آراء ثقافية

"عربي21" تحاور الروائية التونسية "أميرة غنيم"

غنيم عبرت عن سعادتها الكبيرة  بوصول "نازلة دار الأكابر" إلى القائمة القصيرة لأهمّ جائزة عربيّة في الرواية- تويتر
غنيم عبرت عن سعادتها الكبيرة بوصول "نازلة دار الأكابر" إلى القائمة القصيرة لأهمّ جائزة عربيّة في الرواية- تويتر

- "الطريق لا تزال طويلة لافتكاك الموقع اللائق بالمرأة العربية المبدعة.."


- أتيت إلى عالم الكتابة بشكل عفوي دون تخطيط مسبق..


- مَواطن من نص رواية "نازلة دار الأكابر" أسالت دموعي عند كتابتها..


- هذا مشروعي القادم..


تقول "أنا أكتب لأحياء" وفي كتابتها حياة لشخوص كنا نعتقد في وفاتها.. تحرّك شخوصها بعبقريّة اللسانية التي لا تُعجزها لغةٌ. 


هي ذي أميرة غنيم بروايتها "نازلة دار الأكابر" التي تجاوزت طبعتها السادسة خلال أقل من سنة من إصدارها، هي الرواية الحدث التي يتفق حول جماليتها شكلا ومضمونا كل القراء، وهي الرّواية التونسية التي نجدها ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية.

 

تتقاسم أميرة غنيم مع قرائها تفاصيل تسردها، فترسم من خلالها ملامح عالم إبداعي يتمازج فيه التخييلي والواقعي فيظل القارئ معلقا بين منطق العالم ومنطق الروائية المتفردة حتى تكون مؤهلة لواحدة من أهم الجوائز الروائية العربية..


صحيفة "عربي21" تسللت إلى عالم أميرة غنيم، مكتبتها، لتسرد تجربتها في مقابلة حصرية تسمح بالكشف عن تفاصيل من فصول إبداعها وكذلك عن ذوقها وتذوقها لفن الكتابة..


في هذه المقابلة تنقلنا بين تجربتها مع رواية "نازلة دار الأكابر"، وبين مشاريعها المستقبلية، بين فلسفتها اليومية وبين تطلّع الأديبة التي تسكنها للعالمية، بين نظرتها المتفائلة لموقع المرأة العربية في المشهد الثقافي وبين تطلعها إلى ما هو أكبر..

ماذا يعني الترشح ضمن القائمة القصيرة للبوكر؟ وماذا تعني لك جائزة البوكر؟


سعادتي عظيمة، ولا شكّ، بوصول "نازلة دار الأكابر" إلى القائمة القصيرة لأهمّ جائزة عربيّة في الرواية. فبسبب قيمة الجائزة ومكانتها الأدبيّة، يقبل القرّاء على روايات قوائمها القصيرة فتحظى بشهرة وانتشار قلّما تحظى بهما روايات فائزة بجوائز أدبيّة أخرى، وليس أحبّ إلى الكاتب من وصول نصّه إلى القرّاء.

 

أمّا عن جائزة البوكر في ذاتها فأظنّها حلم كلّ روائيّ لا يريد لنصّه أن يُعرف في العالم العربيّ فحسب وإنّما يشتهي له أن ينحو نحوَ العالميّة بفضل ما يتيحه الفوز بهذه الجائزة المرموقة من فرص الترجمة إلى الألسن الأجنبيّة.

"نازلة دار الأكابر" تعتبر المنعرج الحقيقي في مسيرتك الأدبية، لماذا "نازلة دار الأكابر" هي التي نجحت في أن تقول أميرة غنيم؟

في الواقع، لا يمكن بهذا التاريخ أن نتحدّث عن مسيرة أدبيّة إلّا على وجه المجاز. فـ"نازلة دار الأكابر" هي أوّل عمل ينشر لي في جنس الرواية، وإن كان تأليفه مسبوقا في الزمان بنصّ روائيّ آخر عنوانه "الملفّ الأصفر".

 

هذا العمل البكر، كنت قد أنهيتُ مخطوطه قبل ستّ سنوات، وفاز في مفتتح السنة المنقضية بإحدى جوائز الشيخ راشد بن حمد الشرقيّ للإبداع في فرع الرواية غير المنشورة، غير أنّه لم يزل حتّى اليوم في أرشيف مؤسسة الجائزة ينتظر النشر كسائر الأعمال الفائزة التي يقتضي فوزها بجائزة راشد أن يتنازل أصحابها عن حقوق نشر المخطوط الفائز.

