هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "الحوار الإسلامي-المسيحي وإشكالية التواصل بين الجماعات الدينية"
الكاتب: علي بن مبارك
الناشر: مجمع الأطرش للكتاب المختص 2020.
عدد الصفحات: 246 صفحة
حدّد الباحث علي بن مبارك في الشطر الأول من الكتاب الإشكاليات التي تحف بالحوار الإسلامي- المسيحي وسياقه العام. أما في الشطر الثاني فحاول أن يسلط الضوء على حالات بعينها، فانطلق من ملتقيات تونس للحوار الإسلامي-المسيحي الخمسة التي نظّمها مركز الدراسات الاجتماعية والسياسية من 1974 إلى 1991 وأعمال فريق البحث الإسلامي المسيحي الممتدة بين سنتي 1976و2003 وندوة الزيتونة سنة 2002، وذلك حتى لا يبقى في حدود الخطاب النظري المتعالي أولا وحتى يبسط تجارب قليلا ما درست بحكم تركيز الباحثين على التجارب التي تمت في الشرق.
1 ـ من القضايا اللاهوتية إلى مشاغل الراهن
مثل هذا المبحث قسما وصفيّا توثيقيا عرض فيه أهم محاور هذه الملتقيات. فتعلّق بعض منها بالقضايا العقائدية الصرف أو ما اعتبره الباحث قضايا لاهوتية وكلامية مثل "قضايا الوحي والكتاب" أو "التوحيد والتثليث، تناقض أم تطابق" أو "معاني الوحي والتنزيل ومستوياتهما" أو "الكتب المقدسة التي تُسائلنا" أو "ثنائية الإيمان والعدل" أو "الخطيئة والمسؤولية الأخلاقية".
وكثيرا ما انفتح هذا الحوار على السياق الحضاري فطرح قضايا فكرية من خلفيات فلسفية معاصرة، فنُظم ملتقى بحث في "الضمير المسيحي والضمير الإسلامي في مواجهتهما لتحديات العصر" وآخر درس "الضمير الديني وحقوق الإنسان" وثالث درس "التعدد واللائكية".
وانفتح هذا الحوار على الهموم الاجتماعية والاقتصادية فتطرّق إلى مسألة "التسامح والعصبية الدينية" و"الدين والأخلاق والسياسة" وتناولت هذه المباحث قضايا فرعية شأن العلاقة بين الحوار الإسلامي المسيحي وصلته بالهويات الثقافية والدينية" و"رهانات المقدس في عصر المادة" و"مشاغل الإنسان المعاصر وقضايا التنمية ذات الصلة بالتزايد السكاني وتحديد النسل والتكنولوجيا والعولمة." فكان الباحث يعرض مواقف كل طرف في شكل مقارنة تبرز مواطن الاختلاف ومراتبه مبرزا تصورات كلّ طرف لقضاياه ومدى فهمه لطرح الطرف المقابل.
2 ـ استنتاجات على هامش هذا الحوار
يعني الحوار وفق تحديد الباحث التجاوب ومراجعة الكلام والمواقف في ضوء ما يفيد الآخر. ويقتضي استعداد المحاوِر لقبول الحقيقة وإن كانت على لسان المُحاوَر. ولهذا التحديد على بساطته تبعات جمّة أهمها التسليم بتعدد الحقائق التي تحدّدها مختلف العقائد، بما في ذلك الديانات غير التوحيدية. ويقتضي هذا التسليم القطع مع التعالي الديني والتفاعل الإيجابي مع الآخر للإفادة منه أو لتفهّم أطروحاته على الأقل.
ولكن الباحث ينتهي إلى الإحباط. فقد تبيّن أنّ أبعاد الحوار النظرية هذه لم تشغل المتحاورين، المسلمين خاصّة، وأنّهم ولجوا هذه الملتقيات عزّلا من كل تصورات واضحة ومالوا إلى الخطاب الوجداني الذي يكتفي بالسطوح من القضايا ويصدر عن مناهج تقليدية. وهو ما عمل فريق البحث الأكاديمي على تلافيه. ثم وُفقت ندوة الزيتونة التي بحثت في مستقبل الحوار بين الأديان (2003) في تجاوزه.
ولكن ذلك لم يحدث إلاّ بعد ثلاثة عقود من التخبّط. فقد كانت هذه الملتقيات ترى في نفسها همزة وصل لبناء إخاء وتفاهم بين الشعوب وتعمل على التقريب بين الأديان للرد على العلمانية الساذجة، بحسب عبد الوهاب بوحديبة المشرف على مركز الدراسات الاجتماعية والسياسية، ومقاومة هيمنة الفكر المادي. ثم نضج هذا الحوار أكثر مع فريق البحث المسيحي الإسلامي. فبيّن أن الحوار لا يهدف إلى تأسيس جبهة موحدة من المؤمنين التوحيديين ضد الملحدين أو أي طرف آخر ولا يعمل على إزالة الاختلافات بين المذاهب والطوائف أو تقليصها.
