هناك خيط متصل للتصريحات التركية الهادئة إزاء النظام السياسي
المصري، بدأت نهاية العام الماضي، عندما أعلن وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو أن بلاده ومصر "تسعيان إلى وضع خارطة طريق بشأن علاقاتهما الثنائية". وفي تصريحات لوزير الدفاع التركي في السادس من آذار/ مارس الجاري، قال أكار: "إن
تركيا ومصر لديهما قيم تاريخية وثقافية مشتركة"، معربا عن ثقته بأن تفعيل هذه القيم يمكن أن ينعكس على حدوث تطورات مختلفة في الأيام المقبلة. وأكد أن القرار المصري المتمثل باحترام الصلاحية البحرية التركية بالمتوسط، يصب كذلك في مصلحة حقوق ومصالح الشعب المصري. وأعرب وزير الدفاع التركي عن اعتقاده بإمكانية إبرام اتفاقية أو مذكرة تفاهم مع مصر في الفترة المقبلة، بما يتماشى مع اتفاق الصلاحية البحرية المبرم مع ليبيا، المسجل لدى الأمم المتحدة"، وذلك بحسب ما نقله عنه موقع دويتشة فيله الألماني.
وتأكيدا لهذه الرسائل، ذكر المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن أن مصر "قلب وعقل العالم العربي"، لتأتي بعد ذلك تصريحات الرئيس التركي في مؤتمر صحفي يوم 12 آذار/ مارس قال فيها: "إن تعاون تركيا مع مصر في المجال الاقتصادي والدبلوماسي والمخابراتي متواصل ولا توجد أي مشكلة في ذلك.. نريد استمرار اللقاءات الدبلوماسية مع مصر ونسعى لتطويرها، وعلاقاتنا معها جيدة.. إن الاتصالات مع مصر ليست على أعلى مستوى، لكنها عند المستوى التالي له مباشرة.. يحدونا الأمل في أن نتمكن من مواصلة هذه العملية مع مصر بقوة أكبر". ولم يسبق لتركيا أن بادرت بتصريحات إيجابية تجاه النظام المصري منذ انقلاب 2013.
لا بد من التنبيه إلى أن أي تقارب مع أي دولة، بخلاف دولة الاحتلال، أمر مرغوب، طالما أنه تقارب لا يكون على حساب كرامة الشعوب أو يضر بها، فإذا كان التقارب مع دولة يربطنا بها تاريخ مشترك وتقارب ثقافي، فدعم توجهات التصالح أوْجَب
في مقابل التصريحات التركية رفيعة المستوى، خرج تصريحان من الجانب المصري، أحدهما لوزير الخارجية الذي تحدث عن رغبة مصر في رؤية "أفعال" تؤكد التوجهات التركية، والآخر لوزير الإعلام الذي رحب
بالتوجيهات التركية للقنوات المصرية المعارضة، وهي التوجيهات التي ستؤكد الأيام القادمة صورتها، نظرا لوجود لبس في التصريحات بين كونها "للالتزام بالمعايير المهنية"، أم "منع البرامج السياسية".
التساؤل الرئيس هنا هو: هل ستصل هذه الحالة الجديدة إلى مرحلة تطبيع
العلاقات بين البلدين؟
قبل الإجابة، لا بد من التنبيه إلى أن أي تقارب مع أي دولة، بخلاف دولة الاحتلال، أمر مرغوب، طالما أنه تقارب لا يكون على حساب كرامة الشعوب أو يضر بها، فإذا كان التقارب مع دولة يربطنا بها تاريخ مشترك وتقارب ثقافي، فدعم توجهات التصالح أوْجَب. وللأسف ضاع هذا المعنى في ظل الخصومة السياسية المتجاوزة لكل الحدود، كما أن هناك من لا يرضيه وجود التقارب لأنه قد يأتي على رزقه الذي يتكسّب منه.
أما مآلات هذه الحالة، فالحق أن الجواب لا يتأتّى بمجرد السلب أو الإيجاب؛ فهناك عوائق عديدة موجودة، وهناك عوائق أخرى ستُصنع لمنع هذا التقارب، وعملية التفاعل معها ستحكم الإجابة النهائية التي نرجو أن تكون في صالح شعبي الدولتين، بغض النظر عن النظام السياسي فيهما.
تفكيك هذا التحالف ليس بالأمر الهيّن، لكن الملاحظ أن السعودية بدأت بدرجة ما في أخذ خطوة بعيدة عن التحالف في قرار إنهاء المقاطعة ضد قطر، كما صدرت تصريحات تركية إيجابية تجاهها، الأمر الذي يشير إلى بدايات ضعف سيطرة الإمارات على القرار العربي
العوائق الموجودة التي تحتاج إلى التغلب عليها، أولها العلاقات المصرية- الإماراتية- السعودية، فهذا الثلاثي صنع تكتلا أضرّ بتطلعات الشعوب، وشارك في مهاجمة تركيا ومحاولة الانقلاب في 2016 وإن كان بتفاوت في الأدوار. وتفكيك هذا التحالف ليس بالأمر الهيّن، لكن الملاحظ أن السعودية بدأت بدرجة ما في أخذ خطوة بعيدة عن التحالف في قرار إنهاء المقاطعة ضد قطر، كما صدرت تصريحات تركية إيجابية تجاهها، الأمر الذي يشير إلى بدايات ضعف سيطرة الإمارات على القرار العربي.
