أخطر ما فعله عبد الفتاح
السيسي أنه ألقى في روعنا أن السد الإثيوبي قدر، ومن ثم فإن النقاش يدور - فقط - حول تداعياته، بهدف التقليل من آثاره، وخسرنا بذلك الحق في عدم بناء أي سدود تمنع من تدفق
المياه، وأن تجري في أعنّتها من دول المنبع لدول المصب!
فليس من حق إثيوبيا بناء السد ابتداء، بأي شكل كان، ولو كان من أجل تخزين برميل من المياه، وذلك بموجب معاهدة 1902، ولأنها كانت تدرك أن
مصر مركزها قوي، فقد كانت فكرة السد تدور دائماً حول بناء سد صغير، فجاء السيسي على قدر، فتشيد إثيوبيا بموافقته الخطية سداً كبيراً - غير ما كانت تسعى إليه - يتسع لحصتي دولتي المصب، ثم يقول هل من مزيد؟!
المعاهدة المذكورة وقعت في أديس أبابا في 15 أيار/ مايو 1902، إبان الاحتلال الإنجليزي لمصر، فكانت لهذا بين بريطانيا والإمبراطورية الإثيوبية، لترسيم الحدود بينها وبين السودان، وتم تبادل وثائق التصديق عليها في 28 تشرين الأول/ أكتوبر من نفس العام!
وقد تعهد إمبراطور إثيوبيا منليك الثاني في هذه الاتفاقية بألا يصدر تعليمات أو أن يسمح بإصدار تعليمات في ما يتعلق (بعمل شيء) بالنيل الأزرق أو بحيرة تانا أو نهر السوباط؛ يمكن أن يسبب اعتراض سريان مياهها إلى
النيل ما لم توافق على ذلك حكومة بريطانيا وحكومة السودان مقدماً.
وقد قال الجانب الإثيوبي وزاد في أن هذه الاتفاقية لا تلزمه بشيء لأنها وقعت مع محتل، لكن الرد على هذا كان سهلاً طوال الوقت، ففضلاً عن أن هذه الاتفاقية سارية بقوة بنودها وديباجتها، فإنها في الوقت ذاته ملزمة بموجب القانون الدولي، لأنه في حالة إنكار كل ما فعله الاحتلال الأجنبي فسوف تسقط فكرة الحدود، ومن بينها الحدود الإثيوبية نفسها، لأن من وضعها هو هذا المحتل، ولولا ذلك لظلت الأرض التي بني عليها السد مصرية، كما تقول وثائق رسمية! وقد نصت معاهدة 1902 على وجوب الالتزام بها من قبل الطرفين (وورثتهما) والذين يخلفونهما على العرش!
الاحتلال يحافظ على مياه النيل:
ومن عجب أن الاحتلال الإنجليزي كان حريصاً على ضمان الحفاظ على حصة مصر من مياه النيل، في حين أن "الحكم الوطني"، نتاج "بيت الوطنية المصرية"، هو من فرط في هذه الاتفاقية، التي كان يمكن أن تمثل مرجعية في الاحتكام إليها، لا سيما إذا علمنا أن القانون الدولي يعاني فراغاً تشريعياً في ما يختص بالأنهار الدولية من التعامل مع الحقوق المائية، حيث ينصب اهتمامه على تنظيم الملاحة وليس على تقسيم المياه!
وهذا الفراغ ما يجعل الدول تحتكم إلى مثل هذه المعاهدات الإقليمية، لأن الفراغ التشريعي أوجد رؤية بائسة، تدور حول حق دول منابع الأنهار في التصرف في هذه المياه تصرف المالك في ما يملك. وهي وإن كانت رؤية ضمن رؤى أخرى مخالفة لها، فإنها تظل موضوع نقاش، ويمكن التمسك بها عند التحكيم، وإن كانت وثيقة الصلة بالتدخل الغربي في السابق، في تأكيد حق الأقليات في الانفصال عن الدول الوطنية، في المرحلة التالية لمرحلة سايكس وبيكو، وهي المرحلة التي يطلق عليها تقسيم المقسم، وتفتيت المفتت!
بيد أن هذه الرؤية تراجعت، بعد أن بدأت دعوات الانفصال تغزو الغرب ذاته. وفي كثير من الدول توجد هذه النزعات، ورأينا كيف أن الغرب غض الطرف عن ردة فعل السلطة الوطنية على هذه الدعوة في إسبانيا، رغم أنها استندت إلى استفتاء شرعي!
الأمر نفسه سيحكم عملية الأنهار، فالكثير منها يربط عدداً من الدول الغربية، وبالتالي فإن نظرية حقوق الملكية المنفردة لدول المنبع لا يمكن اعتمادها، لأن دولاً كثيرة ستضرر منها!