ولا يجعل للحوار هدف حمل الآخر على تبني أفكار المحاوِر، وهو ما يمثّل سعيا إلى "إخراجه من الملة" وإنما يسعى إلى الاعتراف به باعتباره مختلفا وإلى معرفة أسباب هذه الاختلافات وإلى وضعها في سياقها الثقافي والاجتماعي لفهمها ولتحديد سبل التعاطي معها. وفي معرفة الآخر محاولة لمعرفة الذات من خلال مقارنتها به وعمل على محاسبة النفس في ضوء هذه المعارف الجديدة. فخلّص هذه المنابر من البعد العاطفي لخطاب الملتقيات السابقة الذي كانت المجاملات تغلب عليه حينا وكان ينزع إلى الجدال المتشنج حينا آخر.
3 ـ معوقات الحوار
فضلا عن تلك الإشكالات النظرية التي حددها الشطر الأول من الأثر والتي رأى فيها عناصر معرقلة تحول دون تحقيق الحوار بين الأديان لمراميه، كشف التمعن في التجارب التونسية للحوار الإسلامي المسيحي للباحث عوائق أخرى قائمة في الإجراء والمعاملات. فكانت الأطراف المتحاورة تنزع إلى التمركز حول الذات والتعالي الديني وتظل خاضعة لما في الماضي من صدام. وقدّر أن هذه النزعة كانت تحول في أغلب الأحيان دون فهم الظاهرات الدينية حقّ الفهم.
وتوقف مرارا عند ما رآه غيابا للاستعداد الجيّد عند المتحاورين المسلمين خاصّة. فقد كشف له أداؤهم تعاملَهم بتراخ معه وعدم وعيهم بأهميته أو تسلحهم بثقافته. فوجد منطلقاتهم تقليدية تحصر الحقيقة في فرقة ناجية ولا تقول بالاختلاف والتنوع حتى أقر عبد الوهاب بوحديبة أنّ المسيحي يعرفنا أكثر مما نعرفه مفيدا من تقاليده الراسخة في مراكز البحث وعمل المستشرقين والخبراء ودربتهم على الحوار وتمرسهم بأخلاقياته وأقر محمد الطالبي أنّ هذا الحوار غير المتكافئ.
ويرد الباحث هذا التفاوت في الاستعداد إلى مراجعة الكنيسة لمصادراتها نتيجة لصراعها مع الفكر الإصلاحي وبحثها عن نقاط تقاطع مع العلمانيين وعناصر تواصل بين العلم والدين. وهي مراجعات عادت بالنفع على المجتمعات المسيحية التي أرست سلما الاجتماعية احتكرت فيها المؤسسة الدينية الخطاب الديني ولم يتح لغيرها التحدّث باسمه. فقد كان المشاركون المسيحيون يجمعون بين مقتضيات البحث العلمي والبعد الإيماني ويعمقون مباحثهم بالاستناد إلى علوم اللغة واللسانيات والعلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس وتاريخ الأديان، لفهم الظواهر.
ومع ذلك يلاحظ أن آداء الطرف الإسلامي كان يتدرج باستمرار نحو النضج ويتطور من ورقات فردية يغلب عليها الانطباع وتشتت موادها المعرفية تشتتا يفوّت على المسلمين الفرص المتعاقبة للتعريف بسماحة الديانة الإسلامية، إلى الانسجام في الفكرة ووضوح في المنهج وندية في التحاور.
4 ـ شروط لا بدّ منها لحوار مفيد
انطلاقا من هذه العينة عمل الباحث على تحديد الشروط الضرورية التي تكفل للحوار أن يحقق أهدافه. فيضع تخلص المتحاورين من التراكمات الفكرية التقليدية والتزوّد بآليات جديدة على المستوى المعرفي والنفسي والثقافي والمنهجي على رأسها. وذلك حتى لا تعيد هذه الملتقيات إنتاج التصورات القديمة البعيدة عن مقتضيات العصر وروحه. فأكد حاجة المتحاورين الملحّة إلى تعميق معارفهم العامة والدينية بقدر حاجتهم إلى التعرف على الآخر للتعاطي السليم معه وللتخلّص مما اعتبره عنصرية دينية ثقافية ناشئة عن الشعور بالتفوق الديني ومسببة للقطيعة بين الأطراف المتحاورة. كما لمس، على المستوى النفسي، حاجة ماسّة لتجاوز نظرية التآمر في دراسة الظواهر أو الأفكار، مشدّدا على ضرورة تمثيل مختلف المذاهب والطوائف من قبل مُقتدرين ضالعين في المعرفة.
فقد كشف له تتبع قوائم المشاركين في هذه الملتقيات أنّ الحوار كان، على الأصح، حوارا كاثوليكيا سنيّا. والأخطر أنّ هذه القوائم كادت تخلو من مسيحيي الشرق والحال أنّهم نجحوا إلى حدّ كبير في التعايش مع المسلمين وتفهّم حاجاتهم وأنّ بإمكانهم أن يمثلوا جسرا للتقارب بين الديانتين.
