أفكَار

المالكية بتونس.. أسباب التمكن والسيادة ومظاهر التمدد

أسهم المذهب المالكي في تكوين قامات معرفية وفي تأهيل القيادات وترسيخ وعيهم بالهوية الإسلامية- (الأناضول)
أسهم المذهب المالكي في تكوين قامات معرفية وفي تأهيل القيادات وترسيخ وعيهم بالهوية الإسلامية- (الأناضول)

لقد حدث اليوم ما يشبه التبادل التعاوني بين المذهب المالكي باعتباره حقلا دينيا والمجتمع التونسي باعتباره بيئة حاضنة. فقد وجد هذا الحقل فيها بيئة أرضية مساعدة مكنته من التطوّر والهيمنة حتى بات المذهب الرسمي والشعبي فأسهم علماؤها في ترسيخ مبادئه ومنحته نقطة ارتكاز لينطلق منها إلى مختلف الأصقاع. ومنحها هو بالمقابل انسجاما دينيا ووحدة مذهبية يسهمان في استقرارها السياسي والاجتماعي. 

ولا نحسب أن الأمر يقتصر على عنصر بعينه. فمن عوامل التمكن ما يتعلّق بالمادة الفقهية في حد ذاتها، بأصول أحكامها ومنهجها في الاستنباط وسماتها العامة التي جعلتها تختلف عن غيرها من المتون الفقهية. ومنها ما يتعلّق بخصائص المحيط الحاضن، ما تعلّق منه بالعناصر الحضارية المتغيّرة على المستوى السياسي والفكري والاجتماعي وما تعلّق بالسمات المميزة للشخصية الجماعية التي هي حاصل تفاعلات ثقافية بعيدة المدى بطيئة التطوّر تكاد تمثل عنصرا قارّا ثابتا أو شخصية نمطية. 

وتنشد ورقتنا هذه رصد وجوه من التفاعل بين العناصر وقد غدت أفريقية نقطة ارتكاز لتمدّد المذهب وانتشاره. وفي الآن ذاته تلقي نظرة سريعة عن تحديات الرّاهن وقد غدا الواقع أشبه برمال تتحرك تحت أقدام الجميع.

1 ـ من وجوه التفاعل بين الحقل الديني والفضاء الحاضن

لقد وجد فقهاء أفريقية في أصول المذهب مرونة في التعاطي مع قضايا الواقع واحتراما للفطرة البشرية، في بساطتها ووضوحها بعيدا عن التكلف أو التعقيد. فقوله بالمصالح المرسلة تجسيد لفهمه للشريعة باعتبارها جلبا للمصالح للناس ودرءا للمفاسد عنهم. ورغم أن القول بـ"عمل أهل المدينة" كان مسببا للجمود في أفضية حاضنة أخرى، فقد فهموا منه أنّ أهل المدينة كانوا، بحكم المعايشة، أقرب إلى النص القرآني وإلى الحديث النبوي. ووجدوا فيه دليلا على أخذ المذهب بالسياق الخارجي المتغيّر بتغبّر الظروف في سن أحكامه. أما انصرافه عن الجدل فكان يتماشى مع الشخصية النمطية في أفريقية التي تميل إلى الانسجام وترغب عن الجدل والصراع. 

ولابن خلدون تخريج فريد. فهو يجد تقاربا بين البيئة الحجازيّة والبيئة الأفريقيّة، يقول: "فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق. فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة. ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضّا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب"، ويلمع هنا إلى البيئة العراقية الأقرب إلى التمدّن والتحضّر وإلى الجدل وإعمال الرأي.

 

 

للقيروان المالكية كذلك، أثر غير مباشر في نهضة المغرب الأقصى فترة طويلة من الزمن. فقد تتلمذ على يد فقيهها أبي عمران الفاسي الذي استقر بها وتوفي فيها، رجلٌ سيكون له شأن في تاريخ الغرب الإسلامي ودور كبير في نشر الإسلام وشيوع المذهب المالكي في إفريقيا الغربية، وفي انتشال الأندلس من فوضى ملوك الطوائف، هو عبد الله ابن ياسين.

