ومن هذا ما فعله الأسرى الستة في
سجن جلبوع الصهيوني، الذين صمموا على انتزاع حريتهم بأيديهم، بل بأظافرهم. وهم لا يملكون شيئا من أدوات القوة المادية المعروفة، ولكنهم يملكون الإرادة الفولاذية والفكر الحر المبدع، وهما ما لم يستطع العدو الصهيوني انتزاعهما منه بقوة السلاح الجبارة التي يمتلكها..
استطاع هؤلاء الأسرى الستة من حفر نفق بملعقة، من داخل محبسهم شديد الحراسة دون أن تتمكن إجراءات الأمن المشددة من اكتشاف أمرهم طيلة هذا الزمن الطويل الذي استغرقه الحفر، ثم خرجوا بسلام دون أن ترصدهم كاميرات المراقبة المتطورة.
ولا يهمنا بعد ذلك القبض على أربعة منهم بفعل الجواسيس والبصاصين، وإن كنا بالطبع نتمنى ألا يحدث، ولكن ذلك لا يقلل شيئا من قيمة الإنجاز المعنوي الذي حققه هؤلاء الأسرى الستة، بقوة الإرادة. أما ما يهمني فهو المغزى والرسالة التي أوصلوها للعالم أجمع، فقد فضحوا المنظومة الأمنية للكيان الصهيوني التي لطالما تغنى بها وبنى أسطورته الخرافية عليها، بالضبط كالقبة الحديدية التي أسقطتها صواريخ المقاومة.
لا جدال في أن نفق سجن جلبوع يُعد ضربة معنوعية موجعة، أسقطت صورة الهيبة التي يعمل الكيان الصهيوني دوماً على تعزيزها منذ نشأته، فسيدخلها مع كل إمكاناتها العسكرية والأمنية والتكنولوجية في نفق أعمق وأطول من نفق جلبوع الذي قد يكلفه الخروج منه وقتا طويلاً وثمناً باهظاً..
أما المغزى الذي حمله هذا العمل البطولي، فهو أنه لا شيء مستحيلا، وأن الإرادة والذكاء والمهارة وقبل ذلك وبعده الإيمان بالله، قادرة على تحطيم المستحيل، بل تجعله طوع يديك، وبذلك عززت إيمان الفلسطيني وثقته بنفسه، وأن عدوه ليس بهذه القوة والهالة التي يرسمها لنفسه وأنه من الممكن هزيمته، فمهما امتلك من أسلحة متطورة وتكنولوجيا متقدمة فلن يستطيع أن يهزم قوا الحق، فلا احتلال يدوم للأبد..
لقد التف الشعب الفلسطيني في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة حول هؤلاء الطلقاء الستة، الذين اختاروا الشموخ بدلاً من الرضوخ والاستسلام للأمر الواقع المذل، واعتبر الشعب ما قاموا به عملاً وطنياً بطولياً يفتخر به، كما أكدت حركة حماس أنه لا صفقة تبادل أسرى دون إدراج أسماء أبطال عملية سجن "جلبوع"، الذين صنعوا مجداً لفلسطين وشعبها ومقاومته..
لقد كتبت أسماء الأسرى الستة بحروف من نور، إنهم لم يحفروا نفقاً، بل فتحوا أنفاقاً في جدار اليأس والإحباط الذي يعيش فيه المواطن العربي، ليخرجوه من سجنه الأبدي ليرى نور الحرية قريبا بإذن الله.. إنهم الأحرار ونحن الأسرى في أوطاننا..
twitter.com/amiraaboelfetou