ويبدو علي بن مبارك متفاعلا أكثر مع الاتجاه الأكاديمي لهذا الحوار المتجسّد في أعمال فريق البحث المسيحي الإسلامي. فيراه أكثر صرامة في ضبط محاور البحث وفي التمييز بين المضامين الحقيقية التي تقوم عليها الأديان وبين الأساطير والتهويلات التي أضافتها المذاهب لاحقا. ومن وجوه هذه الصرامة اشتراط الفريق ألاّ يكون المتحاور ممثلا لجهة دينية أو سياسية محدّدة حتّى لا يتحول الحوار إلى مساجلات أو صراع بيانات أو استثمار شخصي. ويجد أن هذه الشروط تنسحب على مختلف تجارب الحوار المسيحي الإسلامي عامة لتشابه المسارات والمآلات.
5 ـ الحوار الإسلامي-المسيحي
بدا الباحث محبطا بشأن جدوى الحوار كما تحقّق في التجارب التونسية لما لمسه من نزعة إلى التقوقع على الذات ومن تعال على الآخر. فقد كان المتحاورون من يصادرون ضمنا على امتلاكهم، هم وحدهم، للحقيقة وعلى أن هذا "الآخر" ضال أو مخطئ في تصوراته في أحسن الأحوال. فخيّمت على هذا الحوار طبقات كثيفة من الشك وغاب منه حسن الظن بالآخر. فبعض المسيحيين يحوّلونه إلى شكل من أشكال التنصير.
وبالفعل، ففي رأي المستشرق مكسيم رودنسوف ما يبرر إحباط الباحث إذ يقول "الحركة العالمية للاتحاد الكنسي (المَسكونية) لم تتنازل عن موقفها بأنها المالكة الوحيدة للحقيقة كلها وأنه يتوجّبُ عليها أن تجلب الضالّين إليها ورغم ذلك فقد تخلتْ عن ممارسة الضغط الزائد في المجال الروحي واعترفتْ بأن أصحاب العقائد الأُخرى شُركاءٌ في الحوار ويمكن أن يتحّولوا إلى حُلفاء".
وبالمقابل يجد فيه بعض المسلمين مناورة مسيحية للحد من انتشار الإسلام كما جاء في مقالة د. حسام الدين على المجيد: الحوار الإسلامي المسيحي: قراءة في الماهية والأهداف، قسم السياسة بجامعة صلاح الدين ـ أربيل العراق، دراسة منشورة في مجلة أقواس، السليمانية، العدد4 ـ 2013. فيكشف الحفر في الطبقات العميقة لخطاب المتحاورين ظلالا كثيفة للصور التقليدية كما تحددت في المخيالين، وإلى لقاء بين "مسيحي ذمي وكافر محرّف للإنجيل ومستعمر صليبي" مع "مسلم عنيف همجي عدواني شبق". ولعلّ هذا ما يبرر عدم نجاعته في الحد من العنف الديني في المجتمعات وعدم نجاحه في إرساء ثقافة الحوار.
أما المحاورة من خارج المؤسسات الدينية فتكون غالبا من قبل أطراف رسمية متلهفة لاستثماره سياسيا أو أطراف أكاديمية جادة ولكن صوتها غير مسموع، على المدى القريب على الأقل. والحاصل تعددّ للملتقيات ومنابر الحوار يقابلها عجز عن التأثير في الواقع، فصوت الأكاديمي على أهميته يظل نخبويا لا يتيسر لغير المختصين ولا يخرج عن الصالونات وقاعات المحاضرات. فلا ينتشر بين الناس كفاية. والحال أن جدوى الحوار تتحقق فقط حين أن يتسلل إلى المعيش وإلى اليومي.
6 ـ الحوار الإسلامي-المسيحي.. وبعد؟
لقد كان الباحث يقارن باستمرار بين الطرفين الإسلامي والمسيحي فيلحّ على عدم التكافؤ بينهما ويرجح كفة الطرف المسيحي واسع الاطلاع ودقيق المنهج وعميق الدراسات والخبير بأدبيات الحوار الذي لا يسمح لغير المؤسسات الدينية بالكلام باسم الدين. ورغم الإقرار بأسبقية الأطراف الغربية لأسباب موضوعية، فإنّ شدة حماسة الباحث كشفت انبهاره بهذا الآخر انبهارا جرّده أحيانا من الموضوعية وحجب عنه الطبقات الخفية من التداخل بين السياسة والدين في ذهنه، بصرف النّظر عن ملابسات هذا الحوار. وتأثير الإنجيليين مثلا، أولئك الذين يعادون العرب ويبسطون سلطانهم على القرار السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية وفي فرنسا وفي غيرهما من الدول الغربية، في تصميم سياسات الغرب الكبرى خير دليل على هذا التداخل. ولعلّ عرضنا لفداحة الضرر الذي لحق العرب والمسلمين نتيجة لتقاطع الديني بالسياسي في سياسات جورج بوش الابن أو دوناد ترامب أن يكفينا مؤونة التفصيل.
إقرأ أيضا: الحوار الإسلامي ـ المسيحي أثقال الماضي وإشكاليات الراهن