آراء ثقافية

"عطر امرأة" اسمها هند الهنود

حفلت قصص العميان في الدراما والأفلام بتغطية جيدة- جيتي
حفلت قصص العميان في الدراما والأفلام بتغطية جيدة- جيتي

هذا نص مقارن بين ثلاثة أفلام، ونص عربي قديم عن الحواس ويقظتها وفقدانها وعوضها، وليس عن العميان، وإن كان ثلاثة من شخوصه عميانًا، فقدوا حاسة البصر، وخلبوا الألباب ببصيرتهم، وهي شخصيات متخيلة غير حقيقية، الشخصية الحقيقية الوحيدة هي العربية، وهي من العصر الجاهلي.

فيلم عطر امرأة

 
ضُربتْ بهذا الفيلم الأمثال، لنيل بطل فيلم العرّاب الأوسكار عن دور الأعمى، يمثل في الفيلم بدور عميد متقاعد أعمى يرشده طالب جامعي في أثناء عطلته، الفيلم من إخراج مارتن برست وصدر عام 1992.

فقدَ الكولونيل فرانك سليد بصره أثناء الخدمة في جيش الولايات المتحدة، يعيش مع أهله منعزلًا عنهم إلا أنه يحتاج إلى مرافق له لمساعدته في قضاء شؤونه، نشرت بنت أخت الكولونيل سليد إعلان طلب مرافق للكولونيل، فيتقدم الشاب الفقير تشارلز سيمز، ويقابل الكولونيل سليد، فلا يرتاح له بعد مناقشة حادة بينهما، الكولونيل سليد الغضوب وأبطال الأفلام الأمريكية غضاب، حتى الذين يمثلون دور الأنبياء هم كذلك.

 

يوافق تشارلز على مرافقة الكولونيل مع شدّته وغلظته، ويفاجَأ بأنّ الكولونيل قد اشترى تذكرتين لهما إلى مدينة نيويورك لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، ينجح تشارلز في جعله يعدل عن نية الانتحار، بعد أن يقنعه أنه لا يزال شخصًا له حظ من الحياة، فهو يرقص التانغو ببراعة، فيشعر الكولونيل سليد بأنه مدين لتشارلز بحياته. تشارلز مدعو في الجامعة إلى الوشاية بزميلين دبرا مقلبًا مهينًا لعميد الجامعة، فينوب الكولونيل عن والده في المحكمة، وينجح في تبرئته من التهمة التي كيلت له، بعد أن يقرّع عميد الجامعة تقريعًا شديدًا لأنه يريد للطلاب أن يكونوا وشاة، وهي فضيلة الفيلم، يعود الكولونيل إلى منزله في نهاية الفيلم سعيدًا أليفًا.

 


الأفلام الأمريكية أفلام داروينية، لقد ردّ الكولونيل الدّين للشاب، وإن كان معروف الشاب أكبر. الكولونيل بارع في معرفة نوع عطور النساء، يحدد من العطر اسمها وطولها ولون شعرها، المشهد الأشهر في الفيلم هو مشهد قيادته سيارة في شوارع نيويورك المزدحمة بمساعدة الشاب تشارلز دليلًا ومرشدًا، حذاقة سيلد غير مقنعة، فالعميان منذ الولادة بارعون، وليس العميان المتأخرون في الإصابة.

 

ذلك عيب في قصة الفيلم. الكولونيل شديد الفجور، سكير، وقح، فاجر، يجمع وقاحة العميان مع غلاظة العسكر، مثلًا، يغازل زوجة أخيه عند زيارتها في عيد الشكر بأنه دائمًا كان يريدها في الفراش، ويثني على عطر زوجة ابن أخيه بأنه مثير جنسيًا، ويقول لابن أخيه أمرًا لا تجيز الصحافة نشره، بل إنه عند الذهاب إلى المرحاض يقول إنه ذاهب إلى التعميد، إنه يذكّر بفجور الجدّ في فيلم ليتل ميس سنشاين، وموضوعه الرقص أيضًا. فيلم عطر امرأة تكريم لجنرالات أمريكا، مثل فيلم خزانة الألم، وقد يكون الجنرال هو أمريكا رمزيًا، أمريكا العمياء الممزقة الغارقة في اللذة والشهوات.

فيلم كيت كات

 
مُدح فيلم الكيت كات كثيرًا، وعدَّ قصيدة بصرية وهو فيلم دراما مصري من إنتاج سنة 1991. الفيلم من إخراج وتأليف داود عبد السيد، ومن بطولة محمود عبد العزيز، قصة الفيلم من وحي رواية مالك الحزين للروائي إبراهيم أصلان. تبوأ الفيلم المركز الرابع والعشرين في قائمة أفضل مئة فيلم مصري حسب استفتاء النقاد عام 1996، كما حصل الفيلم على الجائزة الذهبية لأحسن فيلم في مهرجان دمشق السينمائي الدولي عام 1991.

