لعلَّ أكبر محرضٍ للشعب
الفلسطيني على الثورة وأكبر مانعٍ لنفوسهم من التأقلم هو طبيعة المشروع الاحتلاليِّ الصهيوني نفسه، فالفلسطينيون بشر ممن خلق، ومنهم، مثلَ كل مجتمع إنسانيّ، من يتعب من طول الطريق وبُعد الشُّقة فتكاد نفسه أن تهدأ وتبحث عن الراحة، لكنَّ المشروع الصهيوني يأبى إلا أن يكون منبه اليقظة ومفجِّر السكون.
ذلك أن المشروع الصهيوني الذي قام من أول يومٍ على التهجير والتطهير العرقي واقتراف المجازر لاقتلاع الشعب من أرضه وإحلال الغرباء محل السكان الأصليين؛ يتناقض بطبيعته مع القبول بالوجود الفلسطيني، مهما كان هذا الوجود منتقصاً ضعيفاً، فالوجود الفلسطيني هو نقيض للرواية الصهيونية التي أسِّست على كذبة "أرض بلا شعب".
بالتزامن مع هذه المواجهة حلَّت الذكرى السنوية الثالثة والسبعين لنكبة فلسطين في 15 أيار/ مايو 1948، وهو اليوم الذي يستذكر فيه الفلسطينيون تهجيرهم من بلداتهم وقراهم تحت ضغط عمليات التطهير العرقي ومئات المجازر وتدمير القرى؛ التي اقترفتها عصابات الحركة الصهيونية لإخلاء الأرض تمهيداً لإقامة دولة
إسرائيل.
النكبة ليست مجرد حدثٍ من الماضي يستعيد الناس ذكراه كل عام، بل هي نهج ثابت مستمر في الرؤية الاستراتيجية الصهيونية. ومنذ قيام كيان الاحتلال الاستعماري لا يزال يواصل سياسة توسيع الاستيطان وتهجير السكان ومحو الهوية الفلسطينية، وما كانت عوامل تفجُّر الجولة الراهنة إلا امتداداً لذلك النهج الصهيوني الاستراتيجي في إلغاء الوجود الفلسطيني.
النكبة ليست مجرد حدثٍ من الماضي يستعيد الناس ذكراه كل عام، بل هي نهج ثابت مستمر في الرؤية الاستراتيجية الصهيونية. ومنذ قيام كيان الاحتلال الاستعماري لا يزال يواصل سياسة توسيع الاستيطان وتهجير السكان ومحو الهوية الفلسطينية، وما كانت عوامل تفجُّر الجولة الراهنة
إن قضية الشيخ جراح التي يطرد فيها الفلسطينيون من مساكنهم وتمنح للمستعمرين اللصوص هي تلخيص مكثف لطبيعة المشروع الصهيوني الاستعماري، وكذلك تهويد مدينة
القدس ومخططات اقتحام المسجد الأقصى والسيطرة عليه والتضييق على الحضور الفلسطيني فيه؛ كل هذه الأفعال هي امتداد طبيعي يتناغم فيه السلوك الصهيوني مع المبادئ المؤسِّسة.
كما في كل محطات المواجهة بين أصحاب الأرض الأصليين والغازين المعتدين فقد تولَّدت مشاعر الغضب من الانتهاكات الصهيونية الجديدة، وبدأ التعبير عن الغضب باحتجاجات شعبية استمرَّت طوال شهر رمضان في مدينة القدس والمسجد الأقصى. وكان لافتاً في تلك الاحتجاجات الهتاف لحركة حماس في
غزة وقائد جناحها العسكري محمد ضيف ومطالبته بالردِّ على جرائم الاحتلال.
وبلغ غليان الغضب ذروته نهار الثامن والعشرين من رمضان مع اقتحام قوات الاحتلال المسجد الأقصى وإصابة مئات المعتكفين في داخله وتحطيم محتوياته، ثم تنظيم مسيرة الأعلام بمشاركة عشرات آلاف المستوطنين.. في ذلك اليوم دخلت كتائب القسام من غزة على خط المواجهة عبر إطلاق صواريخ على مدينة القدس المحتلة وأجبرت المستوطنين على الهروب وإنهاء مسيرة الأعلام.
