هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: التصوّف الإسلامي واتّجاهاته الكبرى
الكاتب: د. محمّد الرّزقي
الناشر: دار ياسين للنشر والتوزيع
الطّبعة الأولى: 2014
عدد الصفحات: 245
على أهميّة الدراسات والمؤلّفات الكثيرة التي عنيت بمبحث التصوّف في تونس فإنّ مؤاخذات عدّة، وفق كثيرين، تتعلّق أساسا بغياب تأصيل شرعي للظاهرة الصوفية أو تقسيم من الدّاخل، بل و"خلط بيّن بين طرق السير وبين التصوف الطرقي".
ففيما اعتبرت الجامعيّة لطيفة لخضر في كتابها "الإسلام الطرقي: دراسة موقعه من المجتمع ومن القضية الوطنيّة" أنّ التصوّف لا يعدو أن يكون سوى "تعبير عن فترة تاريخية اضمحلّ فيها النقاش الفكري على مستوى كامل العالم الإسلامي عكس ما كان يعيشه من ازدهار زمن الدولة العباّسية"، فإنّ دراسات كلّ من محمد الكحلاوي، صاحب "مقاربات وبحوث في التصوف المقارن" و"الفكر الصوفي في إفريقية والغرب الإسلامي (القرن التاسع هجري/ الرابع عشر ميلادي)، والتليلي العجيلي مؤلّف "الطرق الصوفيّة والاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية"، وعلى أهميتها فإنّها إمّا ارتبطت بإسقاطات إيديولوجيّة أو أنّها اقتصرت على المنهج التاريخي في دراسة الظاهرة الصوفية بشكل عام.
وأمام تأكيد مختصّين في علم التصوّف على أنّ هذا الأخير ليس ترفا فكريا بقدر ما هو عروة من عرى الدين، بإجماع المدونة الفقهية المالكية، وأنّ ما تطرحه الفلسفة الصوفية الأولى من مجاهدة النّفس الأمّارة وفطامها عن رغباتها، إلى الحدّ الذي وصفها به ابن خلدون في "المقدّمة" بأنها "علم أصله العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله عن زخرف الدنيا وزينتها"، ونظرا لارتباط التصوف في تونس بظاهرة التوظيف السياسي سواء قبل ثورة 17 كانون الأول (ديسمبر) ـ 14 كانون الثاني (يناير) 2011 أو بعدها، فإنّه بات من اللزوم ردّ الأمر إلى أصوله تصحيحا للبدايات وفهما أعمق لأنساق علم التصوّف واتجاهاته كي يسهل فهم طبيعة أدواره الروحية والاجتماعية في ظلّ الحركيّة الاجتماعية والسياسية النشيطة التي تعرفها تونس والمنطقة العربية برمّتها.
في هذا الإطار يتنزّل كتاب "التصوّف الإسلامي واتّجاهاته الكبرى" للدكتور محمّد الرّزقي، أستاذ التصوّف والفرق بجامعة الزيتونة ومدير دراسات سابق بالمعهد العالي لأصول الدّين وصاحب الإصدارات السابقة: "تصوّف الحارث المحاسبي (2004)" و"حقيقة الموت عند الصّوفيّة" (2007 و2013) و"ظهور الرّوح (2007، 2011 و2012)"، الذي حاول خلاله جمع شتات مسائل التصوّف في مؤلّف واحد من قبيل المسألة التاريخيّة للتصوّف سواء من جهة النّشأة أو التطوّر. كما توسّع الكاتب في مسائل جوهريّة مثل المناهج المعتمدة في دراسة التصوّف ومدى إلمام هذه المناهج بحقيقة التصوّف وأيضا التوسّع في إنارة القارئ بحقيقة المدارس الصّوفيّة بما في ذلك المدرسة الفلسفيّة في التصوّف التي تلاقي الكثير من الصد والرّد منذ نشأتها إلى يوم النّاس هذا.
ويوفّر كتاب 'التصوّف الإسلامي واتّجاهاته الكبرى" مادّة علميّة موثّقة ورؤية موضوعيّة تأخذ بيد كلّ قارئ يرغب في فهم أوّليات علم التصوّف والوقوف على أهمّ مدارسه بعيدا عن التعقيد والتنظير. وكذلك توضيح الفروق العميقة بين التصوف الفلسفي والتصوف السني سواء على مستوى المنهج أو الموضوعات فضلا عن طريقة الطرح والعرض وإبراز تأثر التصوف الفلسفي بالمنهج الغنوصي واستحضار هذه المؤثرات الخارجية داخل النسق الفلسفي الصوفي وهو أمر لم يحض بالدراسة العميقة سابقا.
