تأثر
الاقتصاد التركي كغيره من الاقتصادات بالعالم بتداعيات جائحة كورونا، حيث تراجعت أعداد السياح الواصلين بنسبة 70 في المئة، مما أدى لتراجع إيرادات السياحة ومجمل الصادرات الخدمية عموما، وتراجعت حصيلة الصادرات السلعية في حين زادت قيمة الواردات السلعية، ليرتفع العجز المزمن بالميزان التجاري السلعي.
وتحول ميزان المعاملات الجارية إلى العجز الكبير بعد أن كان محققا فائضا عام 2019، ونفس الحال للحساب المالي الذي تحول للعجز بقيمة كبيرة بعد تحقيقه فائضا عام 2019، مما أدى لتحول الميزان الكلي للمدفوعات إلى العجز بقيمة كبيرة، مما أدى لانخفاض الاحتياطيات من النقد الأجنبي، وزيادة الاقتراض الخارجي قصير الأجل.
وتراجعت قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي، مما دفع السلطات النقدية لزيادة معدل الفائدة إلى 19 في المئة، وتغيير محافظ المصر المركزي عدة مرات خلال العامين الأخيرين، وارتفعت نسبة التضخم لتقترب من 16 في المئة لتتآكل القوة الشرائية للمواطنين، مع استمرار تخطي نسبة البطالة 12 في المئة، الأمر الذي دفع السلطات التركية إلى اتخاذ أسلوب التهدئة بالعلاقات الدولية، بداية من الحوار مع اليونان لإتاحة المجال للبحث عن الغاز بشرق المتوسط، وتحسين العلاقات مع الرئيس الفرنسي حيث ظلت فرنسا لسنوات تمثل الشريك التجاري السابع لتركيا وتراجعت للمركز الثامن في العام الماضي.
كما يهمها قوة العلاقات مع ألمانيا الشريك التجاري الأول لعدة سنوات، والسعي للتهدئة مع الولايات المتحدة الشريك التجاري الخامس، ومع مصر التي انخفضت قيمة صادراتها إليها بالعام الماضي، وكذلك مع السعودية والإمارات للاستفادة من وارداتهما الكبيرة السلعية والخدمية ومن الأسلحة، ولتفادي صيحات مقاطعة المنتجات التركية التي ظهرت في البلدين.
في مسعى مشابه لما قام به المفكر أحمد داوود أوغلوا عام 2009 عندما تولى وزارة الخارجية، بإعلانه سياسة زيرو مشاكل مع الدول المجاورة للتفرغ لعملية البناء الاقتصادى، وسعيا حاليا لحل مشاكل التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط والذي تحتاجه
تركيا، التي تصل نسبة إكتفاءها من الغاز الطبيعي أقل من 1 في المئة، وهو الغاز الذي تحتاجه أوروبا أيضا لكسر هيمنة روسيا في عملية إمدادها بالغاز الطبيعي.
الناخب التركي سبب تغيير السياسات
وبعد أن أصبحت الظروف الاقتصادية الصعبة لا تمكنها من الاستمرار في سياسة التدخل الخارجي في أكثر من جبهة، حيث تدخلت بقواتها في ليبيا وسوريا وأذربيجان إلى جانب دخول الحدود العراقية، في بعض الأحيان لمطاردة أتباع حزب العمال الكردستاني، كذلك لا تستطيع أن تواصل معوناتها الخارجية التي بلغت 8.7 مليار دولار عام 2018.
أيضا مع اقتراب الانتخابات التركية في عام 2023، والتي سيخوضها حزب المستقبل برئاسة أحمد داود أوغلو، رئيس الورزاء الأسبق، وحزب الديمقراطية والتقدم الذي شكله وزير الاقتصاد السابق علي باباجان، مهندس النهضة الاقتصادية، وهما القياديان الخارجان من حزب العدالة والتنمية، مما يعني حصولها على أصوات على حساب الحزب في الانتخابات المقبلة، أخذا في الاعتبار ما حدث من إخفاق رئيس الوزراء السابق في الفوز بانتخابات بلدية إسطنبول رغم إعادة الانتخابات، ودلالاته.
ويمكن استعراض أهم المشاكل الاقتصادية التركية في الوقت الحالي:
- أولا: زيادة العجز التجاري بنسبة 69 في المئة خلال عام 2020 بالمقارنة بعام 2019، حيث تراجعت قيمة الصادرات بنسبة 6 في المئة إلى 169.5 مليار دولار، في حين زادت قيمة الواردات السلعية بنسبة 4 في المئة لتصل إلى 219 مليار دولار، ليتحقق عجز تجاري بقيمة حوالي 50 مليار دولار، مقابل عجز بلغ 29.5 مليار دولار في عام 2019.
