كانت لنا جولة سياحية فكرية
سياسية أدبية مع ثلة من الكتاب والمفكّرين من مثقفي فلسطين المحتلة سنة 48، أخذوا
بأيدينا وزمام قلوبنا في مؤتمر يحاول استبصار الخيارات الراهنة والمستقبلية للشعب
العربي الفلسطيني في أراضي 1948. وكان ذلك بدعوة من مركز القدس للدراسات
المستقبلية والمركز الفلسطيني للبحوث والدراسات الاستراتيجية.
نثر بداية في طريقنا الدكتور محمد المصري،
رئيس المركز الفلسطيني للبحوث والدراسات الاستراتيجية، مجموعة من التساؤلات
والمحفزات التي تثير الشهية للاستكشاف والرؤية المبصرة: "ما بعد هبة القدس
الأخيرة ليس كما قبلها، أثبتت هذه الجولة من الصراع أن هزيمة هذا المحتلّ ممكنة،
كانت الرسالة الأقوى والأعظم أثرا للمطبعين، كيف ستكون العلاقة المستقبلية بين
كيان
الاحتلال وأهلنا في أراضي 48؟ كيف توحد الفلسطينيون على حماية الأقصى وغزة،
كيف تم تقديم القضية الوطنية على المسائل المعيشية؟ هناك علاقة مشتبكة ومتصادمة
ومع سيطرة اليمين الأشد تطرفا، كيف سيكون شكلها؟"، وطرح الرهان على وحدة
الفلسطيني وقدرته على العمل على برنامج وطني سياسي واحد في إطار منظمة التحرير.
وأخذت الرحلة تزداد ألقا واستشرافا جميلا
للعمق الفلسطيني، عندما قاد الحافلة مفكر مخضرم قد عركته السياسة وسبر غور الفكر
والمعرفة، الدكتور سعيد نفاع، حيث ارتكز على مناطق القوى التي استهدفها الاحتلال
في المجتمع الفلسطيني، وهي الانتماء القومي والأرض، فعمد إلى ضرب عمق هذا الانتماء
والمصادرة الابتلاعية للأرض. وانقسم الناس جراء هذه السياسات الاحتلالية ما بين
مرحب وهم قلّة ومسلّم من باب لا حول لنا ولا قوة، فبدّلوا هواهم الفلسطيني
بالإسرائيلي، وكان الأخطر في التنازل عن حق تقرير المصير وبالتالي تخفيض الوزن
النوعي بحيث أصبح المطلب الأعلى: دخول الكنيست سياسيا، وتساوي الفرص في مجتمع
مرفّه اقتصاديا، واجتماعيا التحول من طبقة عمال كادحين إلى برجوازية صغيرة، وهناك
من لاذ في غيبياته أو طائفيته وساد أن الأسرلة قد تمّت بنجاح.
ولكن مع هبة الكرامة ثبت أن فلسطينيي 48
كالصبار يصعب بلعه ويصعب لفظه، فقد جاءت حاملة رسلة هزت الكثير من الأركان، ولأول
مرة يخرج الفلسطينيون عن بكرة أبيهم ليعيدوا الألق للقضية وليؤكدوا أنها بوصلة
الصراع. وهنا يعود السؤال: هل الأمر تعبير عن احتقان داخلي حياتي معيشي أم هو
مكنون وطني؟ وهذا يؤكد ضرورة العمل الدؤوب على تجذير الوطني على المدني وهذا
يدفعنا إلى تغيير خطابنا ورفع سقفنا كي لا تكون الكنيست مربطا لخيلنا، بل هي مذود
لها، لا بد من التركيز على حق تقرير المصير الفلسطيني الذي يشمل فلسطينيي الـ48
دون أي تبادل للأراضي أبدا.