قسّم الكاتب مؤلّفه "التصوّف الإسلامي واتّجاهاته الكبرى" إلى ثلاثة فصول وضمّ كلّ فصل ثلاثة مباحث، وحمل الفصل الأوّل عنوان "تاريخيّة التصوّف الإسلامي ومناهج دراسته" وعالج المبحث الأوّل الإطار التاريخي الذي ظهر فيه مصطلح التصوّف سواء تعلّق الأمر بالفترة الزّمنيّة التي عرفت فيها كلمة التصوّف، أو الإطار المكاني الذي تنسب إليه الكلمة، فضلا عن التعرّض للجذور اللغويّة لاسم صوفي.
أمّا المبحث الثاني فتناول الأصول الشرعيّة للتصوّف وحاول أيضا الوقوف على أطواره الكبرى، ليهتمّ المبحث الأخير من هذا الفصل بمناهج دراسة التصوف.
الحقيقة أنّ من وضّح مفهوم التصوف السني وجلى معناه للخاصة والعامّة هم المصنّفون على أنهم خصوم التصوف من أمثال ابن تيمية وابو الفرح بن الجوزي وابن القيم الجوزية. وقد عادى هؤلاء الأعلام صنفا مخصوصا من الصوفية وخاصة التصوف الفلسفس و"صوفيّة الأرزاق".
واختصّ الفصل الثاني بالتصوّف السنّي وحاول التعريف بأهمّ أعلامه وقد تناول المبحث الأول من هذا الفصل مفهوم التصوف السني، ليفصّل المبحث الثاني أسس التصوف السني ويجلي أهمّ مميّزاته، أمّا المبحث الثالث والأخير فاهتمّ بأبرز أعلام التصوّف السنّي.
وعالج الفصل الثالث جملة المسائل المتعلّقة بالاتجاه الفلسفي في التصوف من خلال التركيز على المفهوم والموضوعات، والتي يوضّحها المبحث الأوّل من هذا الفصل، ليهتمّ المبحث الثاني بالمدارس الكبرى للتصوّف الفلسفي، وختم الكاتب هذا الفصل بمبحث تعرّض من خلاله إلى شخصيّة أثارت جدلا في الماضي والحاضر وهي شخصيّة محي الديّن ابن العربي (توفّي سنة 1240 م /638 ه) والذي ارتبط اسمه بمسألة وحدة الوجود، لذلك حاول الكاتب من خلال هذا المبحث الأخير التعريف بابن عربي أوّلا وتوضيح مفهوم وحدة الوجود عند الرّجل.
أصل التّسمية
يشير المؤلّف د. محمّد الرّزقي إلى أنّ البحث في أصول التسمية يقود ضرورة إلى آراء متشعّبة، لكن جلّ هذه الآراء لا تصمد أمام النّقد التاريخي والترجيح اللغوي ، إذ يتميّز الكثير منها بالضعف الواضح والتّأويل البعيد كمن نسب التصوّف إلى كلمة "سوفيا" اليونانيّة والتي تعني الحِكمة.
ولعلّ الرّأي الذي أجمع عليه عدد هام من الباحثين هو نسبة هذا الاسم إلى الصّوف "لأنّه يقال تصوّف إذا لبس الصّوف كما يقال تقمّص إذا لبس القميص"، كما ذهب إلى ذلك محمد بن عمر السهروردي في "عوارف المعارف". فالصّوفيّة منسوبون إلى الغالب من لباسهم لأنه ظاهر حالهم، ويضرب أبو نصر الطوسي (توفي 1274 م) مثلا يقرّب المسألة من الأذهان فيقول "ألا ترى أنّ الله تعالى ذكر طائفة من خواص أصحاب عيسى عليهم السلام فنسبهم إلى ظاهر اللبسة، فقال عزّ وجلّ (وإذ قال الحواريون) وكانوا قوما يلبسون البياض فنسبهم الله تعالى إلى ذلك ولم ينسبهم إلى نوع من العلوم والأعمال والأحوال التي كانوا بها متمرّسين، لأنّ لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام والصديقين وشعار المساكين والمتنسّكين".