وكان يبدو من بيان الناطق باسم الكتائب في ذلك الوقت أنه لا توجد رغبة في مواجهة طويلة المدى، إذ ختم البيان بعبارة "وإن عدتم عدنا وإن زدتم زدنا"، لكن ارتكاب طيران الاحتلال في ذلك اليوم (28 رمضان) مجزرةً بحق المدنيين خلال ساعة الإفطار ما أدى لاستشهاد 12 فلسطينياً بينهم أطفال؛ استدعى استمرار الرد الفلسطيني وتصاعد هذه الموجة.
دخلت غزة فصلاً جديداً من فصول المأساة ونزفت كثيراً من دماء أبنائها، وأوقع جيش الاحتلال في بنيانها ومرافقها الحيوية دماراً عظيماً، وهو ليس حدثاً جديداً في غزة وإن كان من الجريمة أن يتحول إلى واقع مألوف.
هذه الموجة من التصعيد كانت استجابةً للضغط الشعبي على المقاومة، لذلك فإن من اتخذ قرار المواجهة ليس حركة حماس بل الشعب نفسه، لذلك غاب أي صوت انتقاد للمقاومة
لكن ثمة ميزات لهذه الجولة تستحق أن نسلط الضوء عليها:
هذه الموجة من التصعيد كانت استجابةً للضغط الشعبي على
المقاومة، لذلك فإن من اتخذ قرار المواجهة ليس حركة حماس بل الشعب نفسه، لذلك غاب أي صوت انتقاد للمقاومة، وحتى أشد الناس عداوةً لحركة حماس لم يجرؤوا على تخطيء قرار تدخلها، على الأقل علناً في هذه المرحلة، لذلك كانت هناك حالة إجماع فريدة هذه المرة على المقاومة سبيلاً مشروعاً لمواجهة عدوان الاحتلال. وفي المثال الأكثر بروزا، ظهر ملثمون تابعون لحركة فتح في الضفة الغربية يهتفون لمحمد الضيف، القائد الرمزي لكتائب القسام.
في الاعتداءات الصهيونية الرئيسة الثلاثة السابقة على قطاع غزة (2008، 2012، 2014) كان التصعيد يبدأ من سبب يتعلق بقطاع غزة وينتهي العدوان بالتفاوض على مطالب تتعلق بالأوضاع في قطاع غزة، هذه ربما المرة الأولى والأشد وضوحاً منذ عام 2007 التي تدخل فيها غزة المواجهة لقضية وطنية بعيدة عن جدران غزة، وهي قضية القدس والمسجد الأقصى، وهو ما أعطى هذه المواجهة بعداً وطنياً مهماً، ومزعجاً للاحتلال الذي يرى بالتسليم في مطالب المقاومة كسراً لقواعد اللعبة السابقة وتقييداً لمخططاته العدوانية في بقية أرجاء فلسطين. لقد أرجعت المقاومة من خلال هذه الجولة المواجهة إلى مربعها الصحيح، وهو مربع مواجهة شاملة بين شعب واقع تحت الاحتلال وقوة احتلالية عدوانية، وبذلك حررت نفسها من المحاولات الصهيونية والإقليمية طوال السنوات الماضية التي سعت إلى تقزيمها تحت سقف غزة الضيق، وأرسلت المقاومة رسالةً مهمةً أنها مشروع وطني مبرر وجوده هو الاحتلال في كل أرجاء فلسطين.
"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون" لا شك أن غزة تتألم وتنزف، لكن في الجانب الآخر من الصورة فإن دولة الاحتلال قد أهين كبرياؤها ورغُم أنفها في التراب تحت ضربات المقاومة.
لقد مثلت المقاومة في غزة مثالاً ملهماً ليس للفلسطينيين وحدهم، بل للعرب والمسلمين وأحرار العالم الذين يتوقون إلى مثال عزة وكرامة يمحو الإرث الثقيل من الهزائم والخيبات والإحباطات التي تكبل نفوسهم، وهذا ما فعلته غزة بأدواتها المتواضعة. فقد شق مقاتلوها الصخر بحثاً عن أدوات المقاومة وهم في حالة حصار وتضييق وانقطاع عن العالم الخارجي، وطوَّروا بجهودهم الذاتية أسلحتهم التي أذلت كبرياء إسرائيل.
مشاهد الحرائق والهروب والرعب في تل أبيب مركز "كيان الاحتلال الاستعماري" تتجاوز النقاش في القدرة التدميرية للصواريخ وعدد الإصابات والقتلى الذي تلحقه. الصورة هي أكبر من كل ذلك، فهي تمريغ لكبرياء إسرائيل
قصف تل أبيب ليس حدثاً هيناً، "تل أبيب" الصنم الذي سحر أعين الناس واسترهبهم وأوهمهم بأنه أسطورة لا تقهر..
