رحيل "زوربا اليوناني" ميكيس ثيودوراكيس.. عاش من أجل العدالة

رحل عن عالمنا أمس عن عمر يناهز 96 سنة موسيقار وسياسي مبدع هو ميكيس ثيودوراكيس. هذا الصوت المتوسطي الذي ظل عبر سني عمره متضامنا مع قضايانا العربية أحببناه وأحببنا مواقفه. وشعرنا بأن موسيقاه تتصادق معنا وتعتادها آذاننا الشرقية.

كل من قرأ زوربا اليوناني تأثر بهذه الشخصية الجامحة المحبة للحياة في أقصى إيقاعاتها، هذه الشخصية التي ما زالت تشكل دعوة لخوض تجربة أن نعيش أعمارنا بكل تفاصيلها.

عندما قرر المخرج مايكل كاكويانيس أن يجسد تحفة كازانتزاكيس على الشاشة الفضية، اختار هذا الموسيقار العبقري الذي يشترك مع زوربا في الوطن نفسه.

الموسيقى في مقطوعة (زوريا اليوناني) تعتمد البزق أساسا ومكونا. تبدأ بضربات متباعدة ثم تتصاعد، مكونة ملامح لحن ثم تتشكل الجملة الأساسية للحن، ويتم إعادتها ثم تتسارع وتتسارع. مطلقة ملامح شخصية زوربا اليوناني كما استوعبها ثيودوراكيس. فعلت وأبهرت العالم حتى صارت لصيقة باليونان نفسه، وكأنها نشيدها الوطني.

لقد كان هذا المبدع روحا داعمة لشعبه عبر موسيقاه التي طافت العالم تعبر عن الشخصية اليونانية. عزفتها الكثير من الفرق وهي تستحضر روح زوربا وروح اليونان، أربعة دقائق فقط شرحت بلغة سهلة الروح اليونانية. وبلغة مشمسة مشعشعة تتلاعب أمواج البحر في أدق تفاصيلها.

وإذ يتكامل المبدع والسياسي في تأييده لنضالات كل المظلومين على وجه البسيطة، فلا بد أن يتقاطع هذا العبقري مع أنبل قضية عربية هي قضية فلسطين، فنجده في عام 1981 يعيد توزيع النشيد الوطني الفلسطيني في خطوة رمزية تعبر عن عمق تضامنه مع القضية الفلسطينية.  ونراه يعزف هذا النشيد في عام 1982 إثر اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في بيروت.

لقد كان على الدوام شعلة نشاط يصب إبداعه في نصرة القضايا التي يؤمن بها، ومن وراء ذلك حبه غير المحدود لبلده اليونان. فقد كان له دور كبير في توعية العالم بمحنة بلده في الحقبة الدكتاتورية ما بين 1967 و1973. فألّف ولحّن العديد من المقطوعات التي تستند إلى أشعار أهم الشعراء اليونانيين، ومن أكثرهم يانيس ريتسوس.

ويقول مجايلوه؛ إنه كان سياسيا شديد الوضوح في مواقفه من العدل الذي لا حيدة عنه، كما أن موسيقاه شديدة الوضوح في جمالها، تستند إلى محبة هائلة لا تعرف اللون الرمادي. 

ولد ثيودوراكيس سنة 1925 وتقول المصادر إنه في عام 1942. في عمر السابعة عشر حضر مع والده فيلما ألمانيا، يتضمن نشيد الفرح لبيتهوفن من السيمفونية التاسعة، وهنا أدرك أنه يريد أن يكمل حياته مؤلفا موسيقيا، فدرس في المعهد الوطني بأثينا، واختار الموسيقى الشعبية مجالا يطلق فيه أحاسيسه المرهفة.

كان ميكيس ناشطا سياسيا في الحزب الشيوعي اليوناني، وقد اعتقل في آذار/مارس من العام نفسه على أيدي القوات الإيطالية المحتلة آنذاك (1942)، وتم تعذيبه بقسوة لإرغامه على الاعتراف عن انتمائه ونشاطه وعن رفاقه، لكنه لم يعترف بأي شيء، وتم إطلاق سراحه فيما بعد، وقد ذكر في أكثر من مقابلة أن التعذيب على يد الإيطاليين أثر فيه بشدة، وجعله أكثر إصرارا في تحقيق أهدافه.

ربما يكون إعجابه ببتهوفن الألماني آنذاك رغم أن بلده محتل من حليف ألمانيا في ذلك الوقت، جعل مشروع حياته تلخيصا لسؤال: كيف يمكن أن تنسجم السياسة مع الفن؟
 
نجده يتوج نضاله السياسي كعضو في البرلمان في التسعينيات، ثم كوزير دولة بعد ذاك يساهم بأعماله الموسيقية بالتقريب بين الشعوب ولا سيما بين المتنازعين، فيعمل عملا يقرب فيه بين بلده وبين تركيا في مشروع الصداقة اليونانية التركية، ويقدم حفلات كثيرة ضد الطاقة الذرية لصالح منظمة العفو الدولية، ثم حفلات موسيقية ضد الحرب في العراق وفي أفغانستان، وقد ألف في عام 2002 سيمفونية بعنوان السلام يدين فيها كل أنواع الظلم.

لقد حاول بلا كلل أن يعيش فنه يبثه في السياسة وفي أفكاره وفي مبادئه. 

كتب ميكيس ثيودوراكيس في معظم أنواع الموسيقى، من الأوبرا، والموسيقى السمفونية، وموسيقى الحجرة، والحوارات، والباليه، وجوقة الكنيسة، إلى موسيقى الدراما القديمة والمسرح والسينما والأغاني الشعبية الفنية وأعمال ما بعد السمفونية. ويمكن تمييز أعماله في ثلاث فترات رئيسية: في الفترة الأولى (1942-1960) قام بتأليف الأعمال السمفونية وموسيقى الحجرة، وفقا لأشكال أوروبا الغربية والتقنيات الحديثة، وفي الفترة الثانية (1960-1980) حاول الجمع بين السيمفونية أوركسترا بآلات فولكلورية ويبتكر أشكالا جديدة تعتمد على الصوت، بينما منذ عام 1981 عاد إلى الأشكال السمفونية، وظل حتى نهاية حياته يتعامل مع الأوبرا.

نودع صوتا عالميا أفنى عمره في البحث عن الجمال وتقديمه لنا بنكهة بلده التي أحببناها، فكانت روحه جسرا عابرا للشعوب ومقربا بينها.