وشهدت صادرات المنتجات البترولية تراجعا بنسبة 44 في المئة، والسيارات تراجعا بنسبة 18 في المئة، والحديد والصلب 12 في المئة، وكل من الملابس المحبوكة والأحجار الكريمة والمعادن النفيسة والألومنيوم ومصنوعاته بنسبة 9 في المئة، والمعدات الكهربية بنسبة 5 في المئة.
وعلى الجانب الآخر زادت قيمة واردات الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة بنسبة 99 في المئة، والسيارات وقطع الغيار 53 في المئة، والآلات وأجزائها 14 في المئة، والبذور الزيتية 13 في المئة، والمعدات الكهربائية وأجزائها 11 في المئة، والسلع الكيماوية بـ9 في المئة.
72 في المئة تراجع عدد السياح الواصلين
- ثانيا: تراجع الإيرادات السياحية بنسبة 66 في المئة بالمقارنة لعام 2019، لتصل إلى 10 مليارات دولار مقابل 30 مليار دولار في العام الأسبق، حيث انخفض عدد السياح الأجانب الواصلين إلى 12.7 مليون سائح، مقابل 45 مليون سائح بنسبة تراجع 72 في المئة، بعد أن كانت تركيا تحتل المركز السادس دوليا من حيث عدد السياح في العالم عام 2019، والخامسة عشرة بالإيرادات السياحية في نفس العام.
وشهدت الدول الرئيسة الموردة للسياحة لتركيا نسب تراجع ضخمة في أعداد سياحها، بلغت 88 في المئة للقادمين من السعودية، و82 في المئة للقادمين من إيران، و79 في المئة من جورجيا، و78 في المئة من ألمانيا، و76 في المئة من هولندا، و70 في المئة من روسيا التي عادة ما تحتل الصدارة في عدد السياح الواصلين، ونفس نسبة التراجع من إنجلترا.
ولم تكن خدمات السياحة الوحيدة التي شهدت انخفاضا بإيراداتها في العام الماضي، بل واكبتها انخفاضات في إيرادات خدمات النقل والتشييد والبناء وخدمات التصنيع، علاوة على العجز في إيرادات خدمات التأمين والمعاشات والخدمات المالية، ورسوم الانتفاع بالملكية الفكرية والخدمات الحكومية، ليصل مجمل الإيرادات الخدمية لأقل من 35 مليار دولار مقابل حوالي 64 مليارا في العام السابق، بنسبة تراجع 46 في المئة.
- ثالثا: ارتفاع نسبة التضخم إلى 15.6 في المئة بشهر شباط/ فبراير الماضي، والتي اتخذت مسارا صعوديا منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019 حين كانت النسبة 8.5 في المئة، الأمر الذي دفع المصرف المركزى لزيادة معدل الفائدة حتى وصلت إلى 19 في المئة مؤخرا، بعد أن كانت 8.25 في المئة في أيلول/ سبتمبر الماضي.
ورغم الوعود الحكومية بخفض نسبة التضخم، إلا أن هناك عاملين يجعلان هذا صعبا، أولهما: ارتفاع أسعار الطاقة في الأسواق العالمية في دولة تعتمد بشكل رئيس على استيراد الطاقة، حيث تصل نسبة الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي أقل من 1 في المئة، ومن النفط أقل من 6 في المئة ومن الفحم 41.5 في المئة. ولهذا شكلت واردات الوقود المكون الأكبر من قيمة الواردات بنسبة 13 في المئة من مجملها، رغم انخفاض أسعار النفط والغاز والفحم في العام الماضي.
لكننا نجد سعر برميل برنت يصل في شباط/ فبراير الماضي 62 دولارا للبرميل مقابل 42 دولارا في العام الماضي، وسعر المليون وحدة حرارية بريطانية من الغاز الطبيعي في أوروبا أكثر من ستة دولارات مقابل 3.2 دولار في العام الماضي، وسعر طن الفحم الأسترالي حوالي 87 دولارا مقابل 61 دولارا في العام الماضي.