 

 


ولئن مال ابن خلدون إلى تنزيل سيادة المذهب في إفريقية ضمن البعد الذهني لأهلها، يبقى البعد النفسي الجماعي عاملا مهما في فهم علاقة أهلها برسوخه فيها. فالتاريخ يعلمنا بأن الإسلام لم يستقر في نفوس المغرب الأدنى إلا بعد بعثة عمر بن عبد العزيز إليه وإقامة التابعين في القيروان. فرمزية هؤلاء جعلت منها مدينة دينية سنية بشكل ما. فكانت القيروان وهي تنظر إلى المدن الإسلامية تجد صورتها في مرآة المدينة المنورة أكثر من أي حاضرة أخرى. وليست المدينة سوى عمران كامل يمثل فقه مالك أهم أنساقه الثقافية. 

ومن الأسباب ذات العمق النفسي التي غالبا ما يسكت عنها التأريخ للمذهب في هذه الربوع الجفوة بين الأهالي والسلطة الحاكمة. فقد مثلت الحنفية المذهب الرسمي لتونس زمن النفوذ العثماني بأشكاله المختلفة (1574- 1957) فكانت أقرب إلى الطبقة الارستقراطية وحالت دونها والوصول إلى الأهالي عوائق كثيرة، منها اللغوي فالفاعلون الدينيون كانوا من الأتراك الذين لا يحسنون اللسان العربي. ومنها ذلك التعالي الذي وسم البايات في تعاملهم مع الأهالي الأصليين ومع البدو خاصة. فكانت المالكية أقرب إلى مشاغلهم وأفهامهم ولغتهم.

لقد كان الوجدان متفاعلا مع المذهب المالكي وكان الموقف السياسي يخدم هذا المذهب دائما، سواء انتصر إليه أو جافاه. فبطش العبيديين زمن الدولة الفاطمية وإجبارهم للأهالي على التشيع بالقوة وانتصار الحفصيين إلى مذهب ابن تومرت أو العثمانيين إلى المذهب الحنفي، جعل في الانتماء إلى المالكية معارضة ضمنية وتعبيرا عن الرفض بطريقة غير مباشرة أو غير واعية. وكان ذلك يخدم المذهب ويقوي شوكته وقدرته على المنافسة كما أسلفنا الذّكر. وكلما هبت ريح السلطة لصالحه شاع وتمدد وأفاد منها. 

فقد تولى سحنون قضاء القيروان في الشطر الأول من القرن الثالث للهجرة. فحاصر المذاهب المنافسة وفرّق حلقاتها وأرسل القضاة المالكيين إلى الأصقاع. فبعث بسليمان بن عمران الحنفي المذهب قاضيا على باجة والأربس وبجاية ولم يوليه حتى امتحنه في مذهب مالك. فأصبح لا يقضي بحكم حتى يشاوره فيه. وأرسل يحي بن خلد السهمي من سنة 240 ه- 244 إلى منطقة الزاب لما كانت الدولة الأغلبية  إلى المغرب الأوسط فتصل إليها. وفي بداية القرن الخامس للهجرة لما تولى المعز بن باديس سنة 407هـ  وأعاد إفريقية إلى المذهب المالكي على المستوى الرسمي وجد تجاوبا كبيرا على المستوى الشعبي. فالأهالي كانوا قد حافظوا على انتمائهم المالكي وإن أظهروا للفاطميين تشيعهم لتجنب البطش والتنكيل.

2 ـ في تعاطي المذهب المالكي مع الشأن السياسي

يحتاج فهم تعاطي المذهب المالكي مع الشأن السياسي إلى دراسة متأنية تبحث في الأسباب العميقة من هذه العلاقة. ولكن يمكن أن نُرجع الأسباب القريبة، على الأقل، إلى موازنة المالكية بين مبدأ عدم الخروج عن الحاكم حَذَر الفتن ومبدإ الأمر المعروف والنهي عن المنكر. 

فوفق المبدإ الأول انشغل المالكيون بالحياة السياسية وعملوا على نصح الأمراء، دون أن يتورطوا في التبعية لهم تبعية مطلقة. ومن منطلق المبدإ الثاني لم يكونوا يترددون في نقدهم حين يجورون في أحكامهم أو يفرضون الجبايات المشطة، كما حدث في عصري الأغالبة، والفاطميين على سبيل المثال. وكان عدد منهم يرفض المناصب الوظيفية عملا باختيار مالك الذي كان يحافظ على مسافة أمان من السلطان، دون أن يجافيه. فرغب بعضهم عن تولي القضاء شأن الإمام ابن عرفة وقبِله بعض آخر بشروط شأن الإمامين سحنون وعيسى بن مسكين. 