ثم هناك تقارير صحفية عديدة تتحدث عن "فتور" مصري خليجي في بعض الملفات، منها التدخل الإماراتي الفج في القضية الفلسطينية عبر بوابة التطبيع، الأمر الذي يهمّش مصر تدريجيا في القضية الفلسطينية، أيضا، الحديث عن شراكات تجارية ولوجيستية إمارتية- صهيونية تُضعف من مكانة قناة السويس، كما أن "الرز الخليجي" لم يعد ممنوحا كما كان من قبل، وهي عوامل أدت إلى فتور مصري خليجي. ويبدو أن الأتراك قرروا محاولة ملء بعض من الفراغ الذي تنسحب منه الشراكة المصرية- الإماراتية، والاستفادة من المشترك بين تركيا ومصر، سواء في مسائل الاشتباك المباشر كملف ليبيا وملف التنقيب في شرق المتوسط، أو مسائل الاهتمام المشترك مثل القضية السورية.
ثاني العوائق، هو إرث الخلاف بين النظامين السياسيين، وهو خلاف ضرب في أعماق العلاقة بين الشعبين، نظرا لحملات التحريض التي كان يشنها الإعلام المصري المحلي ضد النظام السياسي في تركيا، أيضا التشفي في اللحظات الأولى من محاولة انقلاب 2016، وبلغ الإعلام المصري خلال تلك الفترة قاع الانحطاط في التعامل مع الخلاف التركي.
تجدر الإشارة إلى أن الحديث هنا عن الإعلام المصري فقط، لأن كاتب السطور لا يقدر على متابعة الإعلام التركي باللغة التركية، بينما لم ينزلق الإعلام التركي الناطق بالعربية إلى مزالق الإعلاميين المصريين.
سنجد مقاومة لعملية إعادة العلاقات بين البلدين، خاصة من الوكيل الصهيوني في المنطقة (نظام الإمارات)، وقد يتم تفجير التفاهمات، إما عبر إشعال الأوضاع في ليبيا، أو الضغط على اليونان وقبرص لاتخاذ إجراءات أحادية في ملف الغاز، أو غير ذلك
ثالث العوائق، هو خطاب الرئيس التركي
أردوغان عن
السيسي بازدراء، وهو أمر يصعب على السيسي تجاوزه، وهو المشهور بالانتقام من كل مَن أساء إليه.
إزاء هذه العوائق، فلا بد أننا سنجد مقاومة لعملية إعادة العلاقات بين البلدين، خاصة من الوكيل الصهيوني في المنطقة (نظام الإمارات)، وقد يتم تفجير التفاهمات، إما عبر إشعال الأوضاع في ليبيا، أو الضغط على اليونان وقبرص لاتخاذ إجراءات أحادية في ملف الغاز، أو غير ذلك من ملفات الاشتباك التركي- المصري، فضلا عن أن هذا التقارب لن يكون مريحا للصهاينة أبدا.
كذلك هناك المنتفعون من الخلاف المصري التركي من الإعلاميين المصريين، وربما تجري محاولات لإحراج تركيا، عبر وضعها أمام أحد أمرين؛ إما الإخلال بالتزاماتها مع مصر في ضبط وترشيد الخطاب الإعلامي للمعارضين المصريين، أو اضطرار السلطات التركية إلى إلغاء برامج أو قنوات أو حتى
إنهاء إقامة بعض المصريين، الأمر الذي يخصم من رصيدها الذي اكتسبته بين ملايين المظلومين في المنطقة العربية.
لضمان استمرار حالة التهدئة، ونقلها إلى مرحلة إعادة تطبيع العلاقات السياسية، تحتاج السلطات المصرية قبل التركية إلى إدراك أن عدم التوافق في كل الملفات لا يستدعي القطيعة، بل هناك منافع مشتركة للشعوب والأنظمة السياسية، وهذه المنافع تستحق السعي من أجلها وتجاوز نقاط الإشكال الخارجة عنها، كما أن المكاسب المصرية من العلاقات مع تركيا، ستطال ملفات ليبيا وغاز شرق المتوسط وأيضا التهدئة الإعلامية، وقد خسرت مصر بجدارة معركتها ضد الإعلام المعارض في تركيا، رغم ضخامة المخصصات المالية الرسمية، ومحدودية القدرات للقنوات المعارضة.
كما ستكسب تركيا تخفيف الطوق حولها في ملفات الغاز، والتخفيف الجزئي لدعم التنظيمات المعادية لها في البلدان المجاورة، وهي أدارت هذه النقطة بحرفية عندما نقلت نفسها إلى الجوار المصري عبر الملف الليبي، الأمر الذي دفع الطرفين للتفاهم أخيرا.
إن
مصالح الشعوب لا ينبغي أن تقف عند هوى الحكام، ومجرد تغيير الخطاب الإعلامي الذي أدى إلى شحن العلاقات بين البلدين، أمر ينبغي الاحتفاء به.
twitter.com/Sharifayman86