هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وصلت أزمة السد الإثيوبي المستحكمة إلى منعطفها الأخير.
لم يعُد ممكنا تمديد الأزمة بعد أن استهلكت عشر سنوات كاملة بالدوران في المكان نفسه، باسم تفاوض يعود مرة بعد أخرى إلى نقطة البدء.
في شهر تموز/يوليو الحالي، يبدأ الإثيوبيون، كما هو مخطط ومعلن، الملء الثاني لخزان السد، دون أدنى اعتبار للقانون الدولي، أو لمصالح دولتي المصب مصر والسودان.
خطورة تلك الخطوة الانفرادية تتلخص في أمرين متلازمين:
الأول، صنع أمر واقع يصعب بعده قصف جسم السد لمنع السيطرة الإثيوبية على النيل الأزرق؛ خشية غرق أجزاء واسعة من السودان وأصلا فيضانه المدمر إلى مصر، لكنه لا يلغي تماما سيناريو العمل العسكري إذا ما اقتضت ضرورات الدفاع عن الحق في الحياة.
بتنسيق عسكري مصري سوداني كامل، يمكن احتلال موقع السد نفسه، الذي يقع بالقرب من الحدود السودانية.
هذا خيار غير مستبعَد في ظل المناورات المشتركة، التي أجرياها بالأسلحة البرية والبحرية والجوية كافة، بالقرب من موضع العمليات المفترضة تحت اسم لافت برسائله: «حماة النيل».
يستلفت الانتباه -هنا - أن التصريحات المصرية والسودانية المتواترة عن استبعاد العمل العسكري، أفضت إلى عكس رسائل الطمأنة، لتأكيد أفضلية الحل الدبلوماسي.
لأول مرة منذ بدء الأزمة، ارتفعت أصوات لقيادات عسكرية إثيوبية تهدّد وتنذر، وتؤكد جاهزيتها القتالية.
كانت تلك عنجهية مستأنفة، دون إدراك لفوارق القوة.
بتلخيص ما، العمل العسكري شبه مستبعد مصريا وسودانيا، لكنه وارد بقوة إذا ما أفضت الأزمة إلى حرب مياه وخيمة، لا يمكن تحمل كوارثها على الزراعة والاقتصاد والحياة نفسها.
والثاني، المضي قدما في اعتبار النيل الأزرق بحيرة تخص دولة المنبع وحدها، لا نهرا دوليا تنظمه اتفاقات وقوانين ومصالح وجودية لدول أخرى تتعلق بالحق في الحياة.
الترجمة العملية: فرض الهيمنة الإثيوبية السياسية والاستراتيجية على حوض نهر النيل، باعتبار أنها صاحبة الحق الحصري في توزيع الحصص والأنصبة من المياه، تمنح وتمنع وفق ما تراه من حسابات ومصالح، تتداخل فيها بطبائع الأمور إرادات دول أخرى، إسرائيل في مقدمتها، تطلب لأسباب مختلفة تهميش مصر في محيطها.
هذه مسألة وجودية أخرى تتعلق بمكانة البلد واحترامه لتاريخه ومصالحه ونظرته إلى نفسه.
باستهلاك الوقت، ضاقت الخيارات عند المنعطف الأخير.
أغلب ما هو مطروح من أفكار وتصورات إعادة إنتاج لما جرى التفكير فيه واللجوء إليه من قبل، مثل الذهاب إلى مجلس الأمن، أو استصدار بيانات تضامن من دول شقيقة أو صديقة تتفهم دواعي القلق في مصر والسودان.
رغم أية مشاعر مقدرة، فإن أحدا في العالم لن يخوض معاركك الوجودية بالنيابة عنك.
أفضل ما يحدث الآن، حالة التأهب التي تخامر قطاعات متزايدة من الرأي العام المصري استعدادا لدفع تكاليف الدفاع عن الحق في الحياة، أيا كانت التضحيات.
تكاد تقارب تلك الحالة، التي يمكن تلمسها بسهولة بالغة، ما كان عليه الشارع المصري عام (1972) قبل حرب أكتوبر مباشرة، حين بدأت بمظاهرات طلاب الجامعات وبيانات النقابات والمثقفين، وبطولة الرجال في الخنادق الأمامية متأهبة لإزالة آثار عدوان (1967) بقوة السلاح.
القضية الآن ليست طلبا لإزالة آثار عدوان مهما بلغت خطورته، بقدر ما هي دفاع عن الحق في الحياة والوجود.
إذا أردنا أن نصارح أنفسنا بالحقائق، فهناك تقصير بالغ لا يمكن إنكاره في طرح قضية المياه والوجود على الرأي العام العالمي ومراكز التأثير الدولية.
لا بد أن يكون واضحا أن مصر لن تضبط نفسها للأبد، وأن قضيتها تمثل فعلا تهديدا حقيقيا للأمن والسلم الدوليين في حوض نهر النيل، كما القرن الأفريقي واستراتيجية البحر الأحمر.
قرب المنعطف الأخير، قبل الملء الثاني لخزان السد الإثيوبي، جرت محاولة لاختراق التحالف المصري السوداني بالاستثمار في مخاوف الخرطوم المتفاقمة والمشروعة من التأثير السلبي الفادح على سد «الروصيرص».