ولعلّ الشيخ محمد الخضر حسين في العصر الحالي أن يكون أفضل نموذج للزيتوني الذي يرفض الانقياد للسلطة السياسية. فقد أدرك مشيخة الأزهر (1952 ـ  1371) ولكنه استقال من المنصب بعد سنتين احتجاجاً على إلغاء القضاء الشرعي ودمجه في القضاء المدني ورفضا للضغوط السياسية التي مورست عليه. ولعلّ عمقه الزيتوني كان حاسما في ذلك. فالرجل خرّيج الجامع المعمور ( 1316هـ ـ 1898م) وفيه ألقى دروسًا قبل هجرته إلى الشرق.

3 ـ أفريقية منطلقا لنشر المذهب المالكي

تقف المباحث كثيرا عند الإسهام المباشر لمدرسة إفريقية في نشر المذهب المالكي عبر التاريخ الإسلامي الطويل. وتشير إلى دور فقهائها في التأليف حفظا لمادة فقهه أو تطويرا لها شأن "المدونة" و"الرسالة". ومن تلامذة سحنون بالمغرب الأوسط تذكر المصادر عبد الملك الملشوني من إحدى قرى بسكرة وعبد الرحمان بكر بن حماد التاهرتي. وعن عبد الله أبي زيد تخرج العديد الفقهاء بالأخذ منه مباشرة بالقيروان أو بالأخذ عن أصحابة وأتباعه. 

ووصل تأثير هذه المدرسة إلى أفريقيا جنوب الصحراء، إلى مالي والنيجر والسنغال، أو ما كان يعرف ببلاد السودان الغربي في اصطلاح الجغرافيين القدامى. فقد كان للطرق التجارية الممتدة في الصحراء الكبرى بين شمال القارة وغربها أثر كبير في انتقال الفقهاء المالكيين وفي نشرهم للمذهب، بعد أن استقروا في المدن والمراكز التجارية. وغير ذلك مما تحفل به كتب التاريخ أو الفقه كثير. 

 

 

من جامعه المعمور بحاضرة تونس برز العلاّمة محمد الطاهر ين عاشور والشيخ عبد العزيز الثعالبي والمفكر الطاهر الحداد، وجميعهم كانوا من زعماء النهضة الفكرية والإصلاحية التونسية فرفعوا التحدي عاليا واتسم فكرهم بجرأة كبيرة في طرح قضايا الراهن من منظور ديني متفاعل مع سياقه رافض للجمود.

 

 



ولكنّ ورقتنا هذه تريد أن تسلط ضوءا على الأدوار غير المباشرة والبعيدة للمدرسة في نشر المذهب وستكتفي ببعض النماذج لطبيعة المقالة وسياقها. فنذكّر أولا بدور فاطمة بنت محمد الفهرية (أم البنين توفيت 255) حفيدة عقبة بن نافع التي هاجرت من القيروان لتستقر في مدينة فاس المغربية وفيها بنت جامع القرويين الشهير (جامع القيروانيين في الأصل) بإشراف السلطان يحيى بن إدريس الثاني وبتبنّ للمذهب المالكي، سنة 245هـ. فقد أرادته صدقة جارية تضطلع بدورين، ديني وتعليمي نظامي في الآن نفسه. فمثل على المستوى الروحي قبلة للعلماء المسلمين ومنارة أشعت على الغرب الإسلامي وأسهمت في نشر المذهب. وحاز قصب السبق في العلوم الدنيوية. فمنح أول إجازة في الطب عبر التاريخ. وباتت التصنيفات اليوم تعتبره أقدم الجامعات في العالم. 