وهذا الرّأي يدعمه كثيرون ممن تعرّضوا لأصل الكلمة مثل صاحب كتاب "صفة التصوّف" والذي حشر الكثير من الأدلّة النقلية على أنّ لبس الصّوف كان دأب رسول الله وصحابته، ويسانده في رأيه محمد بن عمر السهروردي، في مؤلفه "عوارف المعارف"، والذي يؤكّد أنّ لبس الصوف كان شعار أهل الصفّة وبعض البدريين، ويستنجد بشهادة الحسن البصري الذي يقول فيها "أدركت سبعين بدريا كان لباسهم الصّوف".
السّند الشرعي للتصوّف
ينظر الصوفيّة إلى الدين على أنّه يتكوّن من ثلاث عرى، وهو الإسلام والإيمان والإحسان وإنّما أطلق الإسلام على هذه المسمّيات الثلاث من باب تسمية الكل باسم الجزء.
ويستند الصوفية في نظرتهم للدين على جملة من النصوص الواردة في الوحيين، ولعلّ من أهمّ أدلتهم على الإطلاق الحديث النبوي الذي رواه سيّدنا عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه، يقول فيه الرّاوي بينما هم جلوس عند رسول الله إذ دخل عليهم رجل شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منّا أحد حتّى جلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه، وقال يا محمّد أخبرني عن الإسلام: قال رسول الله: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" قال صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال فأخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه". قال صدقت. قال فأخبرني عن الإحسان: "قال أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك".
واستدل الصوفية بهذا الحديث الذي يقسم الدّين إلى ثلاث عرى يعتمد على مسألتين الأولى أسلوبية والثانية مضمونية. فسؤال جبريل عليه السلام للرسول يشمل الإسلام والايمان والإحسان، وطرح كل سؤال على حدة يعني أنّ لكل واحد من هذه الأسئلة حدّ خاص به وحقيقة يتفرّد بها.
ويرى الصوفيّة أنّهم القائمون بهذا الأصل الثالث من الدّين والمسمّى بالإحسان، فالإحسان عندهم مرادف للتصوّف، لأنّه قائم في جوهره على الحضور الدّائم مع الله، بل أنّ نسبة التصوّف عندهم من الدّين مثل "نسبة الروح من الجسد" بدونه تكون الأعمال ناقصة لأنّ روحها يتمثل في وجود سر الإخلاص فيها على حدّ عبارة ابن عطاء الله السكندري في حكمه.
مفهوم التصوّف السنّي
لئن ازداد مفهوم التصوف السني وضوحا مع ظهور التيار الفلسفي في التصوف، والذي مزج حقائق التصوّف بالفلسفة خاصّة خلال القرن السادس للهجرة والذي عرف انتشارا واسعا لآراء ابن عربي رائد التصوف النظري في التاريخ الإسلامي، فإنّ تسمية التصوف السني ظهرت في فترات متأخرة عن نشأة التصوف الإسلامي، وقد ميّز الروّاد الأوائل بين أهل السلوك والمتشبهين بالقوم. إذ نجد الحارث المحاسبي (متوفى سنة 243 هـ) يشنّ حملة عنيفة في مؤلفه "الرّعاية" على أصحاب الدعاوى والانحرافات والذين تشبّهوا بالصوفية من جهة المظهر الخارجي دون أن يتحققوا بمعاني التصوّف بغية نيل أغراضهم الدنيوية الفانية، بل وجدوا من اسم التصوف وسيلة لاصطياد الدّنيا فنجده يصف هؤلاء قائلا: "فيظهر لبس الصوف والخشوع وكثرة الذكر وطلب العلم والجلوس مع أهل الدّين...وغير ذلك من البرّ ليؤتمن ويوصى إليه".
ويمعن الغزالي (توفي 1111م /505 هـ) في مجموع رسائله في فضح أمثال هؤلاء والذين لم يتحققوا بمعاني التصوف ولم يخوضوا باب المجاهدات وإنّما يدعون "علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال والملازمة في عين الشهود والوصول إلى القرب...".
خلاصة القول هي أنّ المقصود بالتصوّف السنّي هو "التصوّف القائم على الكتاب والسنة والساعي لتحقق بمقام الإحسان أي أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك".
تيّار التصوّف السلفي
الحقيقة أنّ من وضّح مفهوم التصوف السني وجلى معناه للخاصة والعامّة هم المصنّفون على أنهم خصوم التصوف من أمثال ابن تيمية وابو الفرح بن الجوزي وابن القيم الجوزية. وقد عادى هؤلاء الأعلام صنفا مخصوصا من الصوفية وخاصة التصوف الفلسفس و"صوفيّة الأرزاق". ولا أدلّ على ذلك من أنّ ابن الجوزي على شدّة عداوته لصوفيّة عصره فإنّه يشيد في مؤلفه "تلبيس ابليس" بأعلامهم المتقدّمين قائلا "وما كان المتقدّمون في التصوّف إلاّ رؤوسا في القرآن والفقه والحديث والتفسير". أمّا ابن القيم الجوزية فيعتبر التصوّف "زاوية من زوايا السلوك الحقيقي وتزكية النفوس وتهذيبها" ممّا جعل الباحثة سهام كريدية تصنف ابن تيمية وابن القيم الجوزية ضمن تيّار التصوّف السلفي.
