هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يقدم الدكتور محمد عابد الجابري من خلال مشروع "نقد العقل العربي" زاوية معرفية لتأسيس النهضة وتحقيق المشروع التحديثي العربي، تنطلق من فرضية التماس المشكلة في العقل العربي، أو في القواعد التي يتوسلها هذا العقل لإنتاج المعرفة. وقد قاده هذا المشروع، الذي اختار فيه أدوات منهجية إجرائية تبنت المقاربة التكوينية والبنيوية، إلى فرز ثلاثة نظم معرفية، ينتج العقل العربي المعرفة من خلالها: نظام بياني، ونظام عرفاني، ونظام برهاني.
فالأول، يعتمد النص الشرعي، متنا لإنتاج المعرفة منه، ويتوسل اللغة وما يتضمنه مبحث الدلالات لاستنباط الحكم الشرعي من النص لا من الواقع، مع استحضار الآثار الحسية التي تركها الأعرابي في الثقافة العربية، بفعل مرجعيته في رسم التأسيس للمعجم اللغوي العربي، كما يتوسل آلية القياس، لإلحاق الفروع بالأصول في حال عدم تغطية النصوص للوقائع المستجدة. ويختصر الجابري أزمة العقل الذي ينتظمه النظام البياني، في ارتهانه للأعرابي، باعتباره المرجع الذي يلجأ إليه في الدلالات (مرجعية الأعرابي في صناعة الثقافة العربية) ، وأيضا في محدودية آلية القياس التي تعتمد إلحاق فرع بأصل، ليخلص في تقييمه لهذا النظام المعرفي بكونه، يميل إلى المعيارية، وإنتاج أحكام القيمة على الوقائع، أكثر من فهمه في ذاته، وربط الأسباب بعضها ببعض بأسبابها، وفهم النتائج التي تفضي إليها.
والثاني، هو النظام العرفاني، الذي يشترك، سواء في شكله الصوفي أو الشيعي العرفاني، في استلهام التراث القديم، ممثلا في المرجعية الهرمسية، مع تسجيل الاختلاف بين المكون الصوفي والمكون الشيعي الإسماعيلي، على مستوى الوظيفة الإيديولوجية والسياسية. فيعتبر الجابري أن أزمة هذا النظام تتلخص في استقالة العقل .
والثالث، هو النظام البرهاني، الذي يحاول تنصيب العقل في الثقافة العربية الإسلامية، وذلك باعتماد مختلف الاستراتيجيات التي اعتمدت لتحقيق هذا الهدف، من طرف العديد من الفلاسفة أصحاب المشاريع الفلسفية البرهانية. وتتمثل أزمته ـ حسب الجابري ـ في أزمة توطينه وإعادة تأسيسه، وعدم اكتمال الانطلاقات التي دشنته، وتضارب الاستراتيجيات المعتمدة لتنصيب العقل في الثقافة العربية .
وتتلخص أزمة الأسس في تصور الجابري في جانبين اثنين: الأول، هو أزمة ترسيم العلاقة بين هذه الأنظمة المعرفية التي تحكم اشتغال العقل العربي، لاسيما منها النظام البياني بالنظام البرهاني، والنظام العرفاني بالنظام البرهاني، والنظام البياني بالنظام العرفاني. والثاني، في تضارب الاستراتيجيات التي اعتمدت لتنصيب العقل في الثقافة العربية، وعدم اكتمال الانطلاقات التي استهدفت توطين العقل والمنطق البرهاني داخل الثقافة العربية.
أهم شيء يتميز به الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله، أنه بتبنيه لفكرة الانتظام في التراث العربي الإسلامي، والبحث عن انطلاقة نهضوية من أرضيته، ونقده لمنطق القطيعة مع مخرجات العقل العربي، ومحاولته بناء جوابه النهضوي اعتمادا على تراث ابن رشد، وبشكل خاص، منطقه البرهاني، سمح لكتاباته أن تخترق كل التيارات، بما في ذلك التيارات الإسلامية، التي اعترف الجابري أكثر من مرة أن أنصاره هم الأكثر قراءة لكتبه.
يختلف الجابري عن العروي في قضية مركزية، كونه لا يرى المشكلة في النظام البياني (ما يعتبره العروي ثقافة للأم أو التعبير الإيديولوجي عن التقليد)، بل يرى أن هذا النظام المعرفي، يتمتع بعقلانيته الخاصة، وأنه بالإمكان ترسيم علاقة متوازنة بين النظام البياني والنظام البرهاني، وذلك على الطريقة الرشدية، تلك الطريقة التي يعتبرها الجابري مشروعا لم يكتمل، أو انطلاقة لم يكتب لها الاستمرار والتحقق.
صحيح أن الدكتور محمد عابد الجابري انتقد محدودية النظام البياني، وبشكل خاص القواعد البيانية التي أسس لها الإمام لشافعي في كتابه "الرسالة"، لكنه لم يعلن القطيعة مع مخرجات هذا النظام، وأعلامه ومشاريعهم الأصولية والمعرفية، بل حاول أن يستعرض التجديدات الأصولية التي حدثت في السياق التراكمي لهذا النظام البياني، فقرأ تجربة ابن تيمية الجريئة، ولو بقدر غير كاف من الحيز البحثي، واعتبر في دراسته لمشروع الشاطبي، أن نظريته في المقاصد، بقدر ما تكشف وعي الشاطبي بمحدودية الرهان على اللغة والقياس لإنتاج المعرفة، بقدر ما تمثل انطلاقة نهضوية مهمة تعلي من شأن المصلحة ولو كان داخل السقف البياني، إذ تركت إنتاجات الشاطبي آثارا كبيرة في فكر محمد عابد الجابري، وجعلته في كثير من الأحيان، يقترب لساحة الجدل مع الفكر الإسلامي المعاصر ويبني جسورا للحوار مع رموزه.
على أن أهم شيء يتميز به الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله، أنه بتبنيه لفكرة الانتظام في التراث العربي الإسلامي، والبحث عن انطلاقة نهضوية من أرضيته، ونقده لمنطق القطيعة مع مخرجات العقل العربي، ومحاولته بناء جوابه النهضوي اعتمادا على تراث ابن رشد، وبشكل خاص، منطقه البرهاني، سمح لكتاباته أن تخترق كل التيارات، بما في ذلك التيارات الإسلامية، التي اعترف الجابري أكثر من مرة أن أنصاره هم الأكثر قراءة لكتبه.
البداية أو الانطلاقة الرشدية التي جعلها العنوان الأكبر لمشروعه التحديثي، اعتبرها الجابري جوابا مخلصا من الورطة المعاصرة التي وقعت فيها بعض تيارات الفكر العربي والسياسي، إذ ساد منطق الحق المطلق الذي يمتلكه هذا التيار دون الآخر، ومصادرة حق الآخر في الاختلاف معه، وحل الإقصاء محل الوفاق، فأتاح الجواب الذي وفره ابن رشد ـ حسب قراءة الجابري ـ إمكانية الاختلاف في قواعد التفكير مع الوحدة في الأهداف والغايات، فاتجه إلى إنتاج صيغته العملية الممكنة لهوم بنيات التقليد، أي الكتلة التاريخية، تلك الصيغة التي تنزع فتيل الصراع بين المكونات التي تنطلق من أرضية النص الديني (النظام البياني) والمكونات التي تنطلق من استقلال العقل عن النصوص في التفكير وتسييد المصلحة (النظام البرهاني)، وتوفر شروط هزم التقليد في أعتى تمظهراته السلطوية. وهكذا، يتجنب الجابري حشر التيارات التي تنطلق من فهم واجتهاد ما للمرجعية الإسلامية ضمن البنيات التقليدية، ويفتح الإمكانية للحديث عن تحديث منطلق من هذه الأرضية ومتعايش مع تحديث آخر ينطلق من رؤية برهانية، ويعتبر أن عدو التحديث الأول والمركزي هو التقليد في تمظهره السلطوي.
محمد سبيلا.. السلطة اكتسبت مناعة ضد مشروع التحديث
اهتم الدكتور محمد سبيلا أكثر من غيره بالحداثة ومشروع التحديث، وقدم قراءات جد محينة عن فلسفة الحداثة، كان آخرها، ألا وجود لنموذج حداثي جاهز، يمكن البناء عليه، وأن ما يسمى بالحداثة "الظافرة" لم يكن إلا مرحلة من مراحلها، وأن دينامية الحداثة، أنها تنتج موجات منها ترتد على نماذجها التأسيسية، وتبني النموذج الجديد، دون أن يعني ذلك الخروج من براديغم التحديث، حتى إنه ذهب للقول بأن ما بعد الحداثة، هي نفسها جزء من الحداثة ومن التأسيس لمشروع التحديث، لكن بتأويلات مختلفة، وبنظرة جديدة.
فالحداثة ـ عند محمد سبيلا ـ هي سيرورة دينامية، تخضع نفسها لقانونها في التطور والتحول والمساءلة والتجاوز. ولذلك، فما بعد الحداثة في حقيقة الأمر ليس خروجا عن الحداثة، بل هي درجة أخرى من درجات الحداثة، بل إنه يذهب أبعد من ذلك، ويرى أن دينامية الحداثة، تذهب إلى حد نقد براديغهما المرجعي (حرية الفرد) والانعطاف لنوع من الحقوق الجماعية كما في تعبيراتها المتأخرة.
يتبنى سبيلا مفهوم المستويات الثلاث للحداثة والتحديث، السياسية والثقافية والتقنية الصناعية، ويرى أن إخفاق مشروع التحديث العربي، يرجع إلى صدمة استيعاب هذه المستويات، إذ لا يكاد العالم العربي يستوعب مستوى من مستويات هذه الحداثة (السياسية مثلا) حتى تهجم عليه المستويات التالية (الثقافية والتقنية والصناعية)، وهو ما لا يترك الفرصة لعملية استيعاب كامل للأشكال التي يمكن بها بناء مشروع تحديثي عربي، بل لا يكاد العالم العربي يستوعب موجة من موجات الحداثة، حتى يفاجئه التطور الذي يتخلق من داخلها، أي الحداثة الجديدة التي تقوم على أنقاض سابقتها.
ويعتبر سبيلا في تحليله لأزمة المشروع التحديثي العربي، أن المشكلة تكمن أيضا في ممانعة المشروع التقليدي، فهذا المشروع في نظره، هو الآخر، يحتفظ بأبعاده المختلفة، ويصنع المعنى المؤطر للحياة (الثقافة)، والمنظم للوجود الاجتماعي (الدولة)، وأنه من الصعب اقتلاعه، لاسيما وأنه يتكيف مع معطيات التحديث، وينتج تحايلاته في المقاومة بمختلف مستوياتها، ويستثمر التعثرات التي يعرفها المشروع التحديثي نفسه، ويخلق شروط بقائه وهيمنته.
إقرأ أيضا: فهمي جدعان وعبد الله العروي.. رؤيتان في فهم التراث والحداثة