لا جدال أن إعلان الرئيس
التونسي قيس سعيّد قراراته الاستثنائية بالسيطرة على الحكومة وإقالة رئيس الوزراء وتجميد عمل البرلمان؛ التي وصفها رئيس حزب
النهضة راشد
الغنوشي في البداية بالانقلاب ثم خفف لهجته وأعرب عن استعداده لتقديم تنازلات، هي قرارات انقلابية بلا أفق وتفتقر إلى الرؤية والاستراتيجية، فهي تعمّق الأزمة وتضاعف الشكوك حول الديمقراطية التونسية.
فالقرارات الاستثنائية الرئاسية لا تتمتع بالدعم اللازم دولياً، وتفتقر إلى الدعم الكافي إقليمياً، ولا تحظى بالتوافق الواسع داخلياً، ذلك أن الأزمة التونسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية عميقة وبنيوية، وقد شاركت في صناعتها كافة القوى والتوجهات والأحزاب بدرجات متفاوته، لكن السؤال المركزي هو: أين أخفق حزب النهضة بحيث حُمّل نتائج إخفاق الثورة والدولة؟
ثمة شكوك كبيرة تحيط بطريقة الرئيس التونسي لمعالجة الأزمة العميقة في تونس، لعدم وجود خارطة طريق واضحة. فمن المؤكد أن تونس تعاني من اختلالات اجتماعية واقتصادية حادة ساهمت الأطراف السياسية في تفاقمها، وعملت جائحة كوفيد- 19 وتداعياتها الصحية والاقتصادية على كشفها وتعريتها، لكن ما حدث كشف أيضاً عن الأزمة التي يعاني منها الحزب الأكبر في تونس وهو حزب النهضة.
من المؤكد أن تونس تعاني من اختلالات اجتماعية واقتصادية حادة ساهمت الأطراف السياسية في تفاقمها، وعملت جائحة كوفيد- 19 وتداعياتها الصحية والاقتصادية على كشفها وتعريتها، لكن ما حدث كشف أيضاً عن الأزمة التي يعاني منها الحزب الأكبر في تونس وهو حزب النهضة
فالحزب الإسلامي الذي طالما اعتُبر نموذجاً لتطور الحالة الإسلامية السياسية ومؤشراً على النجاعة البراغماتية بالتحول عن منظورات الإسلام السياسي المتصلبة إلى أفق ما بعد الإسلام السياسي المرنة؛ دخل في آفات الأحزاب السياسية عموماً، والتي عالجها روبرت ميشيلز في مقاربته المبكرة اللافتة لمحاولة فهم تحوّل الحزب الديمقراطي الاشتراكي من الدفاع عن قضايا عادلة إلى حزب يدافع عن وجوده كتنظيم. وهي مقاربة تفسيرية لا تزال صالحة في فهم الأحزاب السياسية على اختلاف أيديولوجياتها، حيث يسعى التنظيم الذي تهيمن عليه أقلية إلى الحفاظ على نفسة ويصبح مشروعه ديمومة وجوده.
ففي حالة حزب النهضة أصبح الدفاع عن وجوده كتنظيم هدفاً أسمى، وقد خضع لما أطلق عليه ميشيلز "القانون الحديدي للأوليغارشية"، حيث تهيمن قلة على توجهات الحزب وقراراته. إذ تظهر نزعة هيمنة القلة لدى التنظيمات التي تبرز من خلال قضية عادلة من خلال التوجه نحو الدفاع عن ذاتها ووجودها، ويصبح التنظيم هو الهدف والقضية ذاتها، ثم ينسى القضية العادلة التي جاءت به وجاء هو من أجل خدمتها.
عندما فجرت انتفاضة تونس ما سُمي بانتفاضات "الربيع العربي"، كانت شعاراتها "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، لكن سرعان ما غابت إشكالية العدالة الاجتماعية عن الخطاب السياسي، وعن أولويات الحكم.
في حالة حزب النهضة أصبح الدفاع عن وجوده كتنظيم هدفاً أسمى، وقد خضع لما أطلق عليه ميشيلز "القانون الحديدي للأوليغارشية"، حيث تهيمن قلة على توجهات الحزب وقراراته. إذ تظهر نزعة هيمنة القلة لدى التنظيمات التي تبرز من خلال قضية عادلة من خلال التوجه نحو الدفاع عن ذاتها ووجودها، ويصبح التنظيم هو الهدف والقضية ذاتها
ورغم أن الأحزاب الإسلامية في معظم في الدول العربية واجهت خيارين سلطويين صعبين؛ يستند الأول إلى الاستئصال القمعي العنيف، ويقوم الثاني على الدمج والاستدخال المهين، فإن حزب النهضة الذي لم يواجه تلك الخيارات عاش تحت وطأة الخوف منها، وبات الحفاظ على وجوده ومكاسبه هدفاً؛ من خلال نسج تحالفات مشوهة والمشاركة في قرارات مجحفة.
فحركة النهضة التونسية، التي كانت محظورة قبل الانتفاضة، أصبحت مكوناً أساسياً في البرلمان وفي الحكومات الائتلافية المتعاقبة، لكن حضورها كان يتراجع باطراد، نتيجة سلوكها وأدائها الهزيل. فقد تراجع حضورها بشكل لافت، وانتقل تمثيلها البرلماني من 89 نائباً في العام 2011 إلى 53 (من أصل 217) في الانتخابات التشريعية في العام 2019.
