واجهت القضية
الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية موجة غير مسبوقة من محاولات تجريف الوعي العام والخاص بشأنها، وكانت تلك المواجهة على أشدها مع أنظمة عربية وإسلامية جنحت نحو حالة من الشذوذ الأخلاقي والإنساني والحقوقي حين أعادت تأهيل دولة الاحتلال في المنطقة. كانت دوافع تلك الأنظمة محكومة بحالة الاستكبار التي تعيشها الدول القمعية والديكتاتورية، ورغبتها غير المحدودة في عقد تحالفات إقليمية ودولية وعصبوية تثبت لديها مقاعد الحكم.
لوحظ في العام ٢٠٢٠ الذي تم فيه توقيع اتفاقيات
التطبيع فيه بين دول عربية (
الإمارات، البحرين، السودان، المغرب) أنه تم العمل على دعاية إعلامية موسعة من أجل تبرير عملية التطبيع، واستهدفت تلك الدعاية
الإعلامية عدة مستويات.
كان أول تلك المستويات هو المؤسسة الدينية التي تم توظيفها من أجل شرعنة التطبيع، وإظهاره بحكم الأمور التي يجب أن ينصاع عامة الشعب فيها لطاعة ولي الأمر. وفي أعقاب ذلك التيار الديني المبرر للتطبيع شهدنا سقوط شخصيات دينية معروفة في العالم الإسلامي في مستنقعه، فرأينا كيف تحولت تلك الشخصيات الدينية من محرّضة على الخلاص من الاحتلال إلى مسوغة لعمليات التطبيع ومبررة لها بلا هوادة.
أنشأت دول التطبيع ومنها الإمارات مؤسسات وظفتها خصيصاً من أجل نشر حالة تقبل لدولة الاحتلال تحت ذرائع واهية، فكان مجلس حكماء المسلمين ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة في أبو ظبي الذي ترأسه الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، ومارس المنتدى دوراً وظيفياً للمؤسسة السياسية، بحيث أصدر فتاوى تتماشى مع واقع التطبيع وتحرض الجماهير على طاعة ولي الأمر في مشروع التطبيع.
لم تكن المؤسسة الدينية وحدها شريكة للمؤسسة السياسية في تهيئة الأجواء العامة من أجل شرعنة وتمرير التطبيع كأنه إنجاز وطني لدولة الإمارات، فكانت المؤسسة الإعلامية التي تحوّلت أيضاً لناطقة بالمنطق الصهيوني والسردية الصهيونية بحق الاحتلال في فلسطين. ورأينا كيف تم توظيف قنوات مثل مجموعة أم بي سي والعربية وسكاي نيوز عربية من أجل تقديم تعبئة سياسية للجماهير تحرّضها على تقبل كيان الاحتلال كجزء من المنطقة العربية، وفي سبيل تلك الدعاية الصهيونية شهدنا تفوق تلك القنوات على القنوات
الإسرائيلية في الانحياز لرواية الاحتلال في كل المناسبات، وبخاصة في حرب غزة في أيار/ مايو لهذا العام.
لم تكن المؤسسة الإعلامية المرئية فقط شريكة لنظم التطبيع المتحالفة مع الاحتلال ضد حقوق الشعب الفلسطيني، وإنما ساندت أدوارها منصات التواصل الاجتماعي التي تم تكريس موارد كثيرة، وضُخت أموال فيها من أجل توظيف أصوات مأجورة (الذباب الإلكتروني) كي تشن حملة تخوين وهجوم على الشعب الفلسطيني ووصفه بالتخاذل، وتبع تلك الحملة الكثير من أصوات مشاهير الإعلام والفن والتمثيل والسياسية والرياضة الذين تربطهم علاقات منفعة مع النظام السياسي في الإمارات.
عززت المؤسسة التعليمية بجانب تلك المؤسسات حالة التجهيل بحقوق الشعب الفلسطيني، وتم تسويق الحق اليهودي في أرض فلسطين ضمن المناهج التعليمية، وطرح دولة فلسطين على أنها الأرض الممسوخة عن فلسطين التاريخية والمحدودة بالضفة الغربية وعاصمتها أبو ديس، كما انتشر في المناهج التعليمية في الإمارات العربية.
بعد المجهودات الهائلة التي بذلها محور التطبيع خلال أعوام عبر تلك المؤسسات، وبعد الضخ المالي الضخم في تلك المؤسسات من أجل إنتاج محتوى يخدم التطبيع ويقدم دولة الاحتلال على أنها جزء طبيعي من المنطقة، ورغم كل المجهودات التي خاضتها المؤسسة الدينية للتواطؤ مع الرواية الصهيونية، أتت عملية سيف القدس التي انطلقت على يد المقاومة الفلسطينية في غزة نصرة للأقصى في أيار/ مايو، لتقدم للجماهير العربية وللعالم شهادة حية ودرسا حيا عن ماهية دولة الاحتلال ومشروعها القائم على التمييز العرقي والفصل العنصري والديني.
