هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أحسب أنني من أقلية ـ ولكن عديدها الملايين ـ على مستوى الكرة الأرضية التزمت التزاما صارما بضوابط واشتراطات واحترازات تفادي الإصابة بفيروس كورونا، خاصة على صعيد التباعد الاجتماعي، فخلال الشهور الخمسة عشر الماضية لم أستقبل ضيوفا في بيتي سوى لثلاث مرات، وكان ذلك عقب استجواب الضيوف، والتأكد من أنهم حصلوا على اللقاح المضاد للفيروس، وهو أمر سهل في دولة قطر حيث أقيم، لأن القانون الذي يتم تطبيقه بصرامة يستوجب أن يحمل كل إنسان يعيش على تراب قطر تطبيقا الكترونيا في هاتفه يوضح ما إذا كان الشخص حاملا للفيروس أو حاصلا على اللقاح.
لم يصل بي الأمر حد الوسواس القهري من حيث غسل اليد وكل ما يأتي إلى البيت من ضروريات وكماليات سبع مرات إحداهن بالكحول، ولكنني بت مدركا أن الكورونا سببت لي اضطرابا نفسيا أو اجتماعيا، فبذريعة التباعد الاجتماعي قطعت صلتي بالأصدقاء والأقارب فلا أزور ولا أُزار، ولم يعد الحرمان من التواصل معهم "يفرِقْ معي"، وصرت أعزي نفسي بأنني لست مقصرا في حقهم وحق نفسي لأنني أراسلهم يوميا عبر تطبيق واتساب.
ثم اكتشفت أن واتساب هو الداء في مسوح الدواء، فرغم أنني أستخدمه لاستقبال النصوص والصور الثابتة والحية أكثر من استخدامي له لإرسالها، إلا أن مراجعته وتفقد محتوياته كل بضع ساعات وصل عندي حد الإدمان، ورغم أنني أتعامل مع الكثير مما يردني عبر واتساب تأسِّياً بقوله تعالى "إذا جاءكم فاسق بنبأ ......."، إلا أنني أستهل يومي بتفحُّص محتويات واتساب ثم أعاود الفحص كل بضع ساعات، وأختتم يومي أيضا بمطالعة تلك المحتويات.
ثم كان ما كان من أمر صديقي الطبيب النفساني الذي هاتفني وتحدثنا عن عموم الأحوال، والوضع في الصومال وأصل الآه في الموال، ثم سألني ماذا عندي من كتب تستحق الاقتناء، فقلت له إنني لاحظت في وعن نفسي في الأشهر الأخيرة نفورا من القراءة، بل لم أعد راغبا في مشاهدة الأفلام الوثائقية، أو أي عمل تلفزيوني طوله أكثر من دقائق معدودة، فقال لي صديقي الطبيب ذاك أنني وبلا شك أعاني من "متلازمة وسائل التواصل الاجتماعي" التي تجعل مستخدمي وسائط واتساب وماسنجر وفيسبوك لفترات طويلة يعانون من آلام في الرقبة وإصبع السبابة، وفقدان القدرة على التركيز، الذي ينجم عن إدمان الوجبات النصية السريعة والقصيرة، مما يسبب فقدان الشهية تجاه النصوص الطويلة المحكمة التي يتطلب الاطلاع عليها طول النفَس والبال.
عدم "التيقن" من الحال والمآل قمين بتوسيع دائرة الاضطرابات النفسية في جميع البلدان، ومعلوم ان فيروس كورونا على علّاته الكثيرة "ديمقراطي"، ولا يميز بين البلدان او الأشخاص على أساس العرق او الدين او الجغرافيا مما ينذر بكوكب أرض أكثر اختلال لتكاثر أعداد المختلين نفسيا فيه.
وأحسب أن التعافي من تلك المتلازمة مقدور عليه وميسور بقليل من مجاهدة النفس ولكن ماذا عن الاعتلال النفسي والاجتماعي الذي سببته الكورونا لي وللملايين غيري؟ وقرأت عرضا قصيرا لكتاب "علم نفس الأوبئة" للدكتور ستيفن تايلر وهو كندي متخصص في علم النفس جاء فيه أن ما يتراوح ما بين 10 إلى 15 في المئة من الناس، لن تعود حياتهم كسابق عهدها سواء أصيبوا بالكورونا أم لم يصابوا بها، بمعنى أن هاجس ووسواس الإصابة بالفيروس سيلازمهم إلى اللحود، لأن الآثار السلبية للكوارث على الصحة النفسية تطال عددا أكبر من الناس وتدوم لفترات أطول بمراحل من أثارها على الصحة البدنية.
وقد أثبتت دراسات منهجية أن من نجوا من كارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل النووي في أوكرانيا عام 1986 ما زالوا إلى اليوم يعانون من معدلات عالية من الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، بينما تسجل مدينة نيوأورليانز الأمريكية أعلى معدلات الاضطراب النفسي في أمريكا منذ كارثة إعصار كاترينا الذي دمر آلاف المساكن واسفر عن هلاك أكثر من 1800 شخص عام 2005.
الراجح عندي، ولست مختصا في علمي النفس والاجتماع، هو أنني بت أعاني مما يسميه الطب النفسي "الوحدة المزمنة" وهي التي نجمت عن الابتعاد طويلا عن التداخل والتفاعل والتواصل المباشر مع دائرة معارفي في عصر ما قبل الكورونا، وأحسب أنني قد أجد صعوبة، أو قد أعاني من فقدان الرغبة في التواصل المباشر معهم بعد انحسار الجائحة، لأنني صرت استعذب "خلوتي" وانعزالي الاجتماعي.
وإذا اقتصر مصابي الناجم عن الكورونا على قدر من الانطوائية، فلا بواكي أو عزاء للملايين الذين فقدوا وظائفهم بسبب الضوائق الاقتصادية التي نجمت عن الكورونا، وتشير دراسة أمريكية حديثة، تستند إلى بيانات استطلاعات الرأي، إلى أن أكثر من نصف العاطلين أو الذين انخفضت دخولهم أثناء الجائحة في الولايات المتحدة يعانون بالفعل من مشاكل نفسية، كما ارتفعت معدلات المشاكل النفسية بين الأشخاص الذين يتقاضون رواتب منخفضة.
ويبقى السيف المصلت على رقاب جميع بني البشر هو الخوف من المجهول، أي ما تخبئه السنون القادمة، فحتى لو اقتنع معظم الناس بأن لقاح الكورونا فعال في حفظ الأرواح إلى حد كبير، يبقى معلوما لديهم أنه سيصبح فيروسا "متوطِّنا" ولا علاج له أو منه بعد الإصابة به، فعدم "التيقن" من الحال والمآل ضمين بتوسيع دائرة الاضطرابات النفسية في جميع البلدان، ومعلوم أن فيروس كورونا على علّاته الكثيرة "ديمقراطي"، ولا يميز بين البلدان أو الأشخاص على أساس العرق أو الدين أو الجغرافيا مما ينذر بكوكب أرض أكثر اختلال لتكاثر أعداد المختلين نفسيا فيه.