قبل القرارات الاستثنائية الأخيرة للرئيس التونسي بدا واضحاً أن حزب النهضة يعاني من أزمة مزدوجة؛ تمثلت بانحسار قاعدته الشعبية التي انعكست في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتنامي الأزمة الداخلية للحزب، والتي أفضت إلى استقالة قيادات مؤسسة من الحركة رافضة بقاء راشد الغنوشي البالغ من العمر 80 عاماً على رأس الحزب منذ أربعين سنة. وعقب الأزمة التونسية الأخيرة برز الخلاف الداخلي في حزب النهضة مجدداً، وتجلى ذلك من خلال استقالات جديدة وظهور مواقف رافضة لطريقة إدارة الحزب، ولخيارات الحزب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
قبل القرارات الاستثنائية الأخيرة للرئيس التونسي بدا واضحاً أن حزب النهضة يعاني من أزمة مزدوجة؛ تمثلت بانحسار قاعدته الشعبية التي انعكست في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وتنامي الأزمة الداخلية للحزب
يتجلى بوضوح "القانون الحديدي للأوليغارشية" داخل حزب النهضة، حيث تهيمن قلة على إدارة وقرارات الحزب، ويجري التجديد لها مع كل انتخابات، وهي مسألة تنطبق على كافة الأحزاب بطرائق عدة. وقد أشارت الأزمة الأخيرة على عمق هيمنة القلة وتجذرها، حيث دعا المجلس الوطني للشباب في النهضة إلى تكوين قيادة وطنية للإنقاذ تتضمن كفاءات شبابية، وتكون بداية لمسار التجديد في القيادة التنفيذية للحركة، لإنقاذ المسار السياسي في البلاد، وذلك لتجاوز أزمة الهوية داخل حزب النهضة، التي نتجت عن هيمنة قلة عحزت عن تقديم حلول اقتصادية واجتماعية للتونسيين الذين يعانون من مشاكل البطالة في صفوف الشباب وارتفاع الأسعار وزيادة نسبة التضخم. فقيادة النهضة تطبّعت مع بنية النظام وخضعت لميكانيزمات الدولة، وباتت عاجزة عن إيجاد حلول للمسائل المتعلقة بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية.
كانت شعارات العدالة الاجتماعية إحدى بداهات الثورة التونسية، بينما انشغلت النهضة بالبراغماتية السياسية وتقاسم السلطة. ويبدو غضب فئات شعبية على النهضة مبرراً، فقد حمّلتها قطاعات شعبية واسعة مسؤولية الانهيار الاقتصادي والاجتماعي باعتبارها الحزب الأكبر من جهة، وبافتراض أن النهضة خذلت جماهيرها وتخلت عن ادعاءاتها الأخلاقية من جهة أخرى.
وقد ظهرت خيبة أمل الجماهير بالنهضة بوضوح في مناسيات انتخابية عدة، لكن معضلة النهضة أنها كانت تفتقر إلى منظورات اجتماعية اقتصادية بديلة. فقد عززت حركة النهضة من نهج السياسات الليبرالية، وبعدها النيوليبرالية التي أدت لخصخصة القطاع العام، وإثراء طبقة من رجال الأعمال المقربين من جهاز الحكم، وهو ما فاقم من عدم المساواة في الدخل وتنامي الفجوة بين الطبقات. وعززت السياسات التحديثية من التنمية غير المتكافئة بين المركز والأطراف، بالتركيز على المدن وإهمال الأرياف. فالمشكلة الأساسية للنهضة تتمثل بالتماهي مع السياسات النيوليبرالية التي أفضت إلى الارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي، والاستسلام لوصفاته الكارثية برفع الدعم عن السلع الأساسية وتخفيض الأجور وزيادة الضرائب.
أدى الخوف من عودة الاستبدادية إلى طغيان الانشغال بنجاح الديمقراطية، وهو ما أدى بدوره إلى نسج تحالفات وقتية للحفاظ على المكاسب الحزبية، وأفضى إلى غياب رؤية اقتصادية اجتماعية خارج الأطر النيوليبرالية التقليدية والهروب باتجاه قضايا جانبية
خلاصة القول أن إخفاق حزب النهضة يتمثل بهيمنة قلة تتفرد بصياغة الرؤية والأهداف واتخاذ القرارات الاستراتيجية، وضمور روح الديمقراطية الداخلية، وهي معضلة تتشاركها مع كافة الأحزاب على اختلاف أيديولوجياتها، والأهم هي هيمنة السياسي على الاجتماعي والاقتصادي.
فقد أدى الخوف من عودة الاستبدادية إلى طغيان الانشغال بنجاح الديمقراطية، وهو ما أدى بدوره إلى نسج تحالفات وقتية للحفاظ على المكاسب الحزبية، وأفضى إلى غياب رؤية اقتصادية اجتماعية خارج الأطر النيوليبرالية التقليدية والهروب باتجاه قضايا جانبية، حيث هيمنت على النقاش في تونس مسألة سياسات الهوية، وأجندة مكافحة الإرهاب، وجرى تضخيم المخاطر الأمنية بطريقة كاريكاتورية، تحت ذريعة المحافظة على الاستقرار.
وفي خضم جدالات الهوية الدينية العلمانية راكمت طبقة رجال الأعمال النيوليبرالية المعولمة من نفوذها وثرائها، وفي ظل رهاب الإرهاب وسّعت المؤسسة العسكرية من حضورها ونفوذها وتضخمت ميزانيتها. وقد كشفت الأزمة الأخيرة في تونس عن أن تضخم السياسي على حساب الاجتماعي يهدد الاستقرار وقد يمهد إلى التضحية بالديمقراطية، في الوقت الذي تتعزز فيه قوة طبقة رجال الأعمال وفئة رجال الجيش.
twitter.com/hasanabuhanya