الخطر ماثل في السودان، فيما مصر مؤمنة بمخزون مياه بحيرة السد العالي لفترة قد تطول لثلاث سنوات.
جرى طرح مشروع اتفاق مرحلي إثيوبي سوداني اقترحه المبعوث الأمريكي إلى القرن الأفريقي جيفري فيلتمان، بدعم وتأييد مفترض من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة.
لم تبدِ أثيوبيا حماسا كبيرا للمشروع المقترح، رفضت أية اشتراطات سودانية تضمن جدية الالتزام بالتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بعد ستة أشهر، أو أن تكون هناك مشاركة دولية.
راوغت مجددا بتصور أنها في مركز قوة، يخولها التصرف كما تشاء.
كان اختيار فيلتمان بالذات مؤشرا على نوع التسوية، التي تطلبها الولايات المتحدة في أزمة مياه النيل، فهو سفير أمريكي سابق على إلمام بالمنطقة وأحوالها وصراعاتها، عمل في لبنان، وكانت تجربته مثالا سلبيا على قدر التدخل في أدق أموره وسياساته.
بالقرب من المنعطف الأخير، اندفعت الحوادث داخل إثيوبيا إلى مستوى لم يكن في دائرة الأخبار المتوقعة بهزيمة الجيش الإثيوبي في إقليم التيغراي، واضطراره للانسحاب من عاصمة الإقليم تحت ضربات «جبهة تحرير شعب التيغراي»، رغم ما ارتكبه من فظائع وجرائم ضد الإنسانية والمساندة التي حازها من قوات أريترية، اضطرت بدورها إلى انسحابات أخرى من ذلك الإقليم.
كان ذلك تطورا جوهريا في معادلات الصراع على السلطة في إثيوبيا، يهدد وحدتها وينذر بفوضى في القرن الأفريقي تهدد بالعمق استراتيجيات ومصالح غربية.
أرجو الالتفات إلى أن أحدا في العالم لم يولِ اهتماما حقيقيا بما يحدث في التيغراي من فظاعات وجرائم ضد الإنسانية، باستثناء ما صدر عن بعض منظمات الأمم المتحدة من تقارير.
المعادلات الآن اختلفت، الجيش الإثيوبي روحه المعنوية في الحضيض، على الأقل لم يعد بوسعه أن يتحدث بعنجهية عن جاهزيته العسكرية، حكومة «آبي أحمد» في أوضاع اهتزاز، واحتمالات التصعيد العسكري في الحرب الأهلية مفتوحة على مصاريعها.
كان انهيار القوات الأثيوبية في مواجهات التيغراي، واضطرارها لإعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد، مروعا في حجمه وتأثيراته الاستراتيجية، وداعيا في الوقت نفسه لتحرك المؤسسات الأمريكية كافة المعنية بصناعة السياسة الخارجية، في مجلس الكونغرس، كما في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، لمحاولة التوصل إلى تسوية سياسية، تمنع انفلات السلاح في هذه المنطقة الحيوية من القرن الأفريقي من أن يضرب في مصالحها الاستراتيجية.
المصالح الأمريكية المهددة قبل أية ادعاءات عن حقوق الإنسان!
لا مصلحة للولايات المتحدة في تفكيك إثيوبيا، كما لا مصلحة لمصر والسودان شرط أن تلتزم حكومة «آبي أحمد» بقواعد القانون الدولي، وتحترم حقوق البلدين العربيين في مياه نهر النيل.
المشكلة الحقيقية التي تعترض إثيوبيا الآن، أن مشروعها لبناء قوة إقليمية مهيمنة على نهر النيل يتعرّض للتقويض من داخلها، لا بتآمر من خارجها، كما تحاول أن تحشد مواطنيها ضد «العدو المصري المفترض».
إذا ما عجزت دولة ما أن تحفظ وحدة ترابها الوطني، فإن شرعية الحكم فيها تسقط، أو على الأقل توضع بين قوسين كبيرين.
وإذا ما تمددت نيران الحروب الأهلية، فإن فكرة الدولة نفسها تتقوض.
الأسوأ في الحالة الإثيوبية، استدعاء قوات من خارج الحدود للتنكيل بمواطنيها في التيغراي وارتكاب جرائم حرب بحقهم؛ استثمارا في أحقاد وعداوات قديمة.
بأية معايير قانونية وسياسية، فهذه جريمة خيانة عظمى لا تؤسس لمشروع دولة إقليمية مهيمنة، ولا تتيح فرصة حقيقية لتنمية تحتاجها إثيوبيا للخروج من ربقة الفقر المتوارث.
عند المنعطف الأخير، توفر المستجدات أمام مصر فرصا سانحة لإعادة عرض قضيتها العادلة باعتبارها مسألة حياة أو موت، وأن تكون الخيارات كلها مفتوحة، أيا كانت تكلفتها، فـ«يا روح ما بعدك روح» - كما يقول المصريون عادة عند مواجهات المصير.
*كاتب وصحفي مصري