مرة أخرى فعلها
السيسي: تردد فجود فحيرة. كانت جملة معبرة، جامعة مانعة كما يقولون: "البيانات والمعلومات كنز يا جماعة، كنز"، ثم ذهب إلى التجويد، منبها سلفا: وحقول (سأقول) تعبير صعب: عورة.
كان الرئيس السيسي يتحدث يوم الأربعاء الماضي في افتتاح "مجمع الوثائق المؤمنة والذكية"، الذي وُصف إعلاميا بأنه "أحد الصروح التكنولوجية العملاقة بالمنطقة"، وهو المجمع الذي وصفه في أربعاء سابق (31 تموز/ يوليو 2019) بأنه "عقل الدولة". ومن هنا تأتي المفارقة، وهي مفارقة لغوية ودينية، وبالمجمل ثقافية، لأنها متصلة بآليات التفكير وبالبلاغة ومخزون المعرفة، وإن كانت ستفضي بالضرورة إلى سياسات.
مراد السيسي - في الغالب - استدعاء الوازع الأخلاقي والديني، والإشارة إلى مدى عظمة المنجز الجاري تدشينه. وهكذا تأتي العناوين: "عقل الدولة لمنظومة الرقمنة مؤمن ومدفون على عمق 14 مترا"، وما يحتويه عورات.
من بين مواد "عقل" هناك ما يصلح لذلك المجمع، ففعل "عَقَلَ" يأتي بمعنى: "عَقَلَ الدَّابَّةَ: ضَمَّ رُسْغَهَا إِلَى عَضُدِهَا وَرَبَطَهُمَا مَعاً بِالعِقَالِ لِتَبْقَى بَارِكَةً"، وهناك مقارب لها: "عَقَلَ خَصْمَهُ: لَوَى رِجْلَهُ عَلَى رِجْلِهِ وَأَوْقَعَهُ عَلَى الأَرْضِ"، و"عَقَلَ إِليه عَقْلاً وعُقُولاً: لجأَ وتحصَّنَ". أما الاسم "العَقْلُ" فهو يفيد: "الحصن، والملجأ". والأقرب هو تعبير "عقلٌ الكترونيّ: حاسب آليّ/ جهاز الكترونيّ يشتمل على مجموعة من الآلات تنوب عن الدِّماغ البشريّ في حلّ أعقد العمليّات الحسابيّة".
عقل الدولة، إذا هنا، لا يفيد معنى العقل الذي يقابل "الغريزة التي لا اختيار لها"، أو "ما يكون به التفكيرُ والاستدلالُ وتركيبُ التصوُّرات والتصديقات"، أو "ما به يتميز الحسَنُ من القبيح، والخيرُ من الشر، والحق من الباطل".
هكذا يكون مفهوما أن "عقل الدولة" هو: حصن ملجأ، مجموعة آلات. وأن الموضوع متعلق بكيفية إدارته، وتشغيله والاستفادة منه، وربما قبل كل هذا: السيطرة عليه وحيازته.
من هنا تأتي أهمية وخطورة "التجويدة"، الصعبة، حقا:
المعلومات عورة، فلأنها ملتصقة بالمجال الأخلاقي والديني فلا مفر من محاولة تحريرها منه، والذهاب إلى مكامنها في القرآن، حيث سنجد ثلاث آيات تذكر كلمة عورة، وعورات.
الأولى، وهي الآية 31 من سورة النور، التي تختص بعورات النساء، ولا حاجة لنا بها هنا. الثانية الآية 58 من نفس السورة، المتعلقة بالأمر "لِيَسْتَأْذِنكُمُ" أشخاص محددون في ثلاثة أوقات (ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ) من اليوم في الدخول إلى مواضع النوم، أما في غير هذه الأوقات فلا عورة. وبالعودة إلى التعبير الصعب، فلا أحد ينكر أن الوثائق والمعلومات الشديدة الأهمية يجب أن تصان، لكن لوقت معلوم ومعقول، فأي عقل يمنع وثائق هزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967، أو غيرها من الأحداث ذات الأهمية التاريخية القصوى حتى يعرف
المصريون ما حدث لوطنهم.
أما الثالثة فهي الآية 13 من سورة الأحزاب، المتصلة بموقف جرى في غزوة الخندق (يوم الخندق- السنة الخامسة للهجرة)، حيث قالت طائفة من أهل يثرب للنبي "إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ"، بدعوى أن بيوتهم "سائبة ضائعة وليست بحصينة، ممكنة للسراق لخلوها من الرجال". وتذكر التفاسير "إنما كان قولهم ذلك لأنهم كان يريدون بذلك الفرار من القتال"، وأن القرآن يكشفهم "وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً".
يجزم السيسي وينبه: "المعلومات عورة"، مستدعيا، بلا مواربة وبالضرورة، في ذهن البعض دلالاتها المعنوية وليست الحسية. فمن سينفى عن المعلومات هذا الوصم فكأنه يرد عليه: "إن يريد إلا فرارا"، فمما يفر السيسي؟
هل الأمر متعلق بحرية تداول المعلومات؟
هناك نص دستوري، وهو المادة (68) التي تنير ما تبقى من الموضوع، ففقرتها الأولى تنص على أن: "المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية". لا لبس هنا، الدستور صريح، كأنه يستبطن "مَا هِيَ بِعَوْرَةٍ". الفقرة الثانية تنص على: "وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدا". لكن الدولة لا تتعجل وضع القانون، تنفق وتبني "عقلها"، وتهمل القانون الناظم له. يريد السيسي أن يرسخ المسافة بين نصوص الدستور والواقع بمثل هذه الفلتات والممارسات.
في الممارسة، وكما يذكر التقرير السنوي لمؤسسة حرية الفكر والتعبير عن حالة حرية التعبير في مصر عام 2020، المعنون "عزلة مستمرة"، أبرزت جائحة كوفيد 19 وتداعياتها "الحاجة المضاعفة إلى الحق في الوصول إلى المعلومات وتداولها، وأهمية وجود صحافة مهنية تمارس عملها بحرية في تداول المواضيع والقضايا العامة وعرضها لجمهور المواطنين، والرقابة الشعبية لأداء السلطة التنفيذية ومساءلتها". لكن عقل الدولة ومنطقها الحاكم المتمادي في اعتبار المعلومات عورة منع تداول المعلومات المرتبطة بالجائحة، حيث "عملت جهات رسمية مثل: النيابة العامة، والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ومجلس الوزراء، على تهديد وسائل الإعلام والصحافة بشكل مباشر باللجوء إلى إجراءات تأديبية وبالملاحقة القانونية؛ حال محاولة أي منها تقصي الحقائق أو نشر المعلومات غير تلك التي تصدر عن الجهات الرسمية رغم ندرتها وعدم ملاءمة إتاحتها".