منذ انطلاق المواجهات في القدس فيما عرف بهبة باب العامود في شهر رمضان، كذلك منذ انطلاق الحملة التي تهدف لمقاومة تهويد حي الشيخ جراح وبقية أحياء القدس المهدد أهلها بالطرد والمصادرة، انتشرت حالة فرز معمقة بين الجماهير، ساعدت حالة الفرز تلك بصقل الحقائق وتقديم الرواية الفلسطينية للعالم بشكل عفوي وغير مخطط له.
حالة الوضوح التي تجلت من حقيقة دولة الاحتلال وطبيعة مشروعها القائم على السرقة للمكان والتاريخ والزمان أحرجت المؤسسات الدينية والسياسية والإعلامية في دولة الإمارات العربية كما أحرجت الرواية الصهيونية الرسمية. فرغم وضوح الاصطفاف الشعبي للشعوب العربية في صف حقوق الشعب الفلسطيني وفي حين ساد الغضب بين الشعوب نصرة للأقصى، راحت المؤسسة الإعلامية الإماراتية تتمادى في حربها على الحق الفلسطيني وتنقل الرواية الصهيونية بالكامل، وتذيع كلمات ومقابلات شخصيات سياسية صهيونية في حين تتجاهل أي تصريح أو خطاب للجانب الفلسطيني.
بدا الفرق شاسعاً وواضحاً بين اتجاهات الشعوب التي غضبت لفلسطين وبين المؤسسة السياسية في دول التطبيع، لكن تلك الدول التي ارتبطت بعلاقات تحالف وعلاقات اقتصادية في مجالات تعتمد على الشراكة مع دولة الاحتلال بدت منسلخة عن واقع شعوبها ومستفزة لها، وبذلك فهي تعمل على تعميق الفجوة بينها وبين الشعوب، وتراكم الغضب الشعبي الذي سيصل لمرحلة لن تستطيع فيها المؤسسة السياسية قمعه بالتحايل الإعلامي والديني وضمن معركة تزييف الوعي.
أربكت معركة الوعي التي احتدمت في وسائل الإعلام العالمية وضمن وسائط التواصل الاجتماعي دولة الاحتلال بنفس القدر الذي أربكت فيه المؤسسات المأجورة لمحور التطبيع، وشهدنا على حالة نقلة نوعية رافعة لوعي الجيل الجديد بتاريخ القضية الفلسطينية، كذلك شهدنا على عملية إعادة المكانة الدينية للضمير الشعبي في الدول الإسلامية والعربية للمقدسات الإسلامية في القدس.
حالة الفرز تلك كذلك عمليات التوعية الدينية والأخلاقية والإنسانية والمعرفية بالقضية الفلسطينية انعكست سلباً على مجهودات محور التطبيع؛ الذي ظهر متورطاً بشكل مباشر في قمع حريات الشعب الفلسطيني وقمع روايته، فكان بذلك حليفاً مباشراً لدولة الاحتلال، في الوقت الذي انتشرت فيه السردية الفلسطينية بزخم غير مسبوق عالمياً إلى الحد الذي ذهبت معه الإدارات الإقليمية لوسائط التواصل الاجتماعي، كإنستغرام وفيسبوك، لتقييد المحتوى الفلسطيني بناء على طلب من المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية.
إن معركة استعادة الوعي بالحق الفلسطيني في الضمير العالمي لا يمكن الاستهانة بها ضمن أهم الانتصارات التي حققتها عملية سيف القدس، وهنا يأتي دور المؤسسة السياسية الفلسطينية للاستمرار في البناء على تلك الحالة ومراكمة المجهودات التوعوية من أجل دحض الرواية الصهيونية عالمياً، ومن أجل التحالف مع قوى التحرر العالمي التي تدعم حقوق الشعب الفلسطيني في نيله حريته وتفكيك نظام الاحتلال القائم على الفصل العنصري.
لا يمكن أن يقتصر البناء على حالة الوعي العام بالقضية الفلسطينية على المؤسسة السياسية والديبلوماسية الرسمية الفلسطينية فقط، وإنما المطلوب من الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده أن يساهم في تلك المعركة التي لا تكلفه سوى نشر الحقائق والانتهاكات التي يقترفها الاحتلال بحق الفلسطينيين. وهنا لا بد لفلسطينيي الشتات من المشاركة بالدور الأكبر في سبيل فضح ممارسات الاحتلال، وتعرية التواطؤ لدى حكومات دول كبرى ومؤسسات عالمية مع الاحتلال في حرب التطهير العرقي ضد الفلسطينيين.
بعد شيوع معسكر للتطبيع أصبح من الواضح أن الداعم المباشر للشعب الفلسطيني في نيله حقوقه لن يكون النظم السياسية التي تعاني من أمراض القمع والديكتاتورية إقليمياً أو عالمياً، وإنما سيكون حليف الشعب الفلسطيني هو الشعوب الحرة في المنطقة العربية والإسلامية والعالم، والشعب الفلسطيني المطلوب منه أن يكون المساند لتلك الشعوب في سعيها لنيل حريتها من القمع والديكتاتوريات في سبيله للتحالف مع أحرار تلك الشعوب والأمم من أجل انتزاعه حقوقه القانونية والسياسية الكاملة.