ويعتبر ابن تيمية من بين القلائل في القرن الثامن للهجرة الذي حاول دراسة التصوّف الإسلامي دراسة موضوعيّة، بل يعود الفضل إليه في ترسيخ مفهوم التصوف السني في أذهان غير المنتسبين لهذا المسلك، إذ يؤكّد في كتاب الرد على الشاذلي على وجود صنف مخصوص من الصّوفيّة وهم صوفيّة أهل السنة والحديث. ويقرر ابن تيمية في كتابه الحسنة والسيئة بشكل واضح وصريح معرفته بكنه التصوف السنّي، ووقوفه على كتب القوم وسيرتهم إذ يقول "فمن سلك مسلك الجُنيد من أهل التصوّف والمعرفة كان قد اهتدى ونجا وسعد". وكلّما يذكر ابن تيمية مشايخ التصوف السني يترضّى عليهم ويعتبر نفسه امتدادا لهم بل أنّه في كتابه "الاستقامة" يصف الشيخ عبد القادر الجيلاني بأنّه قطب العارفين.
أسس التصوّف السنّي ومميّزاته
يعدّ الالتزام بحدود الشريعة من أهمّ ثوابت التصوّف السنّي، ويظهر ذلك جليّا من خلال حرص أصحاب هذا المسلك على أداء الواجبات واجتناب المنهيات فضلا عن اليقظة في تحرّي الحلال. وتعتبر جملة الأحكام الشرعية في المنظومة الصّوفيّة السنيّة خطّا أحمر لا يمكن تخطّيها وإن تعلّق الأمر بالضرورات، فقد أثر عنهم تقديم العزيمة على الرّخصة فكانوا يصومون في السفر ويجتهدون في المرض ولا يطلبون من الخلق شيئا وإن تقطّعت بهم السبل. ويرى أرباب التصوف السني أن ألأوكد الواجبات على طالب طريق الآخرة أداء ما افترضه الله عليه.
ويعتبر أهل التصوف السني أنّ النفس إن لم تشغلها بالطّاعة شغلتك بالمعصية، وينظرون للفرائض على أنّها الأساس الذي تنبني عليه النوافل فلا يثمر النّفل عندهم إلاّ إذا صحّ الفرض، والأمر نفسه ينطبق على تجنّب المحرّمات وتحرّي الورع في المأكل والملبس والمعاملات. ويستند تقويم الأعمال والنوايا عند أرباب التصوّف السنّي على العلم، ومعنى العلم عند القوم هو العلم بالكتاب والسنة لأنّه يعتبر ميزانا للنفس وأفضل رادع لها.
والتصوف السني هو منهج عملي يقوم على العمل لا على النّظر، من خلال الحرص على مراعاة الحدود فيقف السالك عند المنهيات ويؤدّي الواجبات فضلا عن الاجتهاد في الطّاعات والتوسّع في أشكال القربات. ويعتبر مشايخ التصوّف السنّي أنّ الشريعة هي الرّكن المتين للحقيقة لذلك يقول عبد القادر الجيلاني في كتابه "فتوح الغيب": "كلّ حقيقة لم تشهد لها الشريعة فهي زندقة، فعلم الشريعة مفتاح لعلم الحقيقة ومن أتى الباب بلا مفتاح لا يطمع في دخوله".
أعلام التصوّف السنّي
أفرز المنهج السني في التصوّف علماء عاملين من أمثال العز بن عبد السلام (توفي 660ه /1262 م) وجلال الدّين السيوطي وابن دقيق العيد وغيرهم كثير. وقد طبع الروّاد الأوائل التصوّف بصمتهم السنية الواضحة، وساهموا في تأسيس مناهج التربية والسلوك، فأثّروا في أهل عصرهم وفي من أتى من بعدهم. وعلى رأس أعلام التصوّف السنّي الإمام الجنيد الذي يعدّ أحد أعمدة بغداد في التصوّف، حتى أنّه "إذا مرّ بشارع بغداد وقف النّاس له صفوفا كالملوك"، وفق ما يرويه زين الدّين المناوي في "طبقات الصّوفيّة". وكان الإمام الجنيد مسبوقا بأعلام أخر مثل الفضيل بن عياض ومعروف الكرخي وحمدون القصّار ، فضلا عن جملة مشايخه وأقرانه.
