وكأن الأمة العربية لم تكتف بكل ما تحمله من هموم ومشاكل
عربية عربية، بل في حاجة إلى المزيد من
الأزمات العربية وتوترات جديدة بين بلدانها
العربية بعضها البعض، فتنقب عنها أينما كانت لتزيدها سعاراً.. أمة لا تزال تعيش في
جلباب داحس والغبراء، رغم ادعاء المدنية والحداثة ومحاكاتها للغرب وتقليده في
الملبس وفي المأكل وفي المسكن!
كنا على موعد جديد الأسبوع المنصرم مع أزمة جديدة قديمة
في
المغرب العربي، حيث قرار الحكومة
الجزائرية بقطع
العلاقات مع دولة المغرب،
معللة ذلك بالأفعال العدوانية التي يمارسها المغرب داخل الأراضي الجزائرية والتي
دفعتها لاتخاذ هذا القرار. ومن ضمن هذه الأفعال اتهام المغرب بإشعال الحرائق
الأخيرة في بعض الولايات الجزائرية، واتهامه بالتجسس على مسؤولين جزائريين
باستعمال برنامج بيغاسوس، والزعم بوجود مخطط شيطاني مغربي صهيوني لزعزعة استقرار
الجزائر من خلال دعم حركتين انفصاليتين، بل إنها عادت بالتاريخ إلى الوراء لتستخلص
منه العداوات القديمة بين البلدين، وما نجم عنها لتدعم قرارها المعيب هذا!
في حقيقة الأمر، إن الأزمة بين الدولتين الجزائر والمغرب
لم تكن وليدة اليوم، بل ترجع لعقود طويلة خلت. وهذه ليست أول مرة يحدث فيها قطع للعلاقات
بين البلدين، فقد سبق في عام 1976 أن قُطعت العلاقات بينهما لكن في تلك المرة كان
المغرب هو صاحبة قرار المقاطعة..
الأزمة بين الدولتين الجزائر والمغرب لم تكن وليدة اليوم، بل ترجع لعقود طويلة خلت. وهذه ليست أول مرة يحدث فيها قطع للعلاقات بين البلدين
فمنذ استقلال الجزائر عام 1962، بدأ النزاع الحدودي بين
البلدين، واندلعت أولى المعارك العسكرية بين البلدين المفترض أنهما بلدان شقيقان،
وعرفت العملية بـ"حرب الرمال"، وكان الجيش الجزائري في ذلك الوقت مدعوماً
من مصر، حيث كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يدعم الثورة الجزائرية بالمال
والسلاح، ويعتبر نفسه الأب الروحي لكل الثورات العربية، ويعادي كل الأنظمة الملكية
العربية وينعتها بالرجعية وموالتها للإمبريالية العالمية..
واستمر العداء أو لنقل التوتر بين البلدين الجارين إلى
أن وقعا اتفاقية لتطبيع العلاقات بينهما عام 1988، بوساطة سعودية، ولكن هذه الاتفاقية
لم تمحُ ما في النفوس، لدرجة أن القنصل المغربي في مدينة وهران (غرب الجزائر) وصف
الجزائر بـ"البلد العدو"!!
كما أن سفير المغرب لدى الأمم المتحدة عمر هلال، دعا
وبدون أي مناسبة، خلال اجتماع لدول عدم الانحياز في منتصف شهر تموز/ يوليو الماضي،
إلى استقلال "شعب القبائل" في الجزائر، ما جعل الجزائر تستدعي سفيرها
للتشاور، وهي لغة دبلوماسية تلجأ إليها الدول حينما تحدث أزمات لتجميد العلاقات
بينها إلى أن تُحل هذه الأزمات ويعود السفير مرة أخرى، أو لا يعود إذا تأزم الموقف
ولم تحل الأزمة، فيكون تمهيدا لقطع العلاقات كما في الحالة الجزائرية..
ما من شك أن السفير المغربي لدى الأمم المتحدة لم يدعُ
إلى استقلال "شعب القبائل" عبثاً، بل كان ذلك تصفية حسابات مع الجزائر،
رداً على دعمها لجبهة "البوليساريو" واعترافها بالجمهورية العربية
الصحراوية، والتي تعتبرها المغرب جزءاً من الأراضي المغربية. فسياسة "كيد
النسا" يتميز بها العرب دون غيرهم من الأعراق الأخرى!
السفير المغربي لدى الأمم المتحدة لم يدعُ إلى استقلال "شعب القبائل" عبثاً، بل كان ذلك تصفية حسابات مع الجزائر، رداً على دعمها لجبهة "البوليساريو" واعترافها بالجمهورية العربية الصحراوية، والتي تعتبرها المغرب جزءاً من الأراضي المغربية
لا شك أن أزمة
الصحراء الغربية واحدة من أطول الصراعات السياسية والإنسانية في العالم. لقد كانت
مستعمرة إسبانية في الفترة الممتددة ما بين عامي 1884 و1976، وبعد خروج الاستعمار
الإسباني منها تنازع عليها المغرب وجبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر، لما
تملكه المنطقة من موارد طبيعية ضخمة.