ثم انتقلنا إلى ميدان رماية واسع فسيح
استقبلنا فيه الدكتور محمد الهيبي، وبدأ بنا بالتأكيد على أن فلسطينيي 48 هم جزء
من الشعب الفلسطيني وليسوا شعبا قائما بذاته، ثم حدد ملامح المعركة الوجودية والتي
تتمثل بالحفاظ على الهوية. وأنهم ببعدهم القومي جزء لا يتجزأ من الأمة العربية،
وبالبعد الوطني فلسطينيون حتى النخاع، بينما فُرضت عليهم خصوصيات لا بد من الانتباه
إليها. ثم أخذ بنا دكتورنا إلى ما أثارته الحرب الأخيرة من أسئلة جوهرية كان من
أهمها السؤال عن البعد الوطني الفلسطيني، وأكد على أن الانقسام يجعل شرعية
فلسطينيي الداخل تتآكل، وحذر من الزواحف والتي تمثّلت في عباس منصور الزاحف
المستجدي في زمن يعود الفلسطيني إلى مجده وعنفوان قضيته.
وصلت الرحلة إلى حديقة غناء ودوحة من دوحات
الثقافة والأدب، حيث استقبلنا فيها الدكتور أحمد رفيق عوض أجمل استقبال، واستهل
اللقاء بلفت الأنظار إلى ما أذهل الوجدان، حيث حقق أهلنا فلسطينيي 48 الرواية التي
حققت الهوية، تناول حركة الكتابة والتأليف حيث فرضت الهوية الفلسطينية في مواجهة
أعتى الأعاصير الصهيونية العاتية واستعصت على كل ضغوطها الطاغية، وأثبت أنهم كانوا
وما زالوا حجر الأساس الكاشف لعنصرية ووحشية وتغوّل المحتل.
واستعرض أديبنا للحضور مراحل تطور هذه
الرواية، وإذ هي تعيد القضية لمربعها الأول، فقد رفض الفلسطينيون التعريف الذي
يعطى لها، حيث انعدام الوزن. لقد عادوا للطفولة الأولى مثل سلمان ناطور لتأكيد هذه
الانتماءات الأولى.
وأكد أيضا أن الأديب متقدم على السياسي،
والأديب الفلسطيني في الداخل له مكانة كبيرة فهو المؤرخ والمحرّض والمبدع والمحبّب،
وأكدّ أن الأديب مثّل بما كتب النقيض الفلسطيني المكتنز بالحياة، وكان النقيض
التام لرواية الصهيوني الكاذبة، وكان خير من لا يضع قلمه في محبرة الآخرين، فهو
المتمكن من تحقيق ذاته الحرة الأصيلة بكلّ جدارة، فالقلم قلمه والحبر حبره، وهو
غير قابل إلا أن يكون رائدا ورائيا لأمته وشعبه، مرابطا على الجبل دون أن يلتفت
إلى الغنائم مهما طال به الزمن أو قصر.
ودار المتنزّهون دورتهم في رحاب الفكر
والسياسة والمعرفة ما بين مداخل وسائل وعارض لأجمل ما في جعبته، وكانت البوصلة نحو
الخيارات المستقبلية وما سيحققها من سياسات وبرامج وكيف نحسن التعامل بما يتناسب
مع دلالات هذا العدوان الأخير الذي انتصر فيه الكف على المخرز، وأن لا نخرج من
المولد بلا حمص أو "كمصيفة الغور" على حد تعبير الدكتور سعيد نفاع. وكان
من أطلق النار على اتفاقية أوسلو التي اعتبرها بعض مثقفي 48 أنها من أخرجتهم من قضية
الشعب الفلسطيني.
وعودة ختامية إلى حيث ابتدأت الرحلة مع مفكرها
الأوّل سعيد نفاع، وعينه ترقب مسارعة المشروع الصهيوني نحو المزيد من التطرف
والعنصرية واحتراف رفع وتيرة العدوان والحلّ المرتقب، حيث وصل إلى أنه لا بدّ من
الاستعداد والنظر إلى حتمية المشروع الصدامي مع هذا المشروع الإحلالي والذي لا
مفرّ منه أبدا.
وعند وصول الرحلة إلى منتهاها وجدنا من يرفع
صوته ويطالب بالمزيد من مثل هذه اللقاءات المثمرة، والتي تجسر الهوّة وتصل بنا إلى
كيمياء التواصل الفكري والمعرفي الذي يبشر بخير كبير بإذن الله.