كتاب عربي 21

يوم تقابل النقيضان في أرض السودان

جعفر عباس
1300x600
1300x600

استقبل السودانيون اليوم الأخير من شهر حزيران (يونيو) المنصرم بكثير من التوجس والترقب، ففي مثل ذلك اليوم من عام 1989 استولت الجبهة الإسلامية القومية على الحكم بانقلاب عسكري، وحكمت البلاد لثلاثين سنة تحت لافتة حزب المؤتمر الوطني، وهو بمثابة اسم حركي لجماعة الإخوان المسلمين السودانيين، الذين خرجوا على التنظيم العالمي للإخوان في منتصف ستينيات القرن الماضي، واتخذوا جبهة الميثاق الإسلامي اسما، ولما اشتد عودهم الجماهيري أسموا تنظيمهم الجبهة الإسلامية القومية، ثم وبعد انقلاب 1989 حرصوا على إبعاد "شبهة الإسلاموية" عن أنفسهم وعملوا تحت راية المؤتمر الوطني.

ثم هبت ثورة شعبية عارمة في أواخر عام 2018 واقتلعت حكومة المؤتمر الوطني ورئيسها عمر البشير، وكان ما كان من محاولة بعض جنرالات الجيش السوداني تجيير الثورة لصالح طموحاتهم الشخصية في الزعامة، واستعر الصراع بين القوى المدنية والقيادات العسكرية، وحدثت أبشع مجزرة عرفتها الخرطوم في اليوم الثالث من حزيران (يونيو) من عام 2019، عندما تحركت أرتال من القوات النظامية وأمطرت مدنيين كانوا يعتصمون امام قيادة الجيش منذ السادس من نيسان (إبريل) من ذلك العام في سياق مواصلة الثورة حتى يقوم حكم مدني صرف، وقتلوا العشرات وألقوا بجثث الكثيرين في النيل.

بعد تلك المجزرة سادت أجواء من الرعب في مدن السودان الكبرى، خاصة تلك التي استباحتها القوات المسماة "الدعم السريع" والتي نكلت بالناس في الشوارع والساحات العامة، وصار قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي) يعتلي المنابر مسوقا نفسه كزعيم جديد في المشهد الجديد، متسلحا برتبة فريق أول بينما كل حظه من العلوم العسكرية معرفة كيفية الضغط على زناد البندقية الآلية (وكان عصاميا في هذا المجال).

ثم استجمعت القوى الشعبية شتاتها ونزلت إلى الشوارع بأعداد هائلة في 30 حزيران (يونيو) 2019، وأعقب ذلك إعلان العصيان المدني والإضراب السياسي، فأدرك جنرالات الجيش أنهم إذا لم يتنازلوا عن طموحهم في الانفراد بالسلطة فقد ينتهي بهم الأمر إلى السجون مع عمر البشير ومساعديه، وهكذا توافقوا مع القوى المدنية على اقتسام السلطة بحيث تكون الحكومة التنفيذية مدنية، ويشغل العساكر خمسا من مقاعد مجلس السيادة (الرئاسة) الأحد عشر.

وهكذا صار الثلاثين من حزيران (يونيو) ذا قيمة معنوية عالية لقوى الثورة المدنية، وشهد موكبا ضخما العام الماضي، إحياء لذكرى إرغام العسكر على التراجع عن مخططهم للانفراد بالسلطة، بينما صار ذلك اليوم مثيرا لذكرى وجع فقدان السلطان لأنصار المؤتمر الوطني وحكم عمر البشير.

وهكذا كان معلوما أيضا أن قوى الثورة التي أطاحت بحكم عمر البشير وصحبه ستخرج إلى الشوارع يوم الأربعاء الماضي (30 حزيران/ يونيو)، إحياء لذكرى ما صار يعرف بـ "استرداد الثورة" عام 2019، ثم كان أن نشط أنصار الحكومة البائدة في الدعوة للخروج إلى الشوارع في ذلك اليوم لـ "استرداد الحكم"، وبداهة فقد أثار احتمال تلاقي كتلتين متناقضتين في الشوارع قلقا عاما لترجيح وقوع مواجهات عنيفة بينهما.

