هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
صوتت فرنسا على قانون قرار يمنع الفتيات المسلمات تحت سن ١٨ وأمهاتهن اللواتي يرافقنهن في الرحلات المدرسية؛ من ارتداء الحجاب والسباحة في المسابح بزي بوركيني.
تعتبر مظاهر هذا القانون بحظر ارتداء الحجاب والحملات التي رافقته من أبرز المظاهر التي تشكل علاقة الجمهورية الفرنسية المتوترة بالزي الإسلامي وأبرز ملامحه الحجاب، حيث اكتسبت هذه الحملات تفشياً مستمراً منذ أحداث ١١ أيلول/ سبتمبر عام ٢٠٠١.
أتى قانون حظر الفتيات من ارتداء الحجاب وفق عدة محرضات قادت لتغيير صيغة القانون عشرات المرات، وأتت أحكام ذلك القانون في الوقت الذي حذرت فيه منظمات حقوق الإنسان من القانون المعدل الذي صوتت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية، والذي وصفته بأنه يستهدف المسلمين وينتهك حقوق الإنسان.
يذكر أنه من أهم المحرضات على هذا القانون:
أولاً: الإسلاموفوبيا:
الخوف والرعب الذي يصل حد الوبائي من الدين الإسلامي وكافة مظاهره، وانطلقت أول شرارة لهذا الخوف عام ١٠٩٥ م على يد البابا أوربان الثاني الذي عزز فكرة الخوف من الإسلام والمسلمين، واستغلها للدعوة والتحريض على الحملات الصليبية للقضاء على المسلمين.
بعد سقوط الأندلس عام ١٤٩٢ دخلت معاداة الإسلام مرحلة جديدة، حيث حرم الإسلام على المسلمين، وانتشرت تسمية الظاهرة بالإسلاموفوبيا عند علماء الاجتماع الفرنسيين عام ١٩١٠، حيث وثقوا ضمن المصطلح أن المسلم كان العدو الطبيعي للأوروبيين حينها. وبعد نحو ١٠٠ عام ما زال المسلمون داخل أوروبا يشهدون حملات مماثلة بتحريض من مؤسسات وجهات كثيرة.
المحرض الثاني: المؤسسة السياسية الرئاسية والأحزاب اليمينية المتطرفة:
هاجم الرئيس الفرنسي ماكرون الإسلام في أكثر من مناسبة، واستفز مشاعر المسلمين بالتضييق على ملايين المسلمين المواطنين في الأراضي الفرنسية. وبرر تلك التصريحات والسياسات والقرارات بأنها لمحاربة ما سماه بالانفصال الشعوري عن الدولة الفرنسية، وبذلك يداعب مشاعر اليمين الفرنسي المتطرف الذي يكره الهجرة والمسلمين بالتحديد.
وبذلك مثلت تصريحات ماكرون المتكررة حول الإسلام تصريحات شعبوية حصدت تعاطف اليمين المتطرف وأنصاره معه، وكلما توجهت له الانتقادات بإدارته للأزمات الداخلية والخارجية خرج على الجمهور الفرنسي صارفاً الأنظار عبر الإسلاموفوبيا، كمخرج شعبوي له من انتقادات الجماهير وكنوع من صرف الرأي العام عن الأداء الذي يحكم سياساته تجاه الأزمات المتعاقبة في الجمهورية الفرنسية، ومن أهمها إدارة أزمة وباء كورونا.
تضاف إلى التصريحات الشعبوية للرئيس ماكرون حول الإسلام مسألة تنافس الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا وأوروبا عموماً على استحداث خطاب كراهية تجاه المهاجرين والمسلمين منهم بالتحديد، فراحت تلك الأشكال تتطور لتشمل كل ما يعبر عن مظاهر الدين الإسلامي، لتعرض أصحاب تلك المظاهر لحالة من التمييز ضمن وجودهم في الفضاء العام والخاص. وأشد تلك المظاهر التي تمت محاربتها وشن حملات عليها هي الحجاب كمظهر من مظاهر الزي الإسلامي.