وهناك من يرون بعدم وجود فراغ تشريعي مع وجود هذه المعاهدات الإقليمية، وكانت مصر تملك في التعامل مع إثيوبيا معاهدة قوية، قام السيسي بتبديدها، ثم ذهب يشكو التعنت الإثيوبي، فكان بذلك كمن بدد ما في يده بحثاً عما في جيبه، ليكتشف في الوقت الضائع أنه لا شيء في سيالته، ويضعنا بالتوقيع على اتفاقية المبادئ أمام حاضر أسود، ومستقبل أكثر سوداً.
على طريق القضية الفلسطينية:
وعندما يجري الحديث عن العدل، وباعتبار حق إثيوبيا في بناء سدها من أجل التنمية، فان الحق في يد مصر كان ينبغي أن يجعلها تركن إليه، فلا يكون هناك أي بناء إلا باتفاق يجعل يدها هي العليا، وليس مثل هذا الوضع المزري التي هي عليه الآن. ثم عن أي عدل يتحدثون، والنيل الأزرق لا يربط فقط بين إثيوبيا وكل من السودان ومصر، ولكنه يربط بين إحدى عشر دولة، فماذا لو فكرت بعض هذه الدول في إقامة سدود من أجل التنمية، ومن باب المعاملة بالمثل؟ ماذا في يد مصر أن تفعل، وقد وقّع السيسي على اتفاقية تؤكد هذا الحق لإثيوبيا؟!
الحقيقة أنه لن يتوقف تحقيق الضرر على بناء سدود أخرى، فالضرر واقع ببناء السد الإثيوبي وحده، والذي جعله واقعاً هو الجنرال، القادم من بيت الوطنية، وهو تصرف لم يقدم عليه محتل، مثل الاحتلال الإنجليزي أو الفرنسي، أو يقدم عليه حاكم وافدا مثل محمد علي، ولم يحدث هذا التفريط في عهود المماليك، والعثمانيين، والفاطميين، وفي ظل أي نظام لم يكن منتمياً للتراب الوطني، بل إن هذه الأنظمة كانت ترى أن تمام الأهلية للحكم لا يكون إلا بتأمين وصول مياه النيل!
بيد أن الجنرال القادم من بيت الوطنية المصرية، بدد معاهدة وقعها المحتل الإنجليزي، وأعطى موافقة مصر على بناء السد، ثم اندفع يتحدث عن التداعيات، باعتبار أن بناء السد قدر، ليكون التعامل شبيها بالقضية الفلسطينية، عندما كانت هزيمة حزيران/ يونيو 1967 على يد البطل المغوار؛ سبباً في تقلص المطالب وتواضع الآمال، فبدلاً من فلسطين من النهر إلى البحر، صار غاية المنى العودة إلى حدود حزيران/ يونيو 1967، وكذلك موضوع السد!
فقد كانت مصر ترفض بناء أي سدود، وكان هذا هو الموقف المبدئي، لكن بسبب اتفاقية المبادئ أصبح السد أمراً واقعاً، ثم جرى الحديث عن مواصفاته وسعته، والمشاركة عبر شركات يتفق عليها للتأكد من سلامة البناء، فالبناء أسقط كل هذا ليكون الحديث فقط عن سنوات الملء.
ويبدد عبد الفتاح السيسي ست سنوات من المفاوضات الفاشلة، كما لو كان يخدم المصالح الإثيوبية، ويعطيهم المزيد من الوقت للانتهاء من مهمتهم. ولا يقولن أحد إن المخاطر كانت غائبة عن باله، فكان توقيعه على الاتفاق الجريمة، فقد أعلن وهو يتحدث عن خطته العبقرية لبناء قناة السويس الجديدة، أنه بحاجة لمائة مليار جنيه لبناء محطات لمعالجة مياه الصرف، ثم إنه بعد سنوات من ذلك سألنا: ألا تعرفون أن هناك سداً يبنى؟ مما يحتاج معه لبناء محطات تحلية ومعالجة، ويبرر بهذا التذكير بمنع زراعات معينة مثل الأزر!
ثم ها هي وزارة الإسكان تعلن قبل أيام (24 نيسان/ أبريل) أنها تنفذ 151 محطة معالجة ثنائية وثلاثية للصرف الصحي في المحافظات والمدن الجديد، بتكلفة 31.59 مليار جنيه، وذلك بخلاف 59 محطة معالجة تم الانتهاء من تنفيذها بمحافظات الصعيد، وجارٍ تنفيذ 14 محطة لتحلية مياه البحر بتكلفة 9.71 مليار جنيه في عدد من المحافظات، من المقرر الانتهاء منها في 30 حزيران/ يونيو 2022، بخلاف 76 محطة قائمة لتحليه مياه البحر.
فالسيسي يدرك أنه فرط في مياه النيل، وكل ما يفعله الآن هو ليبدو أمام الرأي العام أنه فعل ما عليه.
لقد فعل ما عليه فعلا، لكن ليس لمصلحة مصر ولكن لصالح إثيوبيا، فليشكروه!
twitter.com/selimazouz1