هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الفلسطيني الذي خرج على ذراع أمه من قريته أو مدينته في سنة النكبة، 1948، أصبح عمره الآن 73 عاماً. وقد رحل عن الدنيا الكثيرون من ذلك الجيل – والعمر للباقين. وقبلهم، رحل معظم الذين كبروا قليلاً هناك حتى سجلت ذاكراتهم بعض تفاصيل المشهد. لكن معظم الفلسطينيين، سواء كانوا النازحين في الداخل المحتل، أو المنفيين خارج الوطن، لم يعيشوا أبداً على ترابهم الوطني، ولم يكن لهم أي تواصل حسّي مع أرضهم الخاصة.
والفلسطينيون جميعاً يعيشون على أرض ما – بالمعنى الحَرفي للأرض- بعضهم في فلسطين 1948، وآخرون في فلسطين 1967، والكثيرون لهم أراض وبيوت وشقق وأملاك مسجلة في كل أماكن الشتات. لكن الفلسطينيين سيقولون لك إنهم بلا أرض ولا سماء برغم كل شيء. ثمة شيء كبير ناقص في أي أرض ليست في فلسطين الحُرة من التهديد والغرباء.
* * *
الأرض الحرة في وطن حر مكون أساس للهوية. إنها ليست التراب والصخور وأي شيء قد يستقر تحتهما أو فوقهما. إنها كينونة تديم –ويديمها- الناس والثقافة. وفي كل مكان يصبح فيه الناس «الشعب الأصلي» الذي استولى على وطنه أناس غير أصليين، سيشعر الأصليون أنهم بلا أرض، حتى لو كانوا يعيشون داخل حدود الوطن. إنهم يكونون غير مستقرين ومستهدفين بالإبادة والإلغاء وطمس هويتهم التاريخية جملة وتفصيلاً.
فرادة الخبرة الفلسطينية، الفرادة التي تجعل الألم لا يُحتمل، هي أن الفلسطيني المنفي لا يمتلك غالباً حتى خيار التلامس مرة واحدة مع الأرض التي له فيها امتداد روحي وتاريخي. الهنود الحمر، والأستراليون الأصليون، والجنوب أفريقيون وأي شعوب أصلية، سيقولون إن أرضهم سُرقت منهم، لكنهم يظلون «مواطنين» في أوطانهم، يعيشون فيها أو يعودون إليها للزيارة أو الإقامة بجواز سفر منها -مهما تكن درجة المواطنة.
ليس الفلسطينيون حتى «شعباً أصلياً» بهذه المواصفات. معظمهم لا يمتلكون خيار الزيارة أو الإقامة على أي جزء من أرضهم التاريخية. إنهم مقتلعون، فيزيائياً، من جذورهم ومتروكون في العراء. وأكثر من نصفهم يعيشون أعمارهم مع الحنين وشعور قاهر بالنقص. لا يرون الوطن سوى في الصور والقلب -وربما يجلب لهم أحد حفنة من ترابه في كيس صغير. الفلسطينيون كلهم بلا استثناء تحت الاحتلال وموضوعات لاستلاب مُطلَق.
* * *
من المفارقات أن أكثر الناس اقتراباً من خبرة الفلسطينيين مع الأرض، هم بعض اليهود العرب الذين انضموا –لمختلف الأسباب- إلى كيان الاحتلال وأعطيت لهم أرض الفلسطينيين في «الوطن» الجديد.
سوف ترى يهودياً عراقياً عجوزاً ينتحب عندما يجلب له أحد حفنة من تراب العراق، وسيقول إنه مستعد للتخلي عن كل شيء إذا أتيحت له «العودة» إلى حارته وبيته وجيرانه هناك. وستجد بعضهم متشبثين بلهجاتهم ورموزهم الثقافية العربية، ويحنّون بأقصى ما يكون الحنين إلى الأرض ويجاهرون بهذه العاطفة وربما يورثونها لأبنائهم. لقد أعطوهم أرض الفلسطينيين وبيوتهم -أعطوهم «وطناً»- لكنهم يشعرون هم أيضاً بأنهم بلا أرض.
ومع ذلك، في لحظة ما، سوف تجدهم في الجبهة ضد الفلسطيني؛ ناشطين في تجريده من أرضه تحت فوهة بندقية جاهزة! هذه هي التركيبة الغريبة لأحوال الإنسانية.
* * *
الآن، بعد 73 من بدء النكبة الفلسطينية المتواصلة، تصغر باستمرار مساحة الأرض التي يُحتمل أن تكون فلسطين ويتقلص حتى الحلم نفسه. وآخر من يُستشار الفلسطينيون المعنيّون. وآخر من يستشيرهم «الفلسطينيون الرسميون» الذين يبدو أنهم فوتوا علاقة مواطنيهم –أو أي إنسان- بالأرض. هؤلاء يشاركون، لدى التنازل عن كل شبر إضافي من الأرض، في الحكم على فلسطيني آخر بالعيش الأبدي مع ذات مشوهة وناقصة.
سوف تتكثف فقط أحزان الفلسطيني في «يوم الأرض» بينما يتذكر الآخرون ما يعيشه هو كحياة. وقد تذكرتُ في المناسبة مقطعاً من قصيدة نزار قباني، أنشدتها أم كلثوم في العام 1968:
«أصبحَ عندى الآنَ بندقية.. إلى فلسطينَ خذونى معكم/ إلى رُبىً حزينةٍ كوجهِ مجدليّة/ إلى القبابِ الخُضرِ.. والحجارةِ النبيّة/ عشرونَ عاماً.. وأنا/ أبحثُ عن أرضٍ وعن هويّة/ أبحثُ عن بيتي الذى هناك/ عن وطني المحاطِ بالأسلاك/ أبحثُ عن طفولتي.. وعن رفاقِ حارتي..عن كتبي.. عن صوري.. عن كل ركنٍ دافئٍ.. وكل مزهريّة/… إلى فلسطينَ طريق واحد/ يمر من فوهة بندقية».