المحرض الثالث: تمثل بالمنصات الرقمية ووسائل الإعلام:
شهدت صفحات التواصل الاجتماعي حملات كراهية وخطاب تحريضي واسع ضد النساء اللواتي يظهرن بمظاهر دينية ومنها الحجاب، وروجت لذلك الخطاب التحريضي القاعدة الشعبية الواسعة لليمين الأوروبي المتطرف. وهذا واضح على صفحات تلك الأحزاب التي تغذيها حملات تشويه الحجاب ومظاهر الدين الإسلامي، بالإضافة لوسائل الإعلام التي استغلت حوادث إرهابية من أجل منحها الهوية الإسلامية، وترديد خطاب الرعب من الإسلام والمسلمين ونسبة أعمال الإرهاب والعنف لهم.
يستطيع المتابع للتصريحات في أعقاب الأعمال الإرهابية ملاحظة مسارعة أطراف بمطالبة المسلمين بنفي التهمة عنهم، كأنهم مطلوب منهم أن يستنكروها ويشجبوها، كل منهم بشكل شخصي، كما لو أن تلك الافعال تمثل دينهم بل وتتجاوز الإشارة لهم بتلك الأفعال كأنها تمثل كل واحد منهم شخصياً.
المحرض الرابع: العلمانيون من أصول عربية إسلامية:
مشكلة من يدعون الفهم العلماني لمهام الدولة ومن يدعون انتماءهم للتيار العلماني في دول تشهد حملات تشويه لمهام الدولة الديمقراطية العلمانية، أيضاً في محاولتها أن تفرض سلطتها وتدخلها في الأديان بضغط من نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة، وبخاصة أولئك العرب الذين ينتمون لأصول ثقافية عربية إسلامية ويميلون لإثبات أنهم ملكيون أكثر من الملك، وهذا يجرهم للتمادي والوقوف في صفوف الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تحارب الحجاب وتنطلق من الإسلاموفوبيا في رسم الرأي العام والسياسات.
التحالف مع أشد أذرع اليمين الشعبوي تطرفاً من أجل تفريغ أحقادهم على مظاهر معينة كالحجاب؛ يعكس ترسبات اجتماعية مرضية وشعور بأنهم حملة ثقافة أدنى. الأمر ليس موقفا فكريا أو حرا بمقدار ما هو عبودية لسيد المنزل الأبيض، مع محاولة تأدية فروض التعصب لرؤيته وقيمه التي ينطلق بها من منطلق عنصري وإلغائي.
يتذرع هؤلاء مع أطراف الحملات التشويهية بأن هذا القانون يأتي من أجل منع انتهاك حقوق المرأة وأشكال التمييز ضدها، في الوقت الذي تعاني فيه المرأة المسلمة من تمييز مضاعف لثلاث مرات عن النساء الأخريات في المجتمع، وذلك لأنها امرأة أولاً، وثانياً لأنها مسلمة، وثالثاً لأنها أقلية. فحظر الأمهات المحجبات من المشاركة في الرحلات المدرسية وغيرها من مظاهر الحظر لهن في المؤسسات الخاصة والعامة؛ لا يمكن فهمه خارج إطار التمييز الجنسي ضد المرأة والتمييز الديني، ومحاولات محو وجود المرأة المسلمة من الفضاء العام.
المتأمل بمقولة أن حظر الحجاب من أجل حماية المرأة من أشكال التمييز ضدها، يتساءل عن مدى انشغال تلك الحكومات الليبرالية التي تريد فرض ثقافة السوق بالقوة على كافة أفراد مجتمعاتها بأشكال التمييز ضد النساء اللواتي يتم توظيفهن كأداة دعائية وإعلانية عن تلك الثقافة. وكيف يمكن فهم محاربة حرية المرأة بتقرير لباسها الخاص كحماية لها من أشكال التمييز ضدها؟
في سياق الترويج للقانون على أنه حمائي ومهموم بالانتهاكات ضد حقوق النساء، تكفي مراقبة الانتهاكات الحقوقية الإنسانية للعاملات في أسواق العبودية الجنسية تحت مظلة تلك الدول وقوانينها لفهم الادعاء بالقول بحقوق المرأة وحمايتها ضد أشكال التمييز. فالدول التي تحارب الحجاب مثلها مثل الدول التي تحارب من أجل فرضه بالقوة مشغولة في تحويل جسد المراة لواجهة إعلانية لأسواقها.