والسبب الثاني هو فورة أسعار العالمية في الوقت الحالي، والذي عبر عنها مؤشر أسعار الغذاء، الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة عن شهر شباط/ فبراير، باستمرار المؤشر في الارتفاع للشهر التاسع على التوالي، بسبب زيادات أسعار منتجات الألبان واللحوم وزيت النخيل وزيت الصويا والحبوب خاصة الذرة.
وأشارت بيانات البنك الدولي لنفس فترة المقارنة؛ إلى زيادة أسعار الأسمدة والمعادن الأساسية والمعادن النفيسة والمواد الخام والأخشاب.
- رابعا: استمرار ارتفاع نسبة البطالة، حيث بلغت 12.2 في المئة بشهر كانون الثاني/ يناير الماضي، منخفضة قليلا لدى الذكور إلى 11.4 في المئة و14.1 في المئة بين الإناث، ليصل عدد العاطلين عن العمل إلى ثلاثة ملايين و861 ألف شخص، منهم 2.4 مليون من الذكور و1.4 مليون من الإناث.
إلا أن الأمر المهم خاصة للانتخابات المقبلة هو بلوغ نسبة البطالة بين الشباب من سن 15 إلى 24 سنة؛ 24.7 في المئة، تنخفض إلى 21.9 في المئة للذكور من الشباب وترتفع إلى 30.3 في المئة للشابات.
برنامج اقتصادى جديد
- خامسا: الصورة ليست قاتمة تماما. فرغم صعوبة المشاكل التي استعرضنا بعضها وحالت مساحة النشر لاستكمالها، إلا أن هناك جوانب إيجابية أيضا منها تحقيق تركيا نموا موجبا في العام الماضي بنسبة 1.8 في المئة، بينما حدث انكماش في غالبية دول مجموعة العشرين، حتى تكاد الصين وتركيا تكونا وحدهما اللتين حققتا نموا موجبا بين دول المجموعة.
وإذا كانت الديون الخارجية قصيرة الأجل قد زادت من 117 مليارا دولار بنهاية عام 2018، إلى 123 مليار بنهاية عام 2019 ثم إلى 138.5 مليار بنهاية العام الماضي، ثم ارتفاعها إلى 140.3 مليار بشهر كانون الثاني/ يناير الماضي، فإن نصيب القطاع العام من تلك الديون 28 مليار دولار فقط، ونصيب الحكومة العامة صفر، بينما بلغ نصيب القطاع الخاص 89 مليارا، منها 32 مليار دولار للمصارف الخاصة.
وإذا كان سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار الأمريكى قد شهد أقصى انخفاض له في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي إلى 8.58 ليرة، فقد بلغ السعر 7.27 ليرة يوم السبت الماضي بعد رفع سعر الفائدة.
وإذا كان العام الماضي قد شهد
نمو العجز التجاري، فإن العجز التجاري قد انخفض خلال شهر كانون الثاني/ يناير من العام الحالي بنسبة 8 في المئة، رغم الانخفاض الطفيف للصادرات بسبب نقص الواردات 8 في المئة، كذلك انخفض العجز بميزان المعاملات الجارية بنسبة 8 في المئة خلال الشهر بالمقارنة بنفس الشهر من العام الماضي.
وإذا كانت نسبة البطالة 12.2 في المئة بشهر كانون الثاني/ يناير، فإنها أقل مما كانت عليه بنفس الشهر من عام 2020 حين بلغت 12.8 في المئة، وأقل مما كانت عليه بنفس الشهر من عام 2019 حين بلغت 13.5 في المئة.
وها هي الحكومة تعلن مؤخرا عن برنامج اقتصادي جديد يتضمن لجنة للاستقرار المالي، ولجنة لاستقرار الأسعار، ومجلس تنسيق اقتصادي، ولجان لتحسين حوكمة الشركا، ومنع التبذير في الإنفاق الحكومي، وإعادة هيكلة المؤسسات الاقتصادية الحكومية، وتشجيع الطاقة الخضراء، مع اتجاه لدخول تركيا بديلا عن الشرق الأقصى لتأمين سلاسل التوريد للدول الأوروبية في ظل تداعيات الجائحة، وفتح الباب أمام
الاستثمار الأجنبي استنادا إلى القوة العاملة التركية ذات الخبرة بالمقارنة بدول أوروبا الشرقية.
وها هي مؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني ترفع توقعاتها لنمو الاقتصاد التركي في العام الحالي إلى 6.7 في المئة، من توقعات سابقة لها بلغت 3.5 في المئة.
twitter.com/mamdouh_alwaly