مشاهد الحرائق والهروب والرعب في تل أبيب مركز "كيان الاحتلال الاستعماري" تتجاوز النقاش في القدرة التدميرية للصواريخ وعدد الإصابات والقتلى الذي تلحقه. الصورة هي أكبر من كل ذلك، فهي تمريغ لكبرياء إسرائيل وتحطيم لأسطورتها المنيعة وإساءة لوجهها، وهي بشرى للتواقين من أجل الحرية بأن النصر ممكن.
كانت الأمة في حاجة ملحَّةٍ إلى هذا المشهد لتستعيد ثقتها بذاتها وليتبدَّد شعور الهزيمة والضعف في نفوس أبنائها، وهذا ما قدمته غزة إليهم بكل جراحها وأحزانها وحصارها.
من الميزات المهمة في هذه الجولة المشاركة الفاعلة لفلسطينيي الداخل، وهذا أمر عظيم أيضاً، لو استوى على سوقه فإنه يمثل خطراً وجودياً على كيان الاحتلال الاستعماري.
سعت إسرائيل منذ تأسيسها إلى نزع الهوية الفلسطينية عن الفلسطينيين داخل حدودها ومارست عليهم مشروع الأسرلة، وسنت قوانين تجرم إحياء ذكرى النكبة، لكن هؤلاء الفلسطينيين لم يتنكروا لجذورهم، ولم يستسلموا لتيار التعايش مع المحتل.
هذه المرة، وبالتزامن مع القدس وغزة انتفض فلسطينيو الداخل في اللد وعكا وحيفا وأم الفحم والنقب، وأنزل المتظاهرون العلم الإسرائيلي ورفعوا العلم الفلسطيني، وأحرقوا مراكز الشرطة وسياراتها واشتبكوا مع المستوطنين لصوص الأرض، ويوم الثلاثاء (18 أيار/ مايو) نظمت القوى الفلسطينية إضراباً شمل الشعب الفلسطيني من النهر إلى البحر، فانخرط فيه فلسطينيو الداخل وفلسطينيو الضفة والقدس، وهو حدث لافت وغير طبيعيٍّ في مرحلة ما بعد أوسلو التي أخرجت فلسطينيي الداخل من المعادلة واختزلت الوجود الفلسطيني في غزة والضفة وحسب.
مثلت المشاركة الفاعلة لفلسطينيي الداخل فشل مشروع أوسلو وذكَّر الفلسطينيين بوحدتهم النضالية، وقد كنا إلى عهد قريب نردد أسماءَ مثل اللد وحيفا وعكا في الأشعار والقصائد والذكريات الجميلة
مثلت المشاركة الفاعلة لفلسطينيي الداخل فشل مشروع أوسلو وذكَّر الفلسطينيين بوحدتهم النضالية، وقد كنا إلى عهد قريب نردد أسماءَ مثل اللد وحيفا وعكا في الأشعار والقصائد والذكريات الجميلة، لكن مشهد الأسابيع الأخيرة أخرج هذه الأسماء إلى حيز المشاركة النضالية الفاعلة.
ليس فلسطينيو الداخل وحسب، بل اللاجئون الفلسطينيون في الخارج شعروا أن هذه المعركة تخصُّهم، فتدفق آلاف المتظاهرين وتمكنوا من الوصول إلى الحدود الفاصلة مع فلسطين المحتلة في الأردن ولبنان، في رسالة قوية إلى مشروع الاحتلال أن مشكلته ليست بعض التوترات الأمنية مع غزة أو في القدس، بل إنه يواجه مأزقاً وجودياً اسمه الشعب الفلسطيني. هذه الدولة قامت منذ أول يوم على طرد شعب آخر وسرقة أرضه، وهي تعاند التاريخ عبثاً إذ تبحث عن الاستقرار وتطمح أن تكون دولةً طبيعيةً، لكن كيف لسارق أن يعيش حياةً طبيعيةً بينما صاحب البيت لم ينس حقه وهو يطوف حول بيته كل يوم!
أياً كانت مآلات الجولة الراهنة فقد فتحت نافذةً كبيرةً من الأمل للفلسطينيين وكل المؤمنين بعدالة قضيتهم.. لقد ذكرتهم بقوتهم ووحدتهم وألهبت فيهم مشاعر التحدي، ونبهتهم إلى هوان عدوهم وتصدع بيته وأن هزيمته ممكنة.
twitter.com/aburtema