في كتاب سيسيل لابورد المعنون بـ"دين الليبرالية"، تبرهن الكاتبة البريطانية على أن الدولة لا يمكن أن تكون محايدة، ولا يمكن لليبرالية أن تكون الموقف المحايد السليم حين يتعلق الأمر بتدخل الدولة بالأديان بشكل مباشر عبر مؤسساتها. وتجادل الكاتبة بأن الليبرالية تحولت إلى موقف موازٍ للأديان، وبأنها أصبحت دينا له معابده وكهنته ومؤسساته. وفي هذا الكتاب ما يوضح تحيزات الليبرالية حين صنعها القوانين التي تعالج الأديان في المجتمعات.
انتشر تقرير لمجلس حقوق الإنسان في هيئة الأمم المتحدة تحدث عن التمثيل السلبي واسع الانتشار للإسلام والخوف من المسلمين بشكل عام. وأشار التقرير إلى أن السياسات الأمنية وسياسات مكافحة الإرهاب عملت على إقرار وتطبيع التمييز والعداء والعنف اتجاه المسلمين في مجتمعاتهم. استشهد التقرير بمسوحات أوروبية في عامي ٢٠١٨ و ٢٠١٩، تظهر أن ٣٧ في المئة في المتوسط من السكان لديهم آراء غير مواتية تجاه المسلمين، كذلك ما نسبته ٣٠ في المئة من الأمريكيين الذين شملهم الاستطلاع.
لا يمكن فهم هذا القرار الفرنسي بحظر الحجاب إلا من منطلق سيطرة الدولة على الدين وتأزيم علاقة مؤسسات الدولة بشريحة واسعة من مواطنيها. ومحاولات تبرير القرار بعلمانية وليبرالية الدولة يتنافى مع الفهم النظري العلماني لطبيعة الدولة العلمانية، ففرنسا ليست علمانية صرفة بهذا القرار وإنما تجنح للتطرف بالتدخل في نظام حياة الناس ومعتقداتهم. فالعلمانية لا تعني العداء للأديان ولرموزها الدينية في الدول التي تحترم توجهها العلماني، وتمارسه فقط بفصل السياسة عن المؤسسة الدينية. ولكن عداء الحجاب والإسلاموفوبيا يتغذى على التطرف والعنصرية، وهذا تعدٍ على حقوق الإنسان ولا يمكننا وصفه بأنه موقف الوسطيين أيضاً. القرار يمنع الأمهات المحجبات من المشاركة في النشاطات الرياضية لأطفالهن أو دخول المدارس بالحجاب، وهذا فعل عنصري وقوننة لسلب الحريات، ودعوة صريحة للتطرف وعدم التسامح مع شريحة واسعة من المسلمين في فرنسا.
إن ستة ملايين مسلم مكون كبير في المجتمع الفرنسي، ومهمة الدولة احتواء مكوناتها وفرض سلمية التعايش بالقانون؛ لأن الدولة تمثل القوة الموضوعية لمواطنيها طالما هم جزء منها ويدفعون ضرائب لها ويمارسون واجباتهم في نطاقها، حينها مهمتها حماية حقوقهم الإنسانية والمدنية كافة وعدم التعدي عليها بفرض رؤية عنصرية بالقانون، الحديث من أطراف العلمانية والأحزاب المتطرفة عن تعايش المسلم مع قانون عنصري يتنافى مع مهام المواطن بالكفاح لأجل انتزاع حقوقه الإنسانية ضمن مجاله الاجتماعي والسياسي، ومن ينادي بفرض ترتيبات معينة على المسلمين واستضعافهم في مجالهم العام لا يدرك حجم الكراهية التي يحضرها في نطاق المجتمع الذي يقوم على التعدد العرقي والديني.
الجو العام مشحون بالكراهية والإسلاموفوبيا وفق تحذيرات الأمم المتحدة، ومهمة الدولة أن تحمي مواطنيها وتجتهد لضمان حرياتهم لا استضعافهم.