وللقيروان المالكية كذلك، أثر غير مباشر في نهضة المغرب الأقصى فترة طويلة من الزمن. فقد تتلمذ على يد فقيهها أبي عمران الفاسي الذي استقر بها وتوفي فيها، رجلٌ سيكون له شأن في تاريخ الغرب الإسلامي ودور كبير في نشر الإسلام وشيوع المذهب المالكي في إفريقيا الغربية، وفي انتشال الأندلس من فوضى ملوك الطوائف، هو عبد الله ابن ياسين. وليس هذا الرجل غير سليل المدرسة المالكية القيروانية والزعيم الديني لدولة المرابطين. فقد أشار معلمه أبو عمران على الزعيم الصنهاجي يحي بن إبراهيم  به لما زاره في مجلسه بالقيروان يسأل رفقة فقيه إلى الصحراء لتعليم أهلها أصول المذهب المالكي. وكانت تلك الرحلة منطلق تأسيس دولة المرابطين التي امتدت من الصحراء الكبرى إلى تخوم تلمسان إلى جنوب القارة الأوروبية وحاولت منع سقوط الأندلس أو أخّرته على الأقل. 

وكان للغزو الهلالي تأثير عميق على الحياة العلمية في القيروان إثر انفصال الدولة الصنهاجية عن الدولة الفاطمية الشيعية، فقد تولى المعز بن باديس السلطة صبيا، واعتنق المذهب المالكي بتوجيه من وزير أبيه فأعلن تبعيته للخلافة العباسية والدعاء لها على منابر مساجد إفريقية، وهذا ما منح المذهب المالكي الأسبقية على المذهب الحنفي، وقد ظلاّ متنافسين منذ مال أسد بن الفرات إلى أهل الرأي وعارض سحنون أسديته بـ"المدونة" وانتزع منها بريقها. 

ولم يكن بوسع الفاطميين بالقاهرة إثناء الأمير الشاب على تمرّده. فسلطوا على أفريقية قبائل بني هلال ليتخلصوا من بطشهم أولا وللانتقام من الدولة الصنهاجية ثانيا. فدخلوا القيروان و"خربوا عمرانها ومبانيها، وعاثوا في محاسنها، وطمسوا معالمها، وجردوا قصورها مما كانت تحتويه من روائع وتحف، فتفرق أهلها في الأقطار" أو " تركوها قاعا صفصفا، أفقر من بلاد الجن، وأوحش من جوف العير، وغوروا المياه، واحتطبوا الشجر، وأظهروا في الأرض الفساد" وفق ابن خلدون. ومن نكسة القيروان هذه استفادت البيئات الدينية والثقافية المجاورة. فهاجر علماء كثر، وخبت أنوار كثيرة في المدينة. ولكن بريقها ومض في الأقاصي، هناك في صقلية وفي المغرب الأوسط أو هنالك في المغرب الأقصى وفي الأندلس.

4 ـ المذهب المالكي بفريقية مجد الأمس وتحديات الرّاهن

لقد كانت مسيرة المذهب المالكي بإفريقية مظفرة وكان دوره في المجتمع رائدا. ففضلا عن الدور التعليمي أو اضطلاعه بمهمتي الفتوى والقضاء أسهم المذهب في تكوين قامات في المعارف المختلفة وفي تأهيل القيادات وترسيخ وعيهم بالهوية الإسلامية. ولنذكّر بتاريخه القريب، فمن جامعه المعمور بحاضرة تونس برز العلاّمة محمد الطاهر ين عاشور والشيخ عبد العزيز الثعالبي والمفكر الطاهر الحداد، وجميعهم كانوا من زعماء النهضة الفكرية والإصلاحية التونسية فرفعوا التحدي عاليا واتسم فكرهم بجرأة كبيرة في طرح قضايا الراهن من منظور ديني متفاعل مع سياقه رافض للجمود.

 

أما اليوم فتحدي مسايرة التطور وضمان السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي يبدو أكبر في ظل نزعة المجتمع المتسارعة نحو التصورات المدنية من ناحية وفي ظل ظهور مذاهب منغلقة مناوئة للتصور المالكي الزيتوني ومعولة على خطاب عاطفي يستهدف محدودي الثقافة الدينية، ويدفعهم إلى رفع السلاح في وجه الدولة والمجتمع من ناحية أخرى.

 

إقرأ أيضا: في سمات المذهب المالكي المميزة وخصائص المحيط الحاضن

 

إقرأ أيضا: طريق التمكين والسيادة للمذهب المالكي في تونس

 

إقرأ أيضا: المذهب المالكي في تونس مدرسة تحلّق بجناحين


التعليقات (0)