قبلها بنحو أسبوع تلقى أنصار النظام السابق لطمة قوية تمثَّلث في مداهمة السلطات للسجن الذي تقبع فيه قيادات ذلك النظام، حيث عثروا مع عشرين منهم على هواتف تحوي مراسلات بينهم وبين أنصارهم في الداخل والخارج، وبين أولئك الأنصار من يشغل وظائف حكومية مرموقة وآخرين نشطين فيما كان الحكم السابق يسميها كتائب الظل، وهي أشبه بالمليشيات يتم استدعاؤها في أحوال معينة لقمع الخصوم، وهكذا انكشف قسم كبير من مخطط التحرك لأشياع النظام البائد في ذكرى يوم وصوله إلى السلطة، وقبل اليوم الموعود بساعات كانت سلطات الأمن قد داهمت عددا من الفنادق في الخرطوم، واعتقلت العشرات ممن تم جلبهم من أقاليم السودان الأخرى للمشاركة في المسيرة، ولإثبات حضور كبير لأنصار النظام في الشارع.

ومع هذا استطاع نفر قليل العدد من أولئك "الأنصار" الخروج إلى الشارع يوم الأربعاء الماضي، ولكن قبل نحو ساعتين من الموعد المحدد لحراك قوى الثورة التي أطاحت بحكمهم، وتم تفريقهم بالقنابل المسيلة للدموع، وتلاشى بذلك احتمال حدوث مواجهات بين النقيضين في الشوارع.

وكانت المواكب التي سيرها المحتفلون بذكرى الانتصار الجزئي للثورة الشعبية ضخمة، ولكن لم يكن في ضخامتها ما يشرح صدور الجالسين في كراسي الحكم حاليا، فقد كان قسم منهم ينادي بسقوط حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وإبعاد العسكريين تماما من مجلس السيادة، بينما التزمت الغالبية بشعارات الثورة: حرية ـ سلام ـ عدالة، مع التشديد على مطلب العدالة بما يعنيه من محاكمة من ارتكبوا مجزرة 3 حزيران (يونيو) عام 2019 والتي ضلع فيها عدد من كبار العسكريين.

 

إن مواكب أحياء ذكرى انتصار 30 حزيران (يونيو) 2019 على العسكر لم تكن بضخامة مواكب العام السابق، ولم تكن الشعارات خلالها موحدة ومتوافقة، مما يشي بأن حكومة حمدوك خسرت قسما من قاعدتها الجماهيرية، ليس فقط لأن حلقات الضائقة المعيشية زادت استحكاما، ولكن أيضا لأنها تبدو ضعيفة أمام سطوة عسكر مجلس السيادة

 



ولا أحسب ان للمؤتمر الوطني الذي حكم البشير باسمه ثلاثين سنة قاعدة جماهيرية صلبة، فقد كان الحزب مجرد ديكور يتدثر به حكم الفرد (البشير)، بل إن البشير سعى للتنكر حتى لـ "ديكورية" الحزب وتخلى عن قيادته عندما استعر أوار الثورة الشعبية، ولعل أقوى دليل على هذا هو أنه وطوال أربعة أشهر ظلت الجماهير خلالها تهتف وتطالب بسقوط حكم البشير، لم تخرج مظاهرة واحدة مؤيدة له، وحتى تحشيد الناس بالاستعانة بمقاولي أنفار في ساحة في قلب الخرطوم لم تسفر إلا عن حضور جماهيري هزيل تقدمه كبار أهل الحكم.

ومن جهة أخرى فإن مواكب أحياء ذكرى انتصار 30 حزيران (يونيو) 2019 على العسكر لم تكن بضخامة مواكب العام السابق، ولم تكن الشعارات خلالها موحدة ومتوافقة، مما يشي بأن حكومة حمدوك خسرت قسما من قاعدتها الجماهيرية، ليس فقط لأن حلقات الضائقة المعيشية زادت استحكاما، ولكن أيضا لأنها تبدو ضعيفة أمام سطوة عسكر مجلس السيادة الذين تمددوا في مجالات العمل التنفيذي، وبخاصة في مجال السياسة الخارجية دون سند دستوري، بل بلغ الشطط بهم أن إسرائيل صارت تتعامل مع حميدتي مباشرة حتى من خلف ظهور زملائه العسكر.

وفي الأفق نذر مواجهة بين عسكر ومدنيي الحكم فقد طرح حمدوك مبادرة لتصحيح مسار الحكم، وتحدث فيها صراحة عن تغول العسكر على أمور لا تخصهم، وعن إصلاح وإعادة هيكلة المؤسسات العسكرية، وهذه مسائل تدخل في لحم العسكر الحي، ويتطلب علاجها الْكَيّ، وليس من المنظور أن يقبل بها جنرالات السلطة، خاصة في ما يتعلق بدمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، لأنهم وكما عمر البشير يستقوون، بها لأن ثقتهم في موالاة الجيش النظامي لهم ليست كبيرة.
 


التعليقات (0)