 

وقد اعتذرت مؤسسة الجائزة عن تأخّر النشر بتداعيات كورونا ووعدت بأن تبدأ في إصدار الأعمال بتاريخ الشهر الثالث من هذا العام ونأمل أن تفيَ بوعدها فلا تُحتجز الأعمال الفائزة أكثر من هذا. وعندها يمكن ربّما أن نتحدّث عن مسيرة أدبيّة لأميرة غنيم ونقيّم محطّاتها. 

"نازلة دار الأكابر" ماذا أخفت فيها أميرة غنيم؟


الرواية بحثٌ عن الجذور المنسيّة وتفتيشٌ في أسرار السلالة التي حرص الأفراد على إخفائها جيلا بعد جيل، تقوم استعاريّا على مفهوم قتل الأب للاضطلاع بالمصير والمصالحة مع شرور الماضي وأهواله. السرد فيها نبش في التاريخ الأسريّ والمُجتمعيّ والوطنيّ أيضًا، يقصد أن يهتك الحُجب ويكشف المستور.

 

فصولها تحفر أخاديد عميقة في أرض متحرّكة زلقة يلتبس فيها التاريخيّ بالخياليّ، فلست تدري إن كنت تقرأ أحداثا قد وقعت فعلا في التاريخ المرجعيّ أم إنّها صنيعة مخيّلة الراوي.

 

تضعنا الرواية أمام سؤال الهويّة، تحتفي بمآثرنا وتحتفل بتفاصيلنا المحليّة الجميلة ولكنّها أيضا تعرّي مثالبنا وتكشف عيوبنا ومخازينا.

 

الحقيقة فيها تُبنى على نحو فُسيفُسائيٍّ متدرّجٍ في خضمّ صراعات قيميّة أخلاقيّة عنيفة ينقلها السرد بحيادٍ بفضل تعدّد المنظورات، فإذا القارئ شريك في بناء الحقيقة كما يتأوّلها، حقيقة نسبيّة رجراجة غير يقينيّة كأنّها دعوة للنظر والاعتبار.

هل في نظرك نجحت المرأة العربية في التموقع أدبيا؟


إذا أخذنا في اعتبارنا عدد النصوص التي نشرتها النساء خلال العقدين الأخيرين وقارنّاه بأرقام القرن الماضي أمكننا أن نلاحظ وفرةً غير مسبوقة في الإنتاج الأدبيّ الذي تكتبه المرأة العربيّة.

 

ويُردّ ذلك في اعتقادي إلى أسباب موضوعيّة تقنيّة متّصلة بسهولة النشر في الأعوام الأخيرة قياسا لما كان عليه الأمر في الماضي، وأسباب أخرى موضوعيّة اجتماعيّة على علاقة بتحسّن وضعيّة المرأة في المجتمعات العربيّة الحديثة وانعتاقها تدريجيّا من سيطرة الفكر الذكوريّ الذي غالبا ما كان يحصرها في أدوار نمطيّة ليست الكتابة الإبداعيّة من ضمنها.

 

خلال السنوات الأخيرة تغيّرت مؤشّرات تمكين النساء نحو الأفضل وظهرت بالتوازي مع ذلك أسماء نسائيّة جديدة أغنت بنصوصها الجيّدة الساحة الأدبيّة.

 

من هذه الجهة يمكننا أن نقول بشيء من الثقة: نعم، غنمت المرأة العربيّة موقعا متميّزا في المشهد الثقافيّ.

 

ولكن إذا اعتبرنا الجوائز الأدبيّة مثلا صورة صادقة عن حقيقة التموقع الأدبيّ للنساء كانت الحصيلة مخيّبة للآمال.

 

فإذا قرأنا نتائج جائزة البوكر على سبيل المثال أحصينا 12 تتويجا رجاليّا مقابل تتويجين فقط للنساء أحدهما لهدى بركات والآخر لرجا عالم مناصفة مع محمّد الأشعريّ، أي بنسبةٍ لا تتجاوز السُدس، وفي هذا ما يدلّ على أنّ الطريق ما تزال طويلة لافتكاك الموقع اللائق بالمرأة العربيّة المبدعة.

يثار جدل دائم حول الكتابة بالعامية هل انت مع أو ضد ولماذا؟

لا أتعامل مع المسائل الذوقيّة بمنطق المساندة أو المعارضة. ولكن عن نفسي، أنا لا أقرأ بالدارجات ولا يخطر ببالي مطلقا أن أقتني كتابا مكتوبا بالدارجة التونسيّة ولا بغيرها من الدارجات العربيّة إلّا إذا وفّر الناشر مع الكتاب قارئا آليّا "يُسمعني" الكتاب كما لو أنّه حكاية شفويّة.