ولعلّ العامل الحاسم الذي جعل الإمام الجنيد يتّخذ هذا المنحى في التصوّف أنّه صحب كوكبة من خيرة مشايخ التصوّف في عصره والذين جمعوا بين العلوم الشرعية والمجاهدات من أمثال الحارث المحاسبي (توفي 243هـ) والذي يعدّ أغزر صوفيّة عصره تأليفا، إذ يبلغ عدد مؤلفاته حوالي 200 مصنّف من أشهرها كتاب "الرعاية" وكتاب "العقل".
يعتبر أهل التصوف السني أنّ النفس إن لم تشغلها بالطّاعة شغلتك بالمعصية، وينظرون للفرائض على أنّها الأساس الذي تنبني عليه النوافل فلا يثمر النّفل عندهم إلاّ إذا صحّ الفرض، والأمر نفسه ينطبق على تجنّب المحرّمات وتحرّي الورع في المأكل والملبس والمعاملات.
وبقي التصوّف السنّي ينتظر زهاء القرنين من الزّمن حتى يظفر بشخصيّة فذّة تضاهي الجنيد، وهذه الشخصية هي شخصيّة أبو حامد الغزالي الذي أظهر قدرة في الردّ على الفلاسفة وسائر المخالفين لمذهب أهل السنّة والجماعة حتّى لُقّب بحجّة الإسلام. ويعتبر منهج الغزالي منهجا متفرّدا ميّزه عن سائر السابقين واللاحقين وقد استمدّ أصوله من خلال دراسته لأساليب الفقهاء أو أطروحات الفلاسفة فضلا عن أقوال المتكلّمين وحكمة الصّوفيّة. وبعد وفاة الغزالي ظهر ظهر ضرب جديد من التصوف الجماهيري، ومن أبرز روّاده الإمام عبد القادر الجيلاني.
وتعتبر شخصيّة أبي الحسن الشاذلي هي الشخصية الفذة التي استطاعت إعادة التصوف من جديد إلى مدار الكتاب والسنة وإبعاده عن ممارسات العوام. وانتسب للمدرسة الشاذلية فقهاء وأعلام أفذاذ على غرار العز بن عبد السلام وابن عطاء الله السكندري وعبد العظيم المنذري. ويلخّص الشيخ الشاذلي حقيقة التصوّف فيقول: "ليس هذا الطريق بالرّهبانية وأكل الشعير بالصّبر والحضور مع الله".
التصوّف الفلسفي ومدارسه
يعدّ القرن السادس الهجري منطلقا لتشكّل اتجاه جديد في التصوف الإسلامي ألا وهو الاتجاه الفلسفي والذي تميّز بأسلوبه في الطّرح فضلا عن منهجيته في العرض والمعالجة. ويمكن القول إنّ التصوف الفلسفي عرف بدايته التأسيسية في شكله النسقي المتكامل مع شهاب الدّين السهروردي والمعروف بالشيخ المقتول والذي قتل بأمر من صلاح الدين الأيوبي. ويعتقد أرباب هذا المسلك أن مسلكهم هو الأكمل والأفضل لأنه جمع بين النظر والتأله. ويرى ابن خلدون أنّ موضوعات أصحاب التصوّف الفلسفي شديدة الغموض وتتضمّن من المزالق والإحراجات على غرار القول بوحدة المطلقة التي اشتهر بها صوفية الأندلس، فضلا عن الاهتمام بعلم أسرار الحروف والذي يتقاطع مع علم السيمياء.
وقد مثّلت الأندلس المنبت الخصب لهذا التيار، إذ قدّمت للعالم الإسلامي والفكر الإنساني أسماء بارزة مثل أحمد بن قسي وابن برجان وابن العريف فضلا عن ابن سبعين ومحي الدين بن عربي (توفي 638 هـ). وقد صاحب ظهور مدارس التصوف الفلسفي طائفة من الشعراء الذين ينتمون إلى هذا المسلك على غرار جلال الدين الرومي (توفي 672 هـ). ويمثل القاسم المشترك بين جميع مدارس التصوف الفلسفي، انتماء جميعها إلى ما يسمى المسلك الغنوصي والمشهور أكثر في التاريخ الإسلامي بالمذهب الباطني.