صُوّر الفيلم قبل فيلم عطر امرأة بسنة، فهو ليس مقتبسًا من الفيلم الأمريكي، يمكن أن يكون عطر امرأة مقتبسًا منه، وأعمى مصر هو شيخ أزهري، وهو أبصر من أعمى أمريكا، وكلاهما شخصيتان متخيلتان، لكنه صورة من الواقع، الأزهري هو إمام مصر، ويقابل الجنرال عند الأمريكان، فأمريكا هي الجيش، ومصر هي الأزهر. 

 

الشيخ حسني أزهري سابق، وعازف عود، وصاحب مزاج، حشاش ونصاب، يعيش في حارة عشوائية، يقود أعمى آخر إلى السينما ويخترع له قصة الفيلم، ويقود دراجة نارية، وهي خيار أبرع من سيارة سيلد في إظهار البراعة والتحدي وحب الدنيا، الفيلم مليء بالدلالات والرموز والتأويلات، فكأنه يروي قصة مصر العمياء التي يقودها أعمى، وهو مثل الفيلم الأمريكي، فيلم شهوات شديد الحسيّة، وفيه حبكات وقصص كثيرة مثل عنانة الفتى، اسم تاجر الحشيش هو الهرم، فالهرم حشيش مصري، الأفلام المصرية تحرص على إنكار بيع البيت، الذي يرمز لبيع الوطن، بينما يروي عطر امرأة قصتين، هما قصة الأعمى، والشاب. أعمى مصر يبصّر بعيوب الحارة كلها، وأولها النساء الأيامى، أما أعمى نيويورك، فلا يكاد يرى سوى النساء.


أعمى اليابان

 
زاتويشي بطل ساموراي ياباني مسافر أعمى، ومقامر رابح دومًا، ومحارب جتسو لا يقهر بالسيف، له أفلام ومسلسلات وأفلام كرتون، هو بطل قومي عند اليابانيين، وله نسخ أمريكية هوليوودية.

 


نائم العرب

 
كان يمكن أن نذكر بصائر العميان العرب مثل أبو العلاء المعري والأعشى، لنجري بها المقارنة، لكن الأعمى هو ضرير حاسة واحدة، وقد اخترت رجلًا نامت حواسه كلها، هو آكل المرار، حجر بن الحارث، جدّ امرئ القيس، ننقل قصته مختصرة من مجمع الأمثال للنيسابوري البغدادي.

ذكر الإخباريون إنَّ الحارث بن مندله ملك الشام، أَغارَ على أرض نجد، وهي أرض حجر بن الحارث، وذلك على عهد بَهْرَام جور، وكان بها أهل جُحْر، فوجد القومَ خُلُوفًا، ووجد حُجْراً قد غَزَا أهلَ نَجْرَان، فاستاق ابنُ مندله مالَ حُجْرٍ، وأخذ امرأته هندَ الهنود، ووقع بها فأعجبها، وكان آكلُ المُرَار شيخًا كبيرًا، وابنُ مندلة شابًا جميلًا، فَقَالَت له: النَّجَاءَ النجاء فإن وَرَاءك طالبًا حثيثًا، وجمعًا كثيرًا، ورأيًا صليبًا، وحزمًا وكيدًا، فلما رجع حُجْر وجَدَ ماله قد اسْتِيقَ، ووجد هندًا قد أخِذَتْ، ثم أقبل مُجِداً في طلب ابن مَنْدَلة. 

قال ابن مندلة: يا هند ما ظنك الآن بحُجر؟ قَالَت: أراه ضاربًا بجوشنه على واسطة رحله وهو يقول: سِيرُوا سِيرُوا لاَ غَزْوَ إلاَ التعقيب، وذلك مثل ما قَالَ زوجها سواء، ثم قَالَت هند لاَبن مندلة: والله ما نام حُجْر قطٌ إلاَ وعُضْو منه حي، قَالَ ابن مندلة: وما علمك بذلك؟ وانتهَرها، قَالَت: بلى كنت له فارِكًا (كارهة)، فبينما هو ذات يوم في منزل له قد أخرج إليه رابعًا، فضربت له قبة من قبابه، ثم أمر بُجُزرٍ فنُحِرَتْ وبشاءٍ فذبحت، فصنع ذلك، ثم أرسل للناس فدعاهم فأطعمهم، فيلما طعموا وخرجوا نام كما هو مكانه، وأنا جالسةٌ عندَ بابِ القُبةَ فأَقبلت حَيَّة وهو نائم باسطٌ رِجلَهُ، فذهبت الحية لتنهشهُ، فقبض رجله، ثم تحولت من قبل يده لتنهشه، فقبض يده إليه، ثم تحولت من قبل رأسه، فلَما دنت منهُ وهو يغطُّ قعدَ جالسًا، فنظر إلى الحيّة، فَقَالَ: ما هذه يا هند؟ فقلت: ما فَطِنْتُ لها حتى جلستُ.

يتبع آكل المرار خصمه من غير أي حاسة في الشم، سوى إدراك ثأره، ويستعيد إبله وهندا زوجته، ويقتلها تمزيقًا بين فرسين بعد أن استعلنت له برأيها وتفضيلها الحارث عليه في الفراش.


التعليقات (0)