 

أطربُ لسماع الدّارجة الأصيلة الخالية من شوائب "الفرنسة"، تلك الدارجة التي تتكلّمها الجدّات بعذوبة لا حدّ لها، أو تلك التي كان المرحوم "عبد العزيز العروي" الصحفيّ والإذاعيّ التونسيّ، يصنعُ بها حكاياته المذهلة، وأرى أنّ الدارجة، كما يدلّ عليه اسمها، جعلت لتكون دارجة بين الناس أي شفويّة، ولا شيء عندي يبرّر تحوّلها إلى المكتوب. غير أنّ في الأمر جانبا أخطر من أهواء الأذواق.

 

فالكتابة بالدارجة ليست أمرا جديدا ولها جذور ايديولوجيّة متّصلة بالموقف من القوميّة العربيّة وبالنزعات الانفصاليّة للأقليّات اللغويّة. ومن هذه الجهة، أرى التنكّب عن العربيّة الرسميّة، بوصفها العروة الجامعة للشعوب العربيّة، وتشجيع الكتابة بالدارجة بتوفير المنابر الداعية إليها وتخصيص الجوائز لها، مسألة محتاجة إلى نقاشٍ هادئ ورصين يوازن بين الآراء ولا يغفل عن سؤال جوهريّ هو التالي: في الوقت الذي تخوض فيه الألسنة الأكثر قوّة في العالم صراعا عنيفا للحفاظ على مواقعها الاستراتيجيّة في الخارطة اللغويّة العالميّة، من المستفيد من تفتيت العربيّة الرسميّة القويّة بعدد الناطقين بها إلى دارجاتٍ ضعيفةٍ تستعمل مكتوبة في الأدب والإعلام المرئيّ؟

هل لك طقوس محددة في الكتابة؟

لا طقوس لي ما عدا تفضيل الهدوء والعزلة عند الكتابة مثل معظم الناس، فليس لي حظّ الكتّاب الذين يكتبون في كلّ مكان وينقطعون عن العالم كلّما أمسكوا بأقلامهم وانغمسوا في دفاترهم.

 

والواقع أنّي ما عدت أستخدم الأقلام ولا الدفاتر، فقد عوّدني البحث الجامعيّ على استخدام لوحة المفاتيح. وكلّما خلوتُ إلى حاسوبي وخيّم من حولي الهدوء كان الوقتُ مناسبا للكتابة.  

والذي لا يعرفه القارئ العربي عن أميرة غنيم؟


أنا بنتُ المدرسة التونسيّة من مواليد 1978، خرّيجة دار المعلّمين العليا بتونس، وحاصلة على التبريز في اللغة العربيّة وآدابها، وعلى الدكتوراه في اللسانيّات. أدرّس اللسانيّات والنحو القديم وعلوم الدلالة في جامعة سوسة بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة منذ أكثر من عشرين عاما، وأمارس الترجمة المختصّة.

 

أشتغل حاليّا بالبحث الدلاليّ في إطار النظريّة العرفانيّة، وصدر لي كتابٌ بعنوان "المزج التصوريّ: النظريّة وتطبيقاتها العربيّة" (منشورات مسكلياني)، فضلا عن مقالات بالعربيّة والإنجليزيّة في نفس الاختصاص.

 

وأتولّى منذ سنوات الكتابة العامّة لجمعيّة المبدعات العربيّات بسوسة، وهي جمعيّة تنظّم سنويّا، منذ حوالي ربع قرن، مؤتمرا ثقافيّا علميّا مخصّصا للإبداعات النسويّة في مجالات الأدب والفنون المختلفة وتستضيف له أعلامَ المبدعات في الوطن العربيّ. وخارج الإطار الرسميّ أنا أمّ لمُراهقيْن وصبيّةٍ في العاشرة، أحبّ السفر في الإطار الأسريّ وأعشق المطاعم الشعبيّة والجبن الفرنسيّ. 

كيف أتيت إلى عالم الكتابة؟


أتيتُ بشكل عفويّ دون تخطيط مسبق. وأغلب الظنّ أنّي أتيتُ على جناح القراءة التي تقتطع يوميّا جزءا مهمّا من وقتي وذاك منذ أيّام الصبا المبكّر.