فالمغرب يريد أن تتسع رقعته الجغرافية بتلك الصحراء
الغنية بالفوسفات، وبالتالى يزداد نفوذه وتؤول إليه قيادة المغرب العربي، في المقابل
الجزائر تريد أن تُحجّم النفوذ المغربي، وترى نفسها هي المؤهلة لقيادة المغرب
العربي، ولهذا شجعت جبهة البوليساريو على الإعلان عن الجمهورية العربية الصحراوية،
وحرّضت دولاً كثيرة على الاعتراف بها، ودعمتها بقوة في منظمة الوحدة الأفريقية،
فتم قبول البوليساريو كعضو فيها، مما استدعى رد فعل عنيف من المغرب وأعلن انسحابه من
المنظمة..
ولذلك فإن قضية الصحراء من أكثر القضايا المعقدة
والشائكة لدي البلدين الجارين..
في أواخر عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفي غمرة
الحماس لترويج اتفاقيات أبراهام في المنطقة وهرولة التطبيع مع الكيان الصهيوني،
دخلت قضية الصحراء الغربية في سوق المساومات، إذ اعترف ترامب بسيادة المغرب على الصحراء
الغربية وأنها جزء من الأراضي المغربية، مقابل اعتراف المغرب بالكيان الصهيوني
والتطبيع معه، فوجد المغرب أن الطريق العالمي لاعتراف العالم بسيادة المغرب على
الصحراء الغربية معمّد من الكيان الصهيوني، والتاريخ طويل في العلاقات الحميمية
بين المغرب والكيان ولكن من وراء ستار، فلن يضر شيئا إذا أزيح عنه الستار وظهر في
العلن!
وجد المغرب أن الطريق العالمي لاعتراف العالم بسيادة المغرب على الصحراء الغربية معمّد من الكيان الصهيوني، والتاريخ طويل في العلاقات الحميمية بين المغرب والكيان ولكن من وراء ستار
لقد فتح باب التطبيع في المغرب منذ عهد الملك الحسن،
ولكنه كان باباً سرياً بينه وبين الصهاينة. فلقد شهد عهده علاقات وثيقة مع الاحتلال
امتدت لأكثر من ستين عاما من التعاون الأمني بينهما رغم إنكار الجانبين. وعلى سبيل
المثال، قضية المعارض المغربي "المهدي بن بركة"، الذي طلب من عملاء
صهاينة المساعدة في الخلاص من الملك الحسن، فأبلغ الموساد الملك الحسن بذلك،
وساعده على تحديد مكانه في باريس، وقام حلفاء فرنسيون للمغرب باختطافه وتعذيبه حتى
الموت، حيث تخلص الموساد من الجثة التي لم يعثر عليها، فكافأهم بالسماح لليهود
المغاربة بالهجرة الجماعية، كما سمح للموساد بإنشاء محطة له في المغرب. وفي مقابل
ذلك قدم الاحتلال أسلحة للمغرب ودرب الجيش على استخدامها، كما زوده بتكنولوجيا
مراقبة وساعد على تنظيم المخابرات المغربية، وتم تبادل المعلومات الأمنية بين
الجانبين..
وقد طلب المغرب من الصهاينة مساعدته في إقناع الولايات
المتحدة بالاعتراف بسيادة بلاده على الصحراء الغربية، ولقد عمل على ذلك زعيم
الجالية اليهودية في المغرب،"سيرغي بارغودو" كوسيط بين الملك واجتمع
بقادة يهود أمريكيين ومسؤولين صهاينة!
مَن يراقب الأحداث الأخيرة بين البلدين الجارتين وصعود وتيرة التصريحات النارية من المسؤلين فيهما، يجد أن قرار الجزائر لم يكن مفاجئاً بل كان متوقعاً، وخاصة في ظل مشكلات داخلية جسيمة يواجهها النظام وعجزه عن حلها، وغضب الشعب الجزائري الذي يعاني الأمرّين
مَن يراقب الأحداث الأخيرة بين البلدين الجارتين وصعود
وتيرة التصريحات النارية من المسؤلين فيهما، يجد أن قرار الجزائر لم يكن مفاجئاً بل
كان متوقعاً، وخاصة في ظل مشكلات داخلية جسيمة يواجهها النظام وعجزه عن حلها، وغضب
الشعب الجزائري الذي يعاني الأمرّين، فتفتق ذهن قادة النظام عن افتعال تلك الأزمة
لإلهاء الشعب واتباع سياسة الهروب إلى الأمام..
كما أن المغرب ليس بريئا، فمن على أرضه أعلن وزير خارجية
الكيان الصهيوني بائير لابيد، أثناء زيارته للمغرب الشهر الماضي، عن قلق الكيان من
دور الجزائر في المنطقة وتقاربها الكبير مع إيران..
إن الجزائر والمغرب يلخصان حال أمة كانت خير أمة أخرجت
للناس، واليوم أصبحا يسعيان للنزاعات والصراعات فيما بينها ويستقويان بأعدائهما في
مواجهة بعضها البعض.. أمة لا تريد ان تخلع جلباب داحس والغبراء!!