 

بدأتُ بكتابة البحث العلميّ والمقال الصحفيّ ولم أحسب أن يأتي يوم أكتب فيه ضمن جنس آخر، حتّى بدأت أقرأ لبعض الأسماء الأكاديميّة المعروفة في تونس نصوصا روائيّة بديعة حرّرتني من وهم الانفصال الصارم بين الشخصيّة العلميّة والشخصيّة الأدبيّة. كتبتُ روايتي الأولى بنفسيّةِ مَن يريد أن يثبت لنفسه أنّه قادر على اجتراح الأدب قدرته على إنتاج العلم.

 

وحين فرغتُ منها جبُنت عن نشرها فظلّت محبوسة في ذاكرة حاسوبي حوالي خمسة أعوام إلى أن خطر لي أن أشارك بالمخطوط في جائزة راشد للإبداع، وكنتُ في الأثناء قد كتبتُ "نازلة دار الأكابر" التي كانت ستلقى أغلب الظنّ مصير سابقتها في الحبس، لولا أنّ إحراز الأولى على الجائزة منحني شيئا من الثقة شجّعتني على نشر الثانية التي تنافس اليوم على البوكر. 

لماذا تكتب أميرة غنيم؟

أكتبُ لأحيا. أكتبُ بطموحِ مَن يصدّق أنّه إذا كتب ثمّ مات لا يموت إلّا قليلا. فالكتابة أثرٌ، وكلّ من خلّف أثرًا ضمنَ أنّه لا يتلاشى تماما. إنّها الترياق اللازم الذي يضمن به الكائن المرصود للزوال الحتميّ أنّه لا يضمحلّ كـأن لم يكن. 

هل يوجد في نظرك أدب مجنس يعني: أدب لبناني، تونسي، مصري، الخ..؟

أعتقد أنّ النسبة الأصدق التي تُلحق بالأدب وتعرّفه هي اللغة التي يكتب بها. فبعد أن مرّ الزمان الذي يمحو دوريّا التقسيمات الجغراسياسيّة التقليديّة، هل يخطر ببال أحد أن يقول اليوم عن شعر المتنبي إنّه شعر عراقيّ؟ أو عن شعر أبي فراس الحمدانيّ إنّه شعر سوريّ؟ أو عن شعر علي الحصريّ إنّه شعر تونسيّ؟ ليس المنتج الإبداعيّ لهؤلاء الشعراء وغيرهم من الكتّاب، متى وُزن بميزان التاريخ الذي لا يحتفظ إلّا بالجوهر، إلّا أدبا عربيّا أغنى الحضارة العربيّة.

 

ولكن، ما من شكّ في أنّ كلّ إبداع موسوم حتما بميسم البيئة التي أنشأته، ولذلك لم نعدم في تاريخ النقد الأدبيّ تمييزات قطريّة، لعلّ أشهرها تمييز الأدب الأندلسيّ من غيره من الأدب بالنظر إلى خصوصيّات بيئته المختلفة تماما، بترفها ولونها المناخيّ وطابعها الثقافيّ، عن البيئة العربيّة في البصرة وبغداد وحلب وأفريقيا، مثلا.

 

وهذا ينطبق دون شكّ على ما نعيشه اليوم من خصوصيّات محليّة تتمايز فيها الأقطار العربيّة، ويُرى لها أثر في المواضيع المطروقة وفي طرائق بناء العوالم المتخيّلة.

 

من هذه الجهة، يمكننا فعلا التمييز بين أدبٍ تونسيّ وأدب لبنانيّ ومصريّ وسعوديّ وعراقيّ وغير ذلك، طالما كان في النصوص احتفاء بالمحليّة وحرص على إظهار خصوصيّات الهويّة القطريّة. لكنّ ما يبقى بعد دورة الزمان هو الأدب العربيّ بوصفه جزءا أساسيّا من الأدب الإنسانيّ. 

ماهو مشروعك القادم؟ 

أشتغل حاليّا على رواية جديدة أواصل فيها مشروعي في كتابة التاريخ النفسيّ وغير الرسميّ لشخصيّات مرجعيّة تركت أثرا في الذاكرة الجمعيّة. رواية أجرّب فيها بنية سرديّة جديدة مختلفة عن بنية "نازلة دار الأكابر". 


التعليقات (1)
sandokan
السبت، 24-04-2021 11:46 م
'' The Father '' فيلم الأب : الشيخوخة وحزن التناهي – سالم بارباع وها أنا لا أفهم حتى قوة ذاكرتي، إذْ إني دون الذاكرة لا أقدر أن أسمي حتى نفسي ذاتها(..) عظيمة هي قوة الذاكرة! » – القديس أوغستينوس «إن كل ألم غير معروف الأسباب غيرُ موجود الشفاء » – الكندي : حينما يشيخ المرء، وتشيخ ذاكرته؛ تلك إذًا قصة أنتوني (أنتوني هوبكنز)، الذي يبلغ من العمر ثمانين عامًا، ويعاني من فقدان الذاكرة، أو بالأصح من ذكرياته التي ترحل مثل ابنته آن (أوليفيا كولمان)؛ فمن هو أنتوني الذي تتآكل ذاكرته وذكرياته كل يوم؟ ومن هو حينما لا يبقى له أحد سوى ذاكرته المعطوبة؟ وفي الأخير حينما يفقد الذين شاركهم الذكرى أو ينساهم ماذا سيتبقى له؟ إنني أقرأ الفيلم تأمليًّا لا فنيًّا، حيث أن الفلسفة تعلمت منذُ مدة كيف تفكر مع السينما؛ على إثر ذلك سأبدأ بالتركيز على ما يمكن أن نتعلمه فلسفيًّا من الفيلم. يشير بول ريكور في كتابه الذاكرة، التاريخ، النسيان من أن ثيمة الذاكرة لا تستنفذ من طرف الطب والعلوم الطبيعية؛ وهذا ما نجح فيه صناع الفيلم حينما لم يركزوا كثيرًا على الجانب الطبي، حتى أن المصطلحات الطبية الدالة على المرض لم تذكر إلا لمامًا، فموضوع الفيلم هو المسنّ المصاب بذاكرة عشوائية وكيف هو في يوميّاته حينما يستذكر نفسه وأحواله بطريقة مضطربة. لنقر أولًا أن لكل واحد منا في ذاكرته ضرب من الديمومة العفوية، التي تعدل بين الذكرى والنسيان، يسميها ريكور «المعجزة الصغيرة» التي للذاكرة. وأهم ما ندين لها به هو المقدرة على أن نبدأ مرةً أخرى، فيكون الفعل له قابلية الاستذكار المنتظم والعفوي، وعند الانقضاء نستطيع استعادتها لكي نقول بأننا «نتذكر»؛ تلك المعجزة مثل كل ما هو بشري قابلُ للخراب. هذا هو حال أنتوني؛ تشير حنة آرندت في الوضع البشري بأن الإنسان موجود لا لكي يموت فقط، بل «يجدد»، وهذا بدوره يحتاج إلى ذاكرة منتظمة لا مضطربة. يشعر آنتوني بأن هنالك مؤامرة ما تحاك ضده، لترحيله إلى «دار رعاية المسنين»، إن العذاب الذي يعيشه مريض قصور الذاكرة هو اللبس بأن الآخرين الذين شاركوا معه الذكريات، يستعملون المرض ضده؛ ومن الناحية الأخرى نجد زوج آن يقول لآنتوني: «أشعر بأنك تفعل ذلك عمدًا»، فالإشكالية الآن كيف يتحقق ويتعرف الإنسان إلى من لا يستطيع أن يتذكره؟ مَن سينساه في كل مرة؟ إلا أن أنتوني في حدود ماشهدناه يمتلك نوعًا من الوفاء للذين معه، فهو بشكل مفاجئ يقول لآن: «شكرًا لكِ على كل شيء». في خضم موت ذكرياته هو يشكر ابنته لأن الشكر اعتراف بالجميل، وعرفان لا يستطيع حتى الفقدان الذكرياتي أن يطويه أبدًا. يعيش أنتوني «حزن تناهيه» أي؛ أن الشيخوخة تضعف ذاكرته، وذكرياته تتآكل، يفيض عن اليوم الذي يعيش فيه «ماذا سيحل بي؟»، الموت الذي يقترب منه، أحوال الشيخوخة التي تنحت لمن يعيش ثمانين حولًا حزنها وكآبتها، وكذلك سعادتها، لكن ليس مع آنتوني. مع مرور الفيلم يدرك المشاهد أن آنتوني لا محالة سيفشل في الاعتناء بـنفسه؛ بما أن ديمومة الذاكرة وحدها تعطي الإنسان النور للفعل في الحياة اليومية. ضمن الفقرة (41) من الكينونة والزمان نقرأ شيئًا من قبيل أن «الكائن الإنساني (ضاسيين) في ماهيته هو عناية»، أي؛ يسلك سلوك المعتني بنفسه كل يوم، في ضروب تترواح بين رعاية الآخرين والانشغال ببقية الأدوات التي تحيط به، من العناية تفتسل أنماط أخرى مثل الإرادة التي هي عناية نحو النفس والآخر والعالم. إذًا، كيف يعتني من يفقد ذاكرته بـنفسه؟ وإذا ما كانت العناية تعطي المعنى لأفعالنا اليومية فأي معنى للذي يفقد ذاكرته؟ سنجد الجواب في طيات الكتاب، فالشيء الذي يكون بلا معنى هو المحال عينه؛ إلا أن إمكانية أن يصاب الإنسان بشيخوخة في ذاكرته ممكنة بالنسبة الى كل فرد، فإن آنتوني قد سقط من معظم تحليلات الفلاسفة مثله مثل كل ما يطلق عليهم «مرضى». مرض فقدان الذاكرة هو نوع من المحال إلا أنه شديد الحدوث، ومن شدته لم يعد ينتج بحسب أنتوني (المصاب به) إلا «اللا معنى» (نونسينسي). الآن أود أن توجّه إلى المشهد الأخير، وأن نسمع كلمات آنتوني الأخيرة: «أشعر بأني أفقد أوراقي! الأغصان، والرياح والمطر… لا أدري ما الذي يحصل….كل ما أعرفه أن ساعتي على معصمي…» هنا تبلغ مفارقة مرض فقدان الذاكرة الذروة؛ بما أن الذاكرة مضطربة وفي مراحلها الأخيرة، فإن الوعد بأن الغد أفضل، وأن من الممكن المضي قدمًا وكأن الأمس مجرد خبر لكان، غير ممكن، بما أن اليوم لا وجود له والأمس والغد هما أيضًا لا يدركان، فهو (آنتوني) يفهم الزمن لا كخط أو دورة زمنية ولا كإمكان لفعل جديد، بل كساعته المفقودة حينما لا يدري أين وضعها، ومتى أضاعها. هو عالق في أخدود ذاكرته ولن يعرف متى زمنه، وأين مكانه. حاله من حال القديس أوغستينوس الذي يبدأ اعترافاته حول الذاكرة بإعجاب «في بلاط ذاكرتي الفسيح» لينتهي إلى «أصبحت لنفسي أرض عسر وعرق مفرطين». فيلم الأب هو البحث لا عن الذاكرة المفقودة فقط؛ بل عن المسن أيضًا حينما يصاب بداء تستحيل معها أيّ بداية جديدة أو نهاية سعيدة. ختامًا: بين آنتوني وآنتوني هوبكنز في إحدى اللقطات نجد آنتوني يجيب عن تاريخ ميلاده (31 ديسمبر عام 1937)، وهو عيْن تاريخ ميلاد آنتوني هوبكنز. يأتي الفيلم كتتويج لشيخوخته، وتكريمًا لكل أبناء جيله الذين يهرمون معه. فهو بهذا الأداء تملّك بشكل أصيل (بالمعنى التأويلي) أتعاب كل من يعاني من فقدان الذاكرة وضياع الذكريات، هو أداء يحمل في طياته واجب الذكرى حيث أن الجميع (شبانًا وكهولًا) ستكون فضيلتهم الوحيدة أنهم «كانوا هنا ذات مرة في العالم»، وبغيابهم لن يبقى لهم سوى من سيتذكرهم كقريب، أو صديق، أو محب، فكلٌ بـذاكرة الاخر رهين. هذه الذاكرة لها ضرب من التباين والمفارقة اختصرها ريكور وهو يكاد أن يبلغ سنه التسعين «لقد قيل بلؤم بأن المسنين يملكون ذكريات أكثر من الشبان، ولكن عندهم ذاكرة أقل!». وفي الأخير، في علم الأخلاق يحاجج أرسطو بأن الإنسان يحتاج إلى الصديق لكي يجبر نقصه، حيث أن الصديق هو ذاتٌ أخرى للإنسان نفسه؛ وتلك الغيرية التي يحملها كل شخص هي تتمثل في ذاكرته التي تتضمن على كل وجوده. وجود آنتوني(الأب) متضمن سلفًا في ذاكرة آنتوني هوبكنز لا كخيال، بل كصديق وآخر، استحق ذلك التجسيد الأدائي المتمثل في تمثيل آنتوني هوبكنز؛ ذلك التناص بين الخيالي والواقعي هو فرادة أن